اختار المتظاهرون ضد نظام الجنرال نوريجا قائد الجيش الذي حكم البلاد من خلف الستار اللون الأبيض لمظاهراتهم، كانوا يسيرون في الشوارع بمئات الآلاف مرتدين الثياب البيضاء، كما حصرت النساء على نشر كل مفارشهم البيضاء في شرفات المنازل.
ومع ذلك قابلهم الجيش بقمع كبير، ضربوا قنابل داخل البيوت وأطلقوا النار على النوافذ، ومع ذلك استمر المتظاهرين في الشوارع لمدة عامين تقريبا، وبشكل سلمي واستخدموا كل السبل لاسقاط نوريجا الذي عين الرؤساء وتحكم في البلاد بشكل مستبد من خلف الستار، ومع ذلك لم يتمكنوا من اسقاطه.
ثورة بنما البيضاء كانت بقيادة قطاع واسع من السياسيين ورجال الأعمال الذين انشقوا عن النظام وأمنوا بفكرة اللاعنف متأثرين بالثورة الفلبينية، حرصوا على عدم مواجهة عنف نظام نوريجا وعلى تلقي ضرباته العنيفة واحدة تلو الأخرى بصدور عارية ولم يزدهم ذلك إلا إصرار لعامين.
انضمت لهم الكنائس الكاثوليكية بعد فترة تردد وأصبحت ساحات حرة لتنظيم الناس خاصة بعدما رأت من قمع وقتل للمتظاهرين السلميين خلال توافد بعضهم على الصلوات التي دعت لها الكنائس ضد الحاكم العسكري.
تقول الإحصائيات أن 750 ألف مواطن بنمي من مجموع السكان (2 مليون) شاركوا في مظاهرات معارضة، وهذا يعني انتفاضة شعبية واسعة للغاية.
أكثر من ذلك امتنع رجال الأعمال عن دفع الضرائب، وامتنع العمال عن الذهاب للعمل، وتدخلت أميركا وفرضت حصار اقتصادي قوي للغاية على نظام نوريجا لإسقاطه، لدرجة أنها جمدت أموال البنوك البنمية في البنوك الأمريكية حتى عجز نوريجا عن دفع رواتب بعض موظفي الدولة مما دفعهم للتظاهر ضده.
والعامل الاقتصادي كان من أهم أسباب الثورة أصلا، لشعور الناس بانتشار الفساد وتراجع مستويات حياتهم الاقتصادية، بالإضافة لانتشار قمع الأمن وغياب الديمقراطية والحريات.
وقع انقلابان عسكريان على الأقل ضد نوريجا ولكنه نجا من كليهما واستمر في حكم البلاد وقبض على قادة المعارضة التي فشلت في الاستمرار بعد عامين من التظاهر، وفي النهاية تدخلت أمريكا عسكريا في بنما للإطاحة بنوريجا مما أدى لتدمير قواته ومقتل عدة ألاف من المواطنين والقبض على نوريجا ومحاكمته في أمريكا.
تدخل أميركا للإطاحة بنوريجا حصد إدانة دولية واسعة، ومثل أيضا نهاية لثورة بنما البيضاء التي استمرت عامين ولم تستطع حسم المعركة، فلماذا فشلت الثورة البنمية التي فعلت كل شيء، سلمية، ومظاهرات، ورفض دفع ضرائب، وإضرابات عامة، وحصار اقتصادي؟
يقول الخبراء أنها فشلت لثلاثة أسباب:
أولا يرى البعض أن قادة المظاهرات ظلوا من النخب السياسية والاقتصادية (ذات الياقات البيضاء) وأنه رغم انضمام نصف السكان تقريبا للمظاهرات إلا أن القيادة ظلت دائما نخبوية.
ثانيا وهو السبب الأهم، عجز قادة المظاهرات على التوغل داخل الجيش البنمي نفسه واقناعه بالتخلي عن نوريجا، أو بالأحرى نجاح نوريجا في الحفاظ على الجيش تحت قبضته رغم كل ما حدث.
ويقول الخبراء أن نوريجا نجح في الحفاظ على الجيش موحدا تحت قياداته والتغلب على محاولات الانقلاب المتكررة ضده لأنه باختصار حول الجيش إلى مافيا بالمعنى الحرفي.
فتحت قيادة نوريجا تحول الجيش لمؤسسة لها اقتصادها الخاص ضالعة بشكل عميق في الفساد وفي تجارة المخدرات والتجارة عبر الحدود، تحول الجيش البنمي لمافيا كان يعني أن الدخول فيه يعني استحالة الخروج منه، فلو خرجت منه سيتم قتلك، ليس من قادة الجيش أو المعارضة، ولكن من مافيا المخدرات والتهريب الشريك القوي للجيش، لأنك متى دخلت وسط المافيا بت تعرف الكثير للغاية، ولن يسمح لك بالخروج.
ولهذا لم يتخل نوريجا عن قيادة الجيش رغم الضغوط والاغراءات ولم يتخل عنه قادة الجيش، ومع كل محاولة انقلاب فاشلة أعادة نوريجا تنظيم قواته، وتقديم الأكثر ولاء، وتصفية المعارضين أو المشكوك في ولائهم، حتى قتل المئات من صغار الضباط في أحد الانقلابات الفاشلة.
وبسبب اقتصاد الجيش المستقل والقوي لم يتأثر قادته بالعقوبات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد ولم يشعروا بأثرها، فقد كان الجيش وقادته في معزل عنها ويعيشون في نعيم بسبب اقتصادهم المستقل، لذا فشلت العقوبات الاقتصادية والأزمة المالية في التأثير عليهم.
ثالثا: بسبب عداء بعض الدول لأمريكا الداعمة للثورة ضد نوريجا والمحاصرة له اقتصاديا أسرعت بعض الدول لمد العون لنوريجا ماليا، وعلى رأسها ليبيا وتايوان، واللذان مدا نظام نوريجا بدعم مالي هام عندما اشتدت العقوبات الاقتصادية عليه.
ولهذه الأسباب فشلت ثورة بنما البيضاء وعجزت عن الاطاحة بالجنرال العسكري المستبد الذي قتل المئات في الشوارع، ولم يتم الاطاحة به إلا من خلال تدخل عسكري خارجي زعزع استقرار البلاد لسنوات.
ما رأيكم!؟
http://www.amazon.com/gp/product/0199778213/ref=ox_sc_act_title_3?ie=UTF8&psc=1&smid=ATVPDKIKX0DER