حالة إنكار
عرض بقلم: علاء بيومي
الناشر: الجزيرة نت، 15 أكتوبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
عرض كتاب "حالة إنكار: بوش في حرب: الجزء الثالث" للصحفي الأمريكي الشهير بوب ودوارد الصادر في أواخر شهر سبتمبر الماضي مهمة بالغة الصعوبة لعدة أسباب على رأسها كون الكتاب يتكون من قرابة 500 صفحة من القطع الكبير، ونظرا للشهرة الكبيرة التي حصل عليها الكتاب منذ صدوره، ولطبيعة منهج الكتاب والتي تعتمد على إجراء عدد كبير من المقابلات الصحفية مع بعض أهم المسئولين عن صناعة القرار بالولايات المتحدة، ومحاولة كتابة سيناريو يحكي موقف هؤلاء المسئولين من أهم القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بخصوص إدارة حرب العراق وخاصة في الفترة التالية لسقوط النظام العراقي، وهي الفترة التي يركز عليها الجزء الأكبر من الكتاب
الأسباب السابقة مجتمعة قد تدفع القارئ لمحاولة الخروج باستنتاجات متسرعة عن محتوى الكتاب قبل الانتهاء من قراءته أو على الأقل من قراءة غالبيته فصوله، والتي يبلغ عددها 45 فصلا، خاصة ومع زيادة الطلب على الكتاب وعرضه من دوائر الإعلام والسياسة الأمريكية والدولية، وقد تحرم هذه القراءة المتسرعة الباحث أو القارئ من الوقوف على أهم مضامين الكتاب ومزاياه وكذلك عيوبه
هدف الكتاب
يغطي الكتاب مساحة واسعة من الزمن تمتد من أواخر عام 1997 حين بدأ جورج دبليو بوش في التفكير في ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة، وتصل إلى يونيو 2006 وقد دخلت إدارة الرئيس جورج بوش دوامة أخطاء حرب العراق حيث بدا لها أن إستراتيجيتها تجاه العراق مليئة بالعيوب والأخطاء ومع ذلك يصر كبار مسئوليها على عدم الاعتراف بتلك الأخطاء منخرطين في "حالة إنكار" غير منطقية انطلاقا من أهداف دعائية سياسية، ومن هنا جاء عنوان الكتاب
والملاحظ هنا أن الكتاب لا يغطي الفترة السابقة الطويلة على قدر متساوي، فهدف الكتاب الأساسي هو تسليط الضوء على الطريقة التي تم بها التخطيط لإدارة عراق ما بعد صدام حسين مع العودة للخلف بشكل كافي لمحاولة تسليط الضوء على جذور الأسباب التي منعت أمريكا من التخطيط السليم، لذلك يمر الكتاب بشكل خاطف على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى حرب أفغانستان، وعلى قرار شن الحرب والتخطيط لشن العمليات العسكرية، فهدف الكتاب الرئيسي هو دراسة كيف فكرت الإدارة في مستقبل العراق بعض سقوط صدام حسين، وفي كيفية إدارة العراق، وفي مستقبل الوجود الأميركي هناك، وفي طبيعة عراق ما بعد صدام
داء اسمه رامسفيلد
الكتاب مليء بكم هائل من التصريحات والأحاديث التي دارت بين عشرات المسئولين الأميركيين حول عراق ما بعد صدام حسين والتخطيط الأمريكي لتلك الفترة بما في ذلك أحاديث دارت بين أكبر المسئولين الأميركيين على الإطلاق، حيث أجرى مؤلف الكتاب بوب ودوارد لقاءات مباشرة مع بعض هؤلاء المسئولين وعلى رأسهم وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، ومع آندرو كارد والذي عمل ككبير موظفي البيت الأبيض خلال إدارة بوش الأولى وفي جزء من إدارة بوش الثانية، وجاي جارنر وهو أول مسئول أمريكي عن إعادة بناء عراق ما بعد صدام
وسط كل هذه الأحاديث والتفاصيل يحاول ودورد رسم صورة دقيقة بقدر المكان لأصل الداء دون تسميته مباشرة كما تفعل كتب التحليلات السياسية، حيث يسترسل بوب ودورد في التفاصيل والمقابلات والأحداث والتي تقدر بالمئات تاركا الخلاصة للقارئ
وفي أحيان كثيرة يشعر القارئ أن الداء الذي أصاب السياسة الأميركية تجاه عراق ما بعد صدام هو داء واحد واضح اسمه "دونالد رامسفيلد"، والذي يخصه ودوارد بالجانب الأكبر من النقد والأخطاء وكأنه يمثل الحجرة العثرة الرئيسية في طريق أمريكا بالعراق
فمنذ فصول الكتاب الأولى يوضح ودوارد للقارئ أن رامسفيلد عندما تولي مهمة وزير الدفاع رفض الدور السياسي المتزايد الذي يلعبه قادة الجيش، وخاصة رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي، حيث حاول رامسفيلد الحد من سلطة قادة الجيش وعلى قدرتهم على احتكار المعلومات بعيدا عنه، وعلى قدرتهم على التواصل مع الرئيس ومجلس الأمن القومي دون المرور عبره، حيث يصور ودوارد رامسفيلد كعجوز عنيد يتدخل في كل شيء، ويريد أن يمتلك السلطة المطلقة في كل ما يتعلق بأمور الجيش والعمليات العسكرية الأميركية، ويرفض سلطة الكونجرس والخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي
لذا اختار رامسفيلد رئيس أركان قابل للسيطرة عليه، وهو ريتشارد مايرز، ورفض تعيين رئيس أركان أخر كفئ لأنه أصر على استقلاليته، وعندما بدأت أمريكا في التخطيط لشن الحرب على العراق أصر رامسفيلد أن يكون التخطيط للعمليات العسكرية ولفترة ما بعد سقوط النظام تحت مسئولية وزارة الدفاع، ورفض إشراك أي وزارة أخرى بما في ذلك وزارة الخارجية حتى أنها أصر أحيانا على عدم الاستعانة بخبراء من تلك الوزارات، وأصر على فصل بعض أفضل الخبراء في الفريق الذي جمعه جاي جارنر - والذي كان أول من أوكل إليهم رامسفيلد مهمة التخطيط لعراق ما بعد صدام - لأنهم كانوا من وزارة الخارجية
كما يقول ودوارد أن رامسفيلد لم يكن لديه وقت ليمنحه لجاي جارنر للتخطيط لفترة ما بعد صدام لأن رامسفيلد كان مشغولا بالتخطيط للعمليات العسكرية مع الجنرال تومي فرانكس، ومع ذلك أصر رامسفيلد على أن يكون مسئولا مسئولية مباشرة عن جارنر، ورفض أن يكون فرانكس مسئولا عن جارنر أو العكس، فرامسفيلد - كما يصوره الكتاب - رجلا يريد أن يمتلك جميع الخيوط في يديه
وعندما بدا لرامسفيلد أن جارنر يعارضه ويحاول التفكير بقدر من الاستقلالية في أوضاع العراق لم يتردد رامسفيلد في فصله، وسعى لإرسال مبعوث ثاني وهو جيري برايمر، وعندما عارض برايمر رامسفيلد وثبتت عدم كفاءته انقلب عليه رامسفيلد، وبهذا دخلت أمريكا العراق بدون تخطيط كافي لفترة ما بعد الحرب، واستمرت مشكلات العراق تتفاقم بدون حلول في ظل انشغال رامسفيلد وإصراره على هدف واحد وهو سرعة سحب القوات وتقليل وجودهم في العراق بأي ثمن
المشكلة أكبر من رامسفيلد
التدقيق في مضمون الكتاب وقراءة أكبر عدد من فصوله تعطي انطباعا بأن المشكلة أكبر بكثير من رامسفيلد، حيث يرسم ودورد على صفحات متفرقة من كتابه صورة متكررة ومقلقة لأسلوب صنع القرار بإدارة جورج دبليو بوش، فهو يصور بوش بشكل منتظم على أنه رئيس لا يمتلك الخبرة الكافية، ويفوض صلاحيات كبيرة لوزرائه، حيث يشير ودوارد بشكل متكرر إلى أن المسئولين عن عراق ما بعد صدام - مثل جاي جارنر - صدموا عندما التقوا بوش لأنه ببساطه لم يسألهم عن شيء، فهو في العادة يستمع لهم ويبتسم ويساندهم ويسألهم أسئلة شخصية بسيطة لا تمت لموضوع النقاش بصلة، ثم يمضي دون أن يسألهم في التفاصيل الحقيقة أو يشجعهم على الحديث في القضايا الهامة المثيرة للجدل
كما يتحدث ودورد عن سلوك غريب يشبه سلوك الطاعة أأأو الخوف أو الولاء أو الهيبة في مجلس الرئيس، والذي ينتاب كثير من مساعدي بوش عند الحديث معه ويمنعهم من مناقشة القضايا الكبرى والخلافية، وهو سلوك يشعر القارئ بأن ثقافة النظام السياسي في أمريكا لا تشجع النقاش الحر كما هو مفترض، فعندما أنهى رامسفيلد وتشيني خدمة جاي جارنر، وعاد الأخير إلى واشنطن، وطلب بوش اللقاء معه، لم يخبر جارنر بوش إلا بكل ما هو جميل عن العراق على الرغم من معرفة جارنر بالعكس
كما أن كولن باول وزير الخارجية القوي ذهب إلى الأمم المتحدة لإقناع العالم بوجود أسلحة دمار شامل بالعراق بناء على استخبارات ضعيفة جدا، وجورج تاننت - مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية - كان على علم بمبالغة بوش وتشيني في استخدام قضية أسلحة الدمار الشامل لتبرير الحرب على العراق وفكر في الاستقالة، ولكنه تراجع خوفا من أن يوصف بأنه تخلى عن المسئولية وبلده على أبواب الحرب
ودائما ما تسمع كبار المسئولين في الإدارة - بما في ذلك دونالد رامسفيلد نفسه - يقولون أن "القرار قادم من أعلى"، وأنهم لا يستطيعون تغيير القرار حتى مع شعورهم بأنه قرار غير سليم، فصناعة القرار هي نهاية النقاش والنقاش محدود، والهدف هو تنفيذ القرار حتى لو كان غير صحيحا، وعندما تحدث الأخطاء وهي عديدة يجب التكتم عليها، أما أكبر المتكتمين على الأخطاء فهو الرئيس بوش نفسه، والذي يصر على التفاؤل والحديث الإيجابي دائما حتى أمام كبار مساعديه، وكأنه يدير حملة انتخابية طوال الوقت
الحلقة المتبقية والهامة في دائرة صنع القرار بإدارة بوش تخص نائب الرئيس ديك تشيني، والذي يشارك صامتا في اجتماعات بوش الهامة، فلا يسأل ولا يشارك ما دام بوش يتحدث، وفي العادة ما يتحدث بوش عن أشياء سطحية، وبعد الاجتماع يستدعي تشيني الخبراء ويسألهم الأسئلة الدقيقة والصعبة التي كان من المفترض أن يسألها بوش، ويطلب منهم أن يساعدوه على البرهنة على نظريات عديدة يؤمن بها بناء على مصادر غير معروفة مثل نظرية أن صدام على علاقة بالقاعدة، وأن صدام هرب أسلحة الدمار الشامل خارج العراق
أما كونداليزا رايس فيصفها ودوارد بقدر كبير من العقلانية وعدم القدرة على التأثير في نفس الوقت، فهي تبدو في اجتماعات إدارة بوش الأولى بلا حول ولا قوة، فالرئيس لا يسأل الأسئلة الصعبة، ومجلس الرئيس مشحون بالتوتر والصراع بين مصارعين سياسيين أقوياء على وزن باول من ناحية وتحالف تشيني رامسفيلد من ناحية أخرى
ما سكت عنه ودوارد
عيوب كتاب "حالة إنكار: بوش في حرب: الجزء الثالث" لا تتعلق بمحتواه بقدر ما تتعلق بما سكت عنه، حيث يدور الكتاب في غالبيته العظمى حول تصريحات كبار مسئولي إدارة بوش وهم بالعشرات وخلفيات هؤلاء، ولكن الخلفيات التي يذكرها ودورد عادة ما تكون مختصرة، كما أن التصريحات لا تشرح الأسباب البعيدة للسياسات، فهي تشعرك بأنها أخطاء قادمة من أعلى (رامسفيلد ومساعدة دوجلاس فايث وتشيني ومساعدة سكوتر ليبي)، ولكنها لا تذكر لك لماذا يفكر هؤلاء بهذه الطريقة؟ وما هي انتماءاتهم الأيدلوجية؟ وما هي طبيعة علاقاتهم مع جماعات شغلت الرأي العام الأمريكي والدولي بسبب تأثيرها الكبير المزعوم على إدارة الرئيس بوش مثل المحافظين الجدد والإنجليكيين ولوبي إسرائيل وشركات النفط والشركات الأمريكية الكبرى
صمت ودوارد شبه التام عن أدوار تلك الجماعات يشعرك أحيانا بأنه يصور الإدارة الأمريكية والمسئولين فيها كعرائس بمسرح وجد من عدم وقائم في فراغ، والغريب هنا أن أكبر دور يمنحه ودوارد في هذه المسرحية لشخصية لا تنتمي لإدارة بوش كان من نصيب السفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، حيث يعود ودوارد بشكل متكرر لعلاقة بندر القوية بإدارة بوش بشكل مثير للتساؤل في ظل صمت ودوارد شبه التام عن علاقة إدارة بوش بشخصيات دولية وأمريكية أخرى عديدة
-----
مقالات ذات صلة
الناشر: الجزيرة نت، 15 أكتوبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
عرض كتاب "حالة إنكار: بوش في حرب: الجزء الثالث" للصحفي الأمريكي الشهير بوب ودوارد الصادر في أواخر شهر سبتمبر الماضي مهمة بالغة الصعوبة لعدة أسباب على رأسها كون الكتاب يتكون من قرابة 500 صفحة من القطع الكبير، ونظرا للشهرة الكبيرة التي حصل عليها الكتاب منذ صدوره، ولطبيعة منهج الكتاب والتي تعتمد على إجراء عدد كبير من المقابلات الصحفية مع بعض أهم المسئولين عن صناعة القرار بالولايات المتحدة، ومحاولة كتابة سيناريو يحكي موقف هؤلاء المسئولين من أهم القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بخصوص إدارة حرب العراق وخاصة في الفترة التالية لسقوط النظام العراقي، وهي الفترة التي يركز عليها الجزء الأكبر من الكتاب
الأسباب السابقة مجتمعة قد تدفع القارئ لمحاولة الخروج باستنتاجات متسرعة عن محتوى الكتاب قبل الانتهاء من قراءته أو على الأقل من قراءة غالبيته فصوله، والتي يبلغ عددها 45 فصلا، خاصة ومع زيادة الطلب على الكتاب وعرضه من دوائر الإعلام والسياسة الأمريكية والدولية، وقد تحرم هذه القراءة المتسرعة الباحث أو القارئ من الوقوف على أهم مضامين الكتاب ومزاياه وكذلك عيوبه
هدف الكتاب
يغطي الكتاب مساحة واسعة من الزمن تمتد من أواخر عام 1997 حين بدأ جورج دبليو بوش في التفكير في ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة، وتصل إلى يونيو 2006 وقد دخلت إدارة الرئيس جورج بوش دوامة أخطاء حرب العراق حيث بدا لها أن إستراتيجيتها تجاه العراق مليئة بالعيوب والأخطاء ومع ذلك يصر كبار مسئوليها على عدم الاعتراف بتلك الأخطاء منخرطين في "حالة إنكار" غير منطقية انطلاقا من أهداف دعائية سياسية، ومن هنا جاء عنوان الكتاب
والملاحظ هنا أن الكتاب لا يغطي الفترة السابقة الطويلة على قدر متساوي، فهدف الكتاب الأساسي هو تسليط الضوء على الطريقة التي تم بها التخطيط لإدارة عراق ما بعد صدام حسين مع العودة للخلف بشكل كافي لمحاولة تسليط الضوء على جذور الأسباب التي منعت أمريكا من التخطيط السليم، لذلك يمر الكتاب بشكل خاطف على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى حرب أفغانستان، وعلى قرار شن الحرب والتخطيط لشن العمليات العسكرية، فهدف الكتاب الرئيسي هو دراسة كيف فكرت الإدارة في مستقبل العراق بعض سقوط صدام حسين، وفي كيفية إدارة العراق، وفي مستقبل الوجود الأميركي هناك، وفي طبيعة عراق ما بعد صدام
داء اسمه رامسفيلد
الكتاب مليء بكم هائل من التصريحات والأحاديث التي دارت بين عشرات المسئولين الأميركيين حول عراق ما بعد صدام حسين والتخطيط الأمريكي لتلك الفترة بما في ذلك أحاديث دارت بين أكبر المسئولين الأميركيين على الإطلاق، حيث أجرى مؤلف الكتاب بوب ودوارد لقاءات مباشرة مع بعض هؤلاء المسئولين وعلى رأسهم وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، ومع آندرو كارد والذي عمل ككبير موظفي البيت الأبيض خلال إدارة بوش الأولى وفي جزء من إدارة بوش الثانية، وجاي جارنر وهو أول مسئول أمريكي عن إعادة بناء عراق ما بعد صدام
وسط كل هذه الأحاديث والتفاصيل يحاول ودورد رسم صورة دقيقة بقدر المكان لأصل الداء دون تسميته مباشرة كما تفعل كتب التحليلات السياسية، حيث يسترسل بوب ودورد في التفاصيل والمقابلات والأحداث والتي تقدر بالمئات تاركا الخلاصة للقارئ
وفي أحيان كثيرة يشعر القارئ أن الداء الذي أصاب السياسة الأميركية تجاه عراق ما بعد صدام هو داء واحد واضح اسمه "دونالد رامسفيلد"، والذي يخصه ودوارد بالجانب الأكبر من النقد والأخطاء وكأنه يمثل الحجرة العثرة الرئيسية في طريق أمريكا بالعراق
فمنذ فصول الكتاب الأولى يوضح ودوارد للقارئ أن رامسفيلد عندما تولي مهمة وزير الدفاع رفض الدور السياسي المتزايد الذي يلعبه قادة الجيش، وخاصة رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي، حيث حاول رامسفيلد الحد من سلطة قادة الجيش وعلى قدرتهم على احتكار المعلومات بعيدا عنه، وعلى قدرتهم على التواصل مع الرئيس ومجلس الأمن القومي دون المرور عبره، حيث يصور ودوارد رامسفيلد كعجوز عنيد يتدخل في كل شيء، ويريد أن يمتلك السلطة المطلقة في كل ما يتعلق بأمور الجيش والعمليات العسكرية الأميركية، ويرفض سلطة الكونجرس والخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي
لذا اختار رامسفيلد رئيس أركان قابل للسيطرة عليه، وهو ريتشارد مايرز، ورفض تعيين رئيس أركان أخر كفئ لأنه أصر على استقلاليته، وعندما بدأت أمريكا في التخطيط لشن الحرب على العراق أصر رامسفيلد أن يكون التخطيط للعمليات العسكرية ولفترة ما بعد سقوط النظام تحت مسئولية وزارة الدفاع، ورفض إشراك أي وزارة أخرى بما في ذلك وزارة الخارجية حتى أنها أصر أحيانا على عدم الاستعانة بخبراء من تلك الوزارات، وأصر على فصل بعض أفضل الخبراء في الفريق الذي جمعه جاي جارنر - والذي كان أول من أوكل إليهم رامسفيلد مهمة التخطيط لعراق ما بعد صدام - لأنهم كانوا من وزارة الخارجية
كما يقول ودوارد أن رامسفيلد لم يكن لديه وقت ليمنحه لجاي جارنر للتخطيط لفترة ما بعد صدام لأن رامسفيلد كان مشغولا بالتخطيط للعمليات العسكرية مع الجنرال تومي فرانكس، ومع ذلك أصر رامسفيلد على أن يكون مسئولا مسئولية مباشرة عن جارنر، ورفض أن يكون فرانكس مسئولا عن جارنر أو العكس، فرامسفيلد - كما يصوره الكتاب - رجلا يريد أن يمتلك جميع الخيوط في يديه
وعندما بدا لرامسفيلد أن جارنر يعارضه ويحاول التفكير بقدر من الاستقلالية في أوضاع العراق لم يتردد رامسفيلد في فصله، وسعى لإرسال مبعوث ثاني وهو جيري برايمر، وعندما عارض برايمر رامسفيلد وثبتت عدم كفاءته انقلب عليه رامسفيلد، وبهذا دخلت أمريكا العراق بدون تخطيط كافي لفترة ما بعد الحرب، واستمرت مشكلات العراق تتفاقم بدون حلول في ظل انشغال رامسفيلد وإصراره على هدف واحد وهو سرعة سحب القوات وتقليل وجودهم في العراق بأي ثمن
المشكلة أكبر من رامسفيلد
التدقيق في مضمون الكتاب وقراءة أكبر عدد من فصوله تعطي انطباعا بأن المشكلة أكبر بكثير من رامسفيلد، حيث يرسم ودورد على صفحات متفرقة من كتابه صورة متكررة ومقلقة لأسلوب صنع القرار بإدارة جورج دبليو بوش، فهو يصور بوش بشكل منتظم على أنه رئيس لا يمتلك الخبرة الكافية، ويفوض صلاحيات كبيرة لوزرائه، حيث يشير ودوارد بشكل متكرر إلى أن المسئولين عن عراق ما بعد صدام - مثل جاي جارنر - صدموا عندما التقوا بوش لأنه ببساطه لم يسألهم عن شيء، فهو في العادة يستمع لهم ويبتسم ويساندهم ويسألهم أسئلة شخصية بسيطة لا تمت لموضوع النقاش بصلة، ثم يمضي دون أن يسألهم في التفاصيل الحقيقة أو يشجعهم على الحديث في القضايا الهامة المثيرة للجدل
كما يتحدث ودورد عن سلوك غريب يشبه سلوك الطاعة أأأو الخوف أو الولاء أو الهيبة في مجلس الرئيس، والذي ينتاب كثير من مساعدي بوش عند الحديث معه ويمنعهم من مناقشة القضايا الكبرى والخلافية، وهو سلوك يشعر القارئ بأن ثقافة النظام السياسي في أمريكا لا تشجع النقاش الحر كما هو مفترض، فعندما أنهى رامسفيلد وتشيني خدمة جاي جارنر، وعاد الأخير إلى واشنطن، وطلب بوش اللقاء معه، لم يخبر جارنر بوش إلا بكل ما هو جميل عن العراق على الرغم من معرفة جارنر بالعكس
كما أن كولن باول وزير الخارجية القوي ذهب إلى الأمم المتحدة لإقناع العالم بوجود أسلحة دمار شامل بالعراق بناء على استخبارات ضعيفة جدا، وجورج تاننت - مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية - كان على علم بمبالغة بوش وتشيني في استخدام قضية أسلحة الدمار الشامل لتبرير الحرب على العراق وفكر في الاستقالة، ولكنه تراجع خوفا من أن يوصف بأنه تخلى عن المسئولية وبلده على أبواب الحرب
ودائما ما تسمع كبار المسئولين في الإدارة - بما في ذلك دونالد رامسفيلد نفسه - يقولون أن "القرار قادم من أعلى"، وأنهم لا يستطيعون تغيير القرار حتى مع شعورهم بأنه قرار غير سليم، فصناعة القرار هي نهاية النقاش والنقاش محدود، والهدف هو تنفيذ القرار حتى لو كان غير صحيحا، وعندما تحدث الأخطاء وهي عديدة يجب التكتم عليها، أما أكبر المتكتمين على الأخطاء فهو الرئيس بوش نفسه، والذي يصر على التفاؤل والحديث الإيجابي دائما حتى أمام كبار مساعديه، وكأنه يدير حملة انتخابية طوال الوقت
الحلقة المتبقية والهامة في دائرة صنع القرار بإدارة بوش تخص نائب الرئيس ديك تشيني، والذي يشارك صامتا في اجتماعات بوش الهامة، فلا يسأل ولا يشارك ما دام بوش يتحدث، وفي العادة ما يتحدث بوش عن أشياء سطحية، وبعد الاجتماع يستدعي تشيني الخبراء ويسألهم الأسئلة الدقيقة والصعبة التي كان من المفترض أن يسألها بوش، ويطلب منهم أن يساعدوه على البرهنة على نظريات عديدة يؤمن بها بناء على مصادر غير معروفة مثل نظرية أن صدام على علاقة بالقاعدة، وأن صدام هرب أسلحة الدمار الشامل خارج العراق
أما كونداليزا رايس فيصفها ودوارد بقدر كبير من العقلانية وعدم القدرة على التأثير في نفس الوقت، فهي تبدو في اجتماعات إدارة بوش الأولى بلا حول ولا قوة، فالرئيس لا يسأل الأسئلة الصعبة، ومجلس الرئيس مشحون بالتوتر والصراع بين مصارعين سياسيين أقوياء على وزن باول من ناحية وتحالف تشيني رامسفيلد من ناحية أخرى
ما سكت عنه ودوارد
عيوب كتاب "حالة إنكار: بوش في حرب: الجزء الثالث" لا تتعلق بمحتواه بقدر ما تتعلق بما سكت عنه، حيث يدور الكتاب في غالبيته العظمى حول تصريحات كبار مسئولي إدارة بوش وهم بالعشرات وخلفيات هؤلاء، ولكن الخلفيات التي يذكرها ودورد عادة ما تكون مختصرة، كما أن التصريحات لا تشرح الأسباب البعيدة للسياسات، فهي تشعرك بأنها أخطاء قادمة من أعلى (رامسفيلد ومساعدة دوجلاس فايث وتشيني ومساعدة سكوتر ليبي)، ولكنها لا تذكر لك لماذا يفكر هؤلاء بهذه الطريقة؟ وما هي انتماءاتهم الأيدلوجية؟ وما هي طبيعة علاقاتهم مع جماعات شغلت الرأي العام الأمريكي والدولي بسبب تأثيرها الكبير المزعوم على إدارة الرئيس بوش مثل المحافظين الجدد والإنجليكيين ولوبي إسرائيل وشركات النفط والشركات الأمريكية الكبرى
صمت ودوارد شبه التام عن أدوار تلك الجماعات يشعرك أحيانا بأنه يصور الإدارة الأمريكية والمسئولين فيها كعرائس بمسرح وجد من عدم وقائم في فراغ، والغريب هنا أن أكبر دور يمنحه ودوارد في هذه المسرحية لشخصية لا تنتمي لإدارة بوش كان من نصيب السفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، حيث يعود ودوارد بشكل متكرر لعلاقة بندر القوية بإدارة بوش بشكل مثير للتساؤل في ظل صمت ودوارد شبه التام عن علاقة إدارة بوش بشخصيات دولية وأمريكية أخرى عديدة
-----
مقالات ذات صلة
No comments:
Post a Comment