المثقفون المصريون والشعور بخيبة الأمل: جلال أمين نموذجا
مقال بقلم: علاء بيومي
يمكن نشر المقال مع الإشارة إلى مصدره
www.alaabayoumi.com
نص المقال
سامح الله د. جلال أمين بعد أن ترك لقلمه العنان لكي تسيطر عبارة "خيبة الأمل" على سيرته الذاتية القيمة المنشورة تحت عنوان "ماذا علمتني الحياة؟" خاصة في فصلها الأخير، فالسيرة الذاتية الممتدة على حوالي 400 صفحة هي بمثابة قطعة أدبية رائعة تجمع بين الحكمة والتسلية بشكل لا يمل منه القارئ
ولكن لما وصلت إلى فصلها الأخير "البدايات والنهائيات" صدمت بعبارة "خيبة الأمل" التي تتبناها خاتمة الكتاب وكأنها تلخص خبرة أمين وخبرة جيله من المصريين بل والعصر الذي نعيش فيه، والمقلق هنا هو أن شعور جلال أمين بخيبة الأمل مقنع ومؤلم في آن واحد، فهو مقنع لأن د. أمين فصله باقتدار على أحوال المصريين والعالم في الوقت الراهن حتى تكاد لا ترى مفرا منه، وهو مؤلم لأنه شعور سائد بين كثير من المصريين والعرب وكنت تأمل أن يساعدنا مثقف كبير مثل جلال أمين في العثور على مخرج
مثلث خيبة الأمل
كتاب "ماذا علمتني الحياة؟" يحاصر القارئ عند الانتهاء منه بمثلث مغلق من "خيبة الأمل"، ضلعه الأول شخصي والثاني مصري والثالث أميركي
على المستوى شخصي، لما بلغ جلال أمين - المولود في عام 1935 - السبعين من عمره وشعر بما يشعر به أقرانه من أعراض الشيخوخة وفقدان الأحبة واقتراب الموت وعدم الخوف منه اقتنع بأن الحياة لا تستحق أي سرور أو حزن عميقين
فالإنسان - كما يرى أمين - قادر على التغلب على أي أزمة يمر بها بما في ذلك موت الأحبة، كما أن الأزمات التي يمر بها الإنسان في حياته هي في الحقيقة أمور بسيطة لن تؤثر عليه على المدى الطويل، وينطبق الأمر نفسه على الفرص التي قد تحين للفرد، فالإنسان في شبابه قد يشعر بأن الحصول على وظيفية ما أو زوجة بعينها أو فرصة سنحت له هي مفتاح السعادة في الحياة، ولكنه لو انتظر قليلا لأدرك أن الأمور تتساوى على المدى البعيد وأن الإنسان لا يحتاج في حياته إلا إلى أقل القليل، ولعرف أنه يضني نفسه طوال الحياة سعيا وراء أشياء كثيرة هي في الحقيقة عبء عليه
ضلع المثلث الثاني مصري، فأمين يكن قدرا كبيرا من السخط على جيله "جيل الثورة المصرية" فهو يشعر أن وعيه السياسي تفتح مع بداية الثورة المصرية وأن "عمره السياسي" هي تحديدا عمر الثورة، وأن الثورة خذلته وخذلت المصريين وأشعرهم جميعا بخيبة الأمل بعدما عجزت عن تحقيق النمو الاقتصادي أو الاستقلال الثقافي أو تحرير فلسطين
كما أن الثورة حولت مصر إلى دولة بوليسية في عصر عبد الناصر حتى أن عبد الحميد شقيق جلال أمين استقال من وظيفته وهو في ريعان شبابه وفي قمة عطاءه خوفا من ضررا قد يصيبه بعدما أشعرته الثورة - كما أشعرت الكثير من المصريين في تلك المرحلة - بأن هناك من يراقبه في كل حركاته ويترصد له
كما تحولت مصر إلى دولة رخوة في عصر السادات، فقد بدأت نهاية جيل الثورة مع هزيمة 1967 ومثلت سياسات الانفتاح التي تبناها السادات إعلان النهاية والاستسلام والانقلاب على ما حققته الثورة من منجزات، ويقول أمين أن مبارك يسير على طريق السادات ولكن بخطى بطيئة وبلا ضجة أو صخب
كما يقول أن سياسات الانفتاح والسياسات التي تبعتها حولت المصريين من شعب يعمل لخدمة نفسه إلى شعب يعمل لخدمة الأجنبي في الداخل أو الخارج، في الخارج من خلال السفر إلى دولة خليجية أو غربية، وفي الداخل من خلال العمل لدى شركة أو مؤسسة أجنبية، وبالطبع كل هذه المؤسسات تخدم أوطانها، وباتت مصر بلا أحد يخدمها
ويشعر د. أمين بأن السياسة في مصر لا ترحب بأصحاب الرأي المستقل أو الأفكار الراسخة، فهي تبحث عن أشخاص لا يملكون أي أفكار عميقة أو معتقدات لها جذور، ويتساءل عن جدوى العلم والمعرفة في غياب فرص الإصلاح
كما ينظر أمين بإحباط على أحوال أساتذة الجامعات المصرية، ويرى أن قليل منهم يستحق أن ينظر إليه على أنه مثقف أو مفكر له رؤية خاصة تجاه الحياة، وأن أغلبهم في حقيقة الأمر أشخاص عاديون يمتهنون التدريس الجامعي ويشغلهم السعي وراء المادة وتدبير الرزق ويصيبهم ما أصاب المصريين من تراجع وتردي في التفكير والثقافة والنظر للحياة
كما يبدي أمين سخطه الشديد على المذلة والمهانة التي يتعرض لها المثقف والأستاذ الجامعي على أيدي الحكام وأصحاب السلطة بعد ما شاهده خلال حياته من أمثلة على ذلك
ويقول أن أوضاع مصر والمصريين في نصف القرن الماضي أشعرته كما أشعرت كثير من المصريين بالإحباط وخيبة الأمل وتراجع الثقة في الذات ودفعته إلى التفكير في ترك البلد كما حدث في منتصف السبعينيات حينما قرر الذهاب للعمل في الكويت ثم في أميركا، ولكنه سرعان ما قرر العودة إلى مصر بعدما شعر بأن صخب الحياة في مصر وآلامها هما مصدر إلهامه وأفكاره، ولكنه يقر بأن أحوال المصريين ولدت شعورا بالحزن والإحباط اعتلى وجوه أقاربه ومعارفه والمصريين بوجه عام
أما الضلع الثالث والأخير لمثلث "خيبة الأمل" الذي يتحدث عنه أمين، فهو ضلع أميركي غربي، حيث يصف جلال أمين العصر الراهن بأنه عصر "أميركي" شهد خروج أميركا للعالم وسيطرتها عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن أمين لا يكن كثيرا من الاحترام أو التقدير للثقافة الأميركية، فهو يرى أنها ثقافة سطحية يطغى فيها الكم على الكيف، وموجهة بالأساس إلى خدمة الإنسان المتوسط الذكاء من خلال مشاريع استهلاكية عملاقة تسخر التكنولوجيا الحديثة من أجل توفير أكبر عدد من السلع بأقل الأسعار لأكبر عدد من الناس، ومن ثم تفتقر للإبداع خاصة على المستوى الثقافي
كما يرى أمين الأميركيين كشعب محتار دائما في حالة حركة دءوبة بلا هدف حقيقي سوى مزيد من الحركة والقناعة بأنهم شعب ناجح متميز قادر على أن يحكم نفسه ويمتلك مصيره في يديه، وفي الحقيقة – كما يرى أمين – يفتقر الأميركيون لشعور راقي بالثقافة، كما أنهم يتحركون أكثر من اللازم ويفتقرون النظرة العميقة للأمور، فهم عكس المثل القائل "في الحركة بركة"، كما أن الأميركيين لا ينظرون نظرة عميقة لنظامهم السياسي فهم أسرى للمؤسسات والنخب الكبرى التي تسيطر على مؤسسات صناعة القرار الأميركي، ومع ذلك يشعر الأميركيون بثقة مفرطة في النفس ليس لها ما يبررها في الواقع سوف الوفرة والرخاء الاقتصادي الذي يتمتعون به
كما يلوم أمين على الأوربيين تراجعهم وكيف أنهم فشلوا في التقدم بعد الستينيات والسبعينيات، فبعد أن تمكن الأوربيون من إعادة بناء مجتمعاتهم التي دمرت في الحرب العالمية الثانية بجد ونشاط كبيرين وحققوا نجاحا اقتصاديا كبيرة انقلبوا على إعقابهم وباتوا منشغلين بالاستهلاك والإباحية والنسبية المفرطة بشكل غير مبرر، وهكذا فرط الأوربيون في حضارتهم وتركوا القيادة للأميركيين وهم بطبيعتهم قليلو الخبرة مفرطون في الثقة بالذات
ويعتقد أمين أن الثورة المصرية قامت بمساندة أو قبول أميركي في بدايتها على أقل تقدير، كما قدمت أميركا مساعدات اقتصادية لمصر حتى أوائل الستينيات، وأن الضباط المصريين أصروا على مناطحة أميركا وليس لديهم الخطة أو الاستعداد أو القدرة على مواجهتها، ومن ثم دخل ناصر في صراع بلا استعداد مع الأميركيين أدى إلى هزيمة 1967 حتى إذا ما وصل السادات إلى الحكم وانتصر في 1973 ارتمى بلا مبرر في أحضان الأميركيين وفرغ البلاد من أي نهضة حقيقية ومن صناعاتها الوطنية بلا مبرر
وهكذا تعاون الضباط المصريون قليلي الخبرة مع العصر الأميركي شديد السطوة والجبروت في أهدار ثروات أو أمال المصريين وشعوب أخرى وأصابوهم بخيبة الأمل في التنمية أو الاستقلال أو التقدم
هل من مخرج
بقى لنا أن نؤكد على فكرة هذا المقال، وهو ذلك الشعور المقلق "بخيبة الأمل" والذي يهيمن على كتابات بعض المثقفين المصريين والعرب، والذي أدهشنا ظهوره بقوة في سيرة جلال أمين الشخصية لدرجة أشعرتنا بأنه ظلم نفسه وظلم قراءه، وكنا نأمل منه أن يتحدث قليلا على أجيال المستقبل وأن يعطيها بعض النصائح أو النظرات الإيجابية عن الحياة فيما بعد جيل الثورة
وحتى لا نظلم الرجل يجب القول أن ميله للزهد في الحياة على المستوى الشخصي مفيد كثيرا في عصر طغت فيه المادة، وثقته الكبيرة في نفسه والتي جعلته ينظر من أعلى على الأحداث والسياسية والسياسيين في مصر ويتحدث عنهم بحرية ملفته للنظر هي درس يجب على الأجيال القادمة تعلمه، هذا إضافة إلى شعوره بالرضا في نهاية حياته وعثوره على السعادة في أبسط الأشياء وقبوله بذاته وحرصه على عدم تعذيبها على ما فات، وهي جميعا أفكار متوازنة وإيجابية تحمي القارئ من الشعور "بخيبة الأمل" أو الإحباط، كما تطالب جلال أمين بالتركيز عليها في دراسات جديدة موجهة إلى الجيل الجديد حتى يتحرر أمين وتتحرر الأجيال المقبلة من آسر جيل الثورة الذي حبس أمين نفسه بداخله
---
معلومات الكتاب: جلال أمين، "ماذا علمتني الحياة؟ سيرة ذاتية"، دار الشروق، الطبعة الرابعة مارس 2008
يمكن نشر المقال مع الإشارة إلى مصدره
www.alaabayoumi.com
نص المقال
سامح الله د. جلال أمين بعد أن ترك لقلمه العنان لكي تسيطر عبارة "خيبة الأمل" على سيرته الذاتية القيمة المنشورة تحت عنوان "ماذا علمتني الحياة؟" خاصة في فصلها الأخير، فالسيرة الذاتية الممتدة على حوالي 400 صفحة هي بمثابة قطعة أدبية رائعة تجمع بين الحكمة والتسلية بشكل لا يمل منه القارئ
ولكن لما وصلت إلى فصلها الأخير "البدايات والنهائيات" صدمت بعبارة "خيبة الأمل" التي تتبناها خاتمة الكتاب وكأنها تلخص خبرة أمين وخبرة جيله من المصريين بل والعصر الذي نعيش فيه، والمقلق هنا هو أن شعور جلال أمين بخيبة الأمل مقنع ومؤلم في آن واحد، فهو مقنع لأن د. أمين فصله باقتدار على أحوال المصريين والعالم في الوقت الراهن حتى تكاد لا ترى مفرا منه، وهو مؤلم لأنه شعور سائد بين كثير من المصريين والعرب وكنت تأمل أن يساعدنا مثقف كبير مثل جلال أمين في العثور على مخرج
مثلث خيبة الأمل
كتاب "ماذا علمتني الحياة؟" يحاصر القارئ عند الانتهاء منه بمثلث مغلق من "خيبة الأمل"، ضلعه الأول شخصي والثاني مصري والثالث أميركي
على المستوى شخصي، لما بلغ جلال أمين - المولود في عام 1935 - السبعين من عمره وشعر بما يشعر به أقرانه من أعراض الشيخوخة وفقدان الأحبة واقتراب الموت وعدم الخوف منه اقتنع بأن الحياة لا تستحق أي سرور أو حزن عميقين
فالإنسان - كما يرى أمين - قادر على التغلب على أي أزمة يمر بها بما في ذلك موت الأحبة، كما أن الأزمات التي يمر بها الإنسان في حياته هي في الحقيقة أمور بسيطة لن تؤثر عليه على المدى الطويل، وينطبق الأمر نفسه على الفرص التي قد تحين للفرد، فالإنسان في شبابه قد يشعر بأن الحصول على وظيفية ما أو زوجة بعينها أو فرصة سنحت له هي مفتاح السعادة في الحياة، ولكنه لو انتظر قليلا لأدرك أن الأمور تتساوى على المدى البعيد وأن الإنسان لا يحتاج في حياته إلا إلى أقل القليل، ولعرف أنه يضني نفسه طوال الحياة سعيا وراء أشياء كثيرة هي في الحقيقة عبء عليه
ضلع المثلث الثاني مصري، فأمين يكن قدرا كبيرا من السخط على جيله "جيل الثورة المصرية" فهو يشعر أن وعيه السياسي تفتح مع بداية الثورة المصرية وأن "عمره السياسي" هي تحديدا عمر الثورة، وأن الثورة خذلته وخذلت المصريين وأشعرهم جميعا بخيبة الأمل بعدما عجزت عن تحقيق النمو الاقتصادي أو الاستقلال الثقافي أو تحرير فلسطين
كما أن الثورة حولت مصر إلى دولة بوليسية في عصر عبد الناصر حتى أن عبد الحميد شقيق جلال أمين استقال من وظيفته وهو في ريعان شبابه وفي قمة عطاءه خوفا من ضررا قد يصيبه بعدما أشعرته الثورة - كما أشعرت الكثير من المصريين في تلك المرحلة - بأن هناك من يراقبه في كل حركاته ويترصد له
كما تحولت مصر إلى دولة رخوة في عصر السادات، فقد بدأت نهاية جيل الثورة مع هزيمة 1967 ومثلت سياسات الانفتاح التي تبناها السادات إعلان النهاية والاستسلام والانقلاب على ما حققته الثورة من منجزات، ويقول أمين أن مبارك يسير على طريق السادات ولكن بخطى بطيئة وبلا ضجة أو صخب
كما يقول أن سياسات الانفتاح والسياسات التي تبعتها حولت المصريين من شعب يعمل لخدمة نفسه إلى شعب يعمل لخدمة الأجنبي في الداخل أو الخارج، في الخارج من خلال السفر إلى دولة خليجية أو غربية، وفي الداخل من خلال العمل لدى شركة أو مؤسسة أجنبية، وبالطبع كل هذه المؤسسات تخدم أوطانها، وباتت مصر بلا أحد يخدمها
ويشعر د. أمين بأن السياسة في مصر لا ترحب بأصحاب الرأي المستقل أو الأفكار الراسخة، فهي تبحث عن أشخاص لا يملكون أي أفكار عميقة أو معتقدات لها جذور، ويتساءل عن جدوى العلم والمعرفة في غياب فرص الإصلاح
كما ينظر أمين بإحباط على أحوال أساتذة الجامعات المصرية، ويرى أن قليل منهم يستحق أن ينظر إليه على أنه مثقف أو مفكر له رؤية خاصة تجاه الحياة، وأن أغلبهم في حقيقة الأمر أشخاص عاديون يمتهنون التدريس الجامعي ويشغلهم السعي وراء المادة وتدبير الرزق ويصيبهم ما أصاب المصريين من تراجع وتردي في التفكير والثقافة والنظر للحياة
كما يبدي أمين سخطه الشديد على المذلة والمهانة التي يتعرض لها المثقف والأستاذ الجامعي على أيدي الحكام وأصحاب السلطة بعد ما شاهده خلال حياته من أمثلة على ذلك
ويقول أن أوضاع مصر والمصريين في نصف القرن الماضي أشعرته كما أشعرت كثير من المصريين بالإحباط وخيبة الأمل وتراجع الثقة في الذات ودفعته إلى التفكير في ترك البلد كما حدث في منتصف السبعينيات حينما قرر الذهاب للعمل في الكويت ثم في أميركا، ولكنه سرعان ما قرر العودة إلى مصر بعدما شعر بأن صخب الحياة في مصر وآلامها هما مصدر إلهامه وأفكاره، ولكنه يقر بأن أحوال المصريين ولدت شعورا بالحزن والإحباط اعتلى وجوه أقاربه ومعارفه والمصريين بوجه عام
أما الضلع الثالث والأخير لمثلث "خيبة الأمل" الذي يتحدث عنه أمين، فهو ضلع أميركي غربي، حيث يصف جلال أمين العصر الراهن بأنه عصر "أميركي" شهد خروج أميركا للعالم وسيطرتها عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن أمين لا يكن كثيرا من الاحترام أو التقدير للثقافة الأميركية، فهو يرى أنها ثقافة سطحية يطغى فيها الكم على الكيف، وموجهة بالأساس إلى خدمة الإنسان المتوسط الذكاء من خلال مشاريع استهلاكية عملاقة تسخر التكنولوجيا الحديثة من أجل توفير أكبر عدد من السلع بأقل الأسعار لأكبر عدد من الناس، ومن ثم تفتقر للإبداع خاصة على المستوى الثقافي
كما يرى أمين الأميركيين كشعب محتار دائما في حالة حركة دءوبة بلا هدف حقيقي سوى مزيد من الحركة والقناعة بأنهم شعب ناجح متميز قادر على أن يحكم نفسه ويمتلك مصيره في يديه، وفي الحقيقة – كما يرى أمين – يفتقر الأميركيون لشعور راقي بالثقافة، كما أنهم يتحركون أكثر من اللازم ويفتقرون النظرة العميقة للأمور، فهم عكس المثل القائل "في الحركة بركة"، كما أن الأميركيين لا ينظرون نظرة عميقة لنظامهم السياسي فهم أسرى للمؤسسات والنخب الكبرى التي تسيطر على مؤسسات صناعة القرار الأميركي، ومع ذلك يشعر الأميركيون بثقة مفرطة في النفس ليس لها ما يبررها في الواقع سوف الوفرة والرخاء الاقتصادي الذي يتمتعون به
كما يلوم أمين على الأوربيين تراجعهم وكيف أنهم فشلوا في التقدم بعد الستينيات والسبعينيات، فبعد أن تمكن الأوربيون من إعادة بناء مجتمعاتهم التي دمرت في الحرب العالمية الثانية بجد ونشاط كبيرين وحققوا نجاحا اقتصاديا كبيرة انقلبوا على إعقابهم وباتوا منشغلين بالاستهلاك والإباحية والنسبية المفرطة بشكل غير مبرر، وهكذا فرط الأوربيون في حضارتهم وتركوا القيادة للأميركيين وهم بطبيعتهم قليلو الخبرة مفرطون في الثقة بالذات
ويعتقد أمين أن الثورة المصرية قامت بمساندة أو قبول أميركي في بدايتها على أقل تقدير، كما قدمت أميركا مساعدات اقتصادية لمصر حتى أوائل الستينيات، وأن الضباط المصريين أصروا على مناطحة أميركا وليس لديهم الخطة أو الاستعداد أو القدرة على مواجهتها، ومن ثم دخل ناصر في صراع بلا استعداد مع الأميركيين أدى إلى هزيمة 1967 حتى إذا ما وصل السادات إلى الحكم وانتصر في 1973 ارتمى بلا مبرر في أحضان الأميركيين وفرغ البلاد من أي نهضة حقيقية ومن صناعاتها الوطنية بلا مبرر
وهكذا تعاون الضباط المصريون قليلي الخبرة مع العصر الأميركي شديد السطوة والجبروت في أهدار ثروات أو أمال المصريين وشعوب أخرى وأصابوهم بخيبة الأمل في التنمية أو الاستقلال أو التقدم
هل من مخرج
بقى لنا أن نؤكد على فكرة هذا المقال، وهو ذلك الشعور المقلق "بخيبة الأمل" والذي يهيمن على كتابات بعض المثقفين المصريين والعرب، والذي أدهشنا ظهوره بقوة في سيرة جلال أمين الشخصية لدرجة أشعرتنا بأنه ظلم نفسه وظلم قراءه، وكنا نأمل منه أن يتحدث قليلا على أجيال المستقبل وأن يعطيها بعض النصائح أو النظرات الإيجابية عن الحياة فيما بعد جيل الثورة
وحتى لا نظلم الرجل يجب القول أن ميله للزهد في الحياة على المستوى الشخصي مفيد كثيرا في عصر طغت فيه المادة، وثقته الكبيرة في نفسه والتي جعلته ينظر من أعلى على الأحداث والسياسية والسياسيين في مصر ويتحدث عنهم بحرية ملفته للنظر هي درس يجب على الأجيال القادمة تعلمه، هذا إضافة إلى شعوره بالرضا في نهاية حياته وعثوره على السعادة في أبسط الأشياء وقبوله بذاته وحرصه على عدم تعذيبها على ما فات، وهي جميعا أفكار متوازنة وإيجابية تحمي القارئ من الشعور "بخيبة الأمل" أو الإحباط، كما تطالب جلال أمين بالتركيز عليها في دراسات جديدة موجهة إلى الجيل الجديد حتى يتحرر أمين وتتحرر الأجيال المقبلة من آسر جيل الثورة الذي حبس أمين نفسه بداخله
---
معلومات الكتاب: جلال أمين، "ماذا علمتني الحياة؟ سيرة ذاتية"، دار الشروق، الطبعة الرابعة مارس 2008
1 comment:
عزيزي علاء
السلام عليكم
توقعت أن تشير إلى أكثر الأجزاء حساسية في سيرة الرجل وأسرته وهل من حق المرء أن يكشف بعض ما ستره الله بدعوى الصراحة أو الشفافية.
مع الشكر والتقدير لجهدك
حازم
Post a Comment