Thursday, December 18, 2003

أقدم لوبي ضد الدول الإسلامية في أمريكا
مقال بقلم: علاء بيومي

نشر في 18 ديسمبر 2003

نص المقال

في منتصف السبعينات من القرن العشرين لاحظ أستاذ بجامعة وست جورجيا كولدج الأمريكية يدعي توماس برايسون غياب الأبحاث المفصلة عن تاريخ العلاقات الأمريكية-العربية بعد أن عاصر فترة ما بعد حرب 1967 وأوائل السبعينات والتي شهدت أزمة البترول وزيادة اهتمام الرأي العام الأمريكي بشكل ملحوظ بالعالم العربي وبطبيعة توجهاته نحو بالولايات المتحدة

لذا قرر توماس برايسون كتابة دراسة بعنوان "علاقات أمريكا الدبلوماسية بالشرق الأوسط" اهتمت بمسح العلاقات الأمريكية العربية خلال الفترة من 1784 إلى 1975، ونشرت في كتاب عام 1977، وسوف نركز في هذه المقالة على أول فصلين من كتاب برايسون واللذين يتحدثان عن علاقات أمريكا الدبلوماسية بالعام العربي والشرق الأوسط الإسلامي خلال الفترة من 1784 إلى 1828

بداية العلاقة

يقول برايسون - في الفصل الأول من كتابه - أن بعد استقلال أمريكا من الاستعمار الإنجليزي (إعلان الاستقلال الأمريكي وقع في 1776) وجد الأمريكيون أنفسهم في عالم معاد لهم تهيمن عليه قوى الاستعمار الأوربية، فقدوا فيه المزايا التجارية التي كانوا يتمتعون بها عندما كانوا جزء من الإمبراطورية البريطانية، وكانت التجارة الخارجية ضرورية للحفاظ على بقاء الجمهورية الأمريكية الجديدة، لذا سعى الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية سعيا حثيثا للبحث عن أسواق جديدة وكان الشرق الأوسط الإسلامي من أولى الجهات التي قصدوها

في مايو 1784 بدأت أمريكا علاقاتها الدبلوماسية مع الشرق الأوسط عندما عين الكونجرس لجنة خاصة – تتكون من بنيامين فرانكلين وجون أدامز وتوماس جيفرسون – لإقامة علاقات تجارية والتفاوض مع إمارات المغرب العربي (بالمغرب والجزائر حاليا)

وفي عام 1786 وتحت ضغوط لوبي السفن التجارية الأمريكي توصل المبعوث الأمريكي لإمارات المغرب العربي إلى اتفاقية تجارة مع حاكم المغرب صدق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي فور عرضها عليه في عام 1787 كما أرسل رسالة شكر لحاكم المغرب. لكن لم يحالف الأمريكيون حظا مماثلا في تفاوضهم مع حكام الجزائر وإمارات طرابلس

وفي ذلك الوقت أراد جيفرسون وأدامز الشروع في بناء أسطول بحري أمريكي لحماية تجارة أمريكا مع المغرب ولكن الكونجرس رفض منحهم الأموال الكافية حتى جاء عام 1794 واندلعت الحرب بين فرنسا وبريطانيا، وانتشرت أخبار عن مصادرة بريطانيا لسفن أمريكية وعن زيادة تهديد الجزائريون للسفن الأمريكية لذا قرر الكونجرس في العام نفسه بناء ستة سفن لحماية تجارة أمريكا مع الشرق الأوسط واضعا نواة الأسطول الأمريكي الحالي، وبذلك – كما يرى الكاتب – كانت العلاقات الأمريكية العربية أحد الأسباب التي دفعت إلى تأسيس الأسطول الأمريكي

وفي عام 1795 توصل الأمريكيون إلى اتفاقية تجارية مع الجزائريون، وفي عام 1706 توصلوا لاتفاقية مع طرابلس، ومع تونس في عام 1797

وللأسف لم تمر العلاقات بدون مشاحنات إذ قامت حربا بين أمريكا وطرابلس في عام 1801 – والتي كانت أول حرب أعلنتها الجمهورية الأمريكية الجديدة لحماية مصالحها الوطنية، وبعد سلسلة مناوشات ومفاوضات استعاد الأمريكيون علاقتهم بطرابلس عام 1805
ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 1816 واجهت أمريكا مشكلات مشابهة مع بقية دول المغرب العربي تخللتها بعض المواجهات المسلحة وانتهت بمعاهدات سلام

ويقول توماس برايسون أن السياسية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال تلك الفترة المبكرة من العلاقات الأمريكية العربية كانت محكومة بشكل أساسي بمصالح أمريكا الوطنية (الاقتصادية بالأساس) المجردة والتي قادت أمريكا للانفتاح على أسواق الشرق الأوسط، وبناء أسطولا وطنيا لحماية مصالحها، والدخول في حروب في بعض الأحيان

كما أن أمريكا عاشت في تلك الفترة مرحلة تكوين واستقلال عن بريطانيا ليست بسهلة ولكنها سارت بنجاح، ومع بداية عام 1815 انتشرت في أمريكا مشاعر جديدة عبرت عن مرحلة جديدة في حياة الجمهورية الأمريكية الناشئة المستقلة وهي مشاعر الوطنية الأمريكية التي قادت أمريكا إلى مرحلة جديدة من مراحل علاقتها مع الشرق الأوسط ساعدت أمريكا ليس فقط على تعريف علاقتها نحو البلدان العربية والإسلامية فقط وإنما نحو العالم بشكل عام

أول لوبي ضد الدول الإسلامية في أمريكا

الأيدلوجية الوطنية الأمريكية الجديدة تضمنت أفكارا جزئية عديدة على رأسها فكرة دعم حركات الاستقلال الوطنية (على غرار حركة استقلال أمريكا عن بريطانيا) وفكرة البحث عن الأصول الثقافية الغربية لأمريكا الناشئة، وقد قادت هذه المشاعر الأمريكيين - في عشرينات القرن التاسع عشر - إلى دعم حركة استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية

ويرى برايسون أن الأمريكيين اندفعوا في تأييدهم لثورة اليونانيين بمشاعر دينية وثقافية واضحة بسبب شعورهم بالتراث الثقافي المشترك مع الحضارة اليونانية التي تعد أساسا للحضارة الغربية، ولكن هذه المشاعر واجهتها مصالح أمريكية ثلاث، وهي

أولا: مصالح أمريكا التجارية مع الإمبراطورية العثمانية والبلدان العربية والإسلامية الواقعة تحت سيطرتها، إذ مثلت الموانئ العثمانية بعض أهم موانئ التجارة الأمريكية في العالم، ولذا عارض لوبي التجار الأمريكيين فكرة مساندة الثورة اليونانية

ثانيا: حماية نشاط البعثات التبشيرية الأمريكية بالإمبراطورية العثمانية

ثالثا: حماية وجود القوات البحرية الأمريكية في مياه الشرق الأوسط

وعلى الرغم من دعم البعثات التبشيرية للثورة اليونانية ودورهم في نشر التعاطف معها في أوساط الشعب الأمريكي فضلت الحكومة الأمريكية - في بداية العشرينات من القرن التاسع عشر - أن تنحاز إلى اللوبي التجاري حفاظا على مصالحها الوطنية

وفي عام 1821 وجهت الثورة اليونانية عدة نداءات للشعب الأمريكي تبناها عدد من محرري الجرائد وأساتذة جامعة هارفرد الأمريكية الذين شرعوا في تنظيم حركة شعبية لمساندة استقلال اليونان بدأت في شمال شرق أمريكا (نيويورك وبوستن وبنسلفانيا) وانتشرت إلى فرجينيا وجورجيا ونورث كالورينا، كما انتشرت وسط الحركات الطلابية بأكبر الجامعات ككلومبيا وييل وغيرهما، كما استفادت الحركة من انتشار تعاطف الأمريكيين الثقافي مع اليونانيين وسرعان ما نظموا حملة وطنية لجمع التبرعات للثورة اليونانية

وفي ديسمبر 1822 قدم عضو بالكونجرس الأمريكي من ولاية ماستشوتس مذكرة للكونجرس نيابة عن الشعب اليوناني لاقت معارضة أعضاء الكونجرس

وقد دفعت الحملة حكومة الرئيس الأمريكي جيمس مونرو إلى صياغة سياستها نحو الأقليات في الدول الأخرى والذي أعلن سياسة "عدم التدخل" في شئون الأقليات بالدول العثمانية، والتي أصبحت فيما بعد سياسة حاكمة للولايات المتحدة على مدى أكثر من قرن

وفي عام 1823 جدد ثوار اليونان اتصالاتهم بالحكومة الأمريكية عن طريق لندن وطالبوها بالاعتراف بحكومتهم والتحالف معهم ومساعدتهم، وبعد مشاورات داخل الإدارة الأمريكية أصر الأمريكيون على التمسك بمبدأ عدم التدخل وبموقفهم الحيادي

ولكن مع نهاية عام 1823 سادت الإدارة الأمريكية مشاعر جديدة وقام الرئيس مونرو بالتشاور مع توماس جيفرسون وجيمس ماديسون، ومع وزرائه الذين فضل بعضهم التدخل بوسائل مختلفة لمساعدة اليونانيين، ولكن الرئيس مونرو فضل مرة أخرى الانحياز لوجهة نظر وزير خارجيته كوينسي أدمز الذي طالب بعدم تدخل أمريكا في شئون أوربا في مقابل مطالبة أوربا بعدم التدخل في شئون أمريكا الجنوبية

وأعاد الرئيس مونرو تأكيد سياسة عدم التدخل الأمريكية في خطابه أمام الكونجرس في ديسمبر 1823، ولكن هذا التأكيد الواضح لم يتمكن من إيقاف حركة المساندة الشعبية للثورة اليونانية، إذ استمرت الحركة في النمو تحت قيادة عدد متزايد من القادة، حتى وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة من القوة في عام 1824 أثمرت عن تقديم مشروع قرار بمجلس النواب الأمريكي يطالب بتعيين مبعوث أمريكي إلى اليونان

وقد حصد مشروع القرار تأييد بعض أعضاء الكونجرس الذين اتهموا الحكومة الأمريكية بتجاهل موقف الشعب الأمريكي المؤيد لليونان، ولكن القرار خسر أمام عدد أكبر من الأعضاء الذين طالبوا بالحفاظ على مصالح أمريكا ومبدأ الحياد، وخشوا أن يقود التدخل الأمريكي إلى تدخل أوربي أكبر في شئون الأقليات أو إلى حرب بين الإمبراطورية العثمانية وحلفائها والولايات المتحدة

وطالب أحد أعضاء الكونجرس وزير المالية الأمريكي بإعداد تقرير عن حجم تجارة أمريكا بالشرق الأوسط، وذكر التقرير أن حجم تجارة أمريكا مع الشرق الأوسط بلغ 2.3 مليون دولار في الفترة من 1820 إلى 1822 وأنه تخطى 1.2 مليون دولار في عام 1823، مما أعطى لوبي التجارة بالكونجرس دفعة قوية وأدى إلى هزيمة القرار بمساعدة وزير الخارجية الأمريكي كوينسي أدمز الذي كان مساندة قويا لمبدأ عدم التدخل

ولكن حركة المساندة الشعبية استمرت في حصد التأييد والتبرعات وفي عام 1827 وحده تبرع الأمريكيون بأكثر من 100 ألف دولار أمريكي للثورة اليونانية، ويقول توماس برايسون أن المساعدات الأمريكية لعبت دورا "أساسيا" في مساندة ثورة اليونانيين ضد الإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة، كما تطوع بعض الأمريكيين للحرب بجوار ثوار اليونان

كما يرى برايسون أن علاقة أمريكا بالإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة ساعدت أمريكا على صياغة سياسية "عدم التدخل" وعلى تطبيقها أيضا تطبيقا يمكن أن نسميه بتطبيق مزدوج إذا حافظت الحكومة الأمريكية على حيادها الرسمي تجاه اليونان على طول الخط لدرجة أن الإدارة الأمريكية أخرت اعترافها باستقلال اليونان حتى عام 1833 وبعد توقيع اتفاقية شاملة مع الإمبراطورية العثمانية تضمن حماية تجارة أمريكا المتزايدة مع بلدان الإمبراطورية العثمانية

وفي نفس الوقت سمحت الحكومة للشعب الأمريكي بالتعبير عن مساندته للقضية اليونانية بالشكل الذي أراده بما في ذلك المساندة المعنوية والمادية

ويعتقد برايسون أن ازدواج الموقف الأمريكي عبر عن تعارض مصالح أمريكا حكومة وشعبا تجاه الشرق الأوسط، إذ تعارضت المصالح الثقافية والدينية مع المصالح الاقتصادية والعسكرية، كما تعارضت مصالح اللوبي الشعبي مع مصالح اللوبي الرسمي والتجاري، وفي مواجهة هذه المتناقضات سعت الحكومة الأمريكية لصياغة سياساته

أفكار أساسية

ما يهمنا هنا هو عدد قليل من النقاط الهامة، وهي أولا أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ترتكز على دوافع عديدة دائما ومتناقضة أحيانا بما في ذلك الدوافع الاقتصادية والدينية والثقافية والعسكرية وغيرها

ثانيا: أن أمريكا تنطلق - في صياغتها لسياساتها تجاه أي دولة من دول العالم - من مصالحها الوطنية المبنية على دوافع وحسابات ومصالح داخلية والتي قد تصب أو لا تصب في مصلحة الدول الأجنبية

ثالثا: علاقة أمريكا بالعالم العربي والإسلامي قديمة ومليئة بالوقائع الإيجابية والسلبية

رابعا: تثير المقالة السابقة فكرة هامة - يكثر الحديث عنها في الفترة الراهنة - وهي أن جهود تعبئة الشعب الأمريكي بخصوص القضايا الدولية هي جهود قديمة جدا لا تقتصر على الفترة الراهنة أو العقود الأخيرة، وقد استفادت بعض الجماعات من هذه الحقيقة منذ زمن بعيد جدا وراحت تنشط لتوعية الأمريكيين بقضاياها وتشويه صورة خصومها لدى الشعب الأمريكي

Tuesday, October 07, 2003

المحنة: مسرحية تلخص معاناة المسلمين والعرب في أمريكا
بقلم: علاء بيومي

صدر في 7 أكتوبر 2003

نص المقال

انتشرت في أوساط المسلمين الأمريكيين في الفترة الأخيرة أفكار ومصطلحات عديدة حاولت التعبير عن الضغوط السلبية العديدة والمختلفة التي باتت تؤثر على حقوقهم وحرياتهم المدنية منذ أحداث سبتمبر 2001، ومن هذا المنطلق تأتي أهمية تناول واحدة من أشهر المسرحيات الكلاسيكية الأمريكية، وهي مسرحية "المحنة" للكاتب الأمريكي المعروف أرثر ميلر، والتي تعبر – كما سنرى على مدى المقال التالي - بشكل صادق وعميق عن محنة حقوق وحريات المسلمين والعرب في أمريكا خلال الفترة الراهنة

تقع أحداث مسرحية "المحنة" في قرية سالم بمستعمرة ماستشوتش الأمريكية في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، وتدور حول الأزمة التي عصفت بالقرية الصغيرة في عام 1692، وأدت خلال شهور قليلة إلى سجن المئات وإعدام العشرات من أبناء القرية المتدينة بعد أن انتشرت هيستريا اتهام أبناء القرية بعضهم بعضا ببيع أرواحهم إلى الشيطان والتحالف معه

وترتبط المسرحية بحياة طائفة دينية أمريكية معروفة بالتزامها الديني الشديد، وهي طائفة الأنقياء (Puritans)، والذين هاجروا إلى أمريكا من أوروبا في أوائل القرن السابع عشر هربا بدينهم الذي نادى بالعودة بالمسيحية إلى صورتها النقية، وقد عرف عن الأنقياء التزامهم الديني الشديد، والتزامهم الحرفي بتفسير الإنجيل وتطبيقه في حياتهم، وخوفهم الرهيب من الخطيئة ومن ارتكابها ومن الاعتراف بها خاصة في العلن، وإيمانهم القوي بقوة الرب وسيطرته على جميع جوانب حياة الإنسان، وقسوة عقابه، وقلة من سيختارهم لدخول نعيمه في الآخرة

كما عرف عنهم عزلتهم واهتمامهم الكبير بقيم العمل والاجتهاد في الحياة الدنيا مما ساعدهم على مواجهة صعوبات الحياة القاسية في العالم الجديد - غير الممهد للحياة في ذلك الوقت - والارتفاع الكبير بمستوى إنتاجهم وقوتهم المادية، كما اهتموا بمصلحة الجماعة أكثر من حرية الفرد، وحاولوا تطبيق الدين وأحكامه الأخلاقية في كافة جوانب الحياة العامة والخاصة حتى أصبح مجتمعهم منقسماً لفئتين (إما معنا أو ضدنا)، وحكم على القلة التي جرأت على إعلان اختلافها بالفناء خاصة بعد أن سيطرت الأصولية الدينية على حكومة مستعمرة ماستشوتس نفسها

ويقول المؤرخون أن تشدد الأنقياء الديني، وعزلتهم، وصعوبة الحياة في العالم الجديد وتحدياتها، وتغير الأوضاع الاقتصادية، وانتشار أفكار الحرية في أمريكا، ساعدت جميعا على انقراضهم في القرن التاسع عشر الميلادي، وإن بقى بعض ميراثهم في الحياة العامة الأمريكية مثل الاهتمام بالعمل وتقديس قيمه، ومحاولة تبرير الحياة العامة من منظور أخلاقي ديني (خير أو شر)

وتدور حبكة المسرحية حول مجموعة من المراهقات فاجأهم قس القرية وهن يرقصن سرا في الغابة ويحاولن لهوا الاتصال بالشيطان والأرواح الشريرة ومطالبتها بتحقيق أحلامهم المراهقة، وكان من بين الفتيات طفلة رجل الدين نفسه (بيتي)، والتي لم تستطع مقاومة هول صدمة مداهمة أبيها لها ولأصدقائها فوقعت مغشياً عليها، ولم تستطع الإفاقة من إغمائها هذا لساعات طويلة قضاها أبوها في استجواب قريبته (أباجيل) وخادمته (السوداء) اللتين كانتا مع الفتيات الراقصات، وأنكرت إباجيل والخادمة حادثة الرقص أو معرفتهما بما جرى للطفلة الصغيرة، وبمرور الوقت زاد خوف رجل الدين على ابنته لجهله بعلتها، ولخوفه من أن يفسر أبناء القرية مرضها على أنه نتاج لسكنى الأرواح الشريرة لجسدها، كما هي عادة أبناء قريته لجهلهم ولافتقارهم لمنطق الطب الحديث وسيطرة مشاعر الخوف الديني عليهم

ولما رحل رجل الدين لقيادة القرية في الصلاة اجتمعت المراهقات حول سرير الصغيرة بيتي خوفا، وتواعدن على عدم إباحة سرهن خوفا من القرية ومن زعيمتهم أباجيل، والتي كانت أكثرهم تمردا وسيطرة، وفي هذه الأثناء أفاقت الطفلة الصغيرة من غفوتها وهددتها المراهقات الأخريات بعدم البوح بسرهن فخافت وصرخت صرخة عالية قطعت صلاة أهل القرية وسارعت لإلقاء نفسها من النافذة، وفي هذه اللحظة زادت شكوك أهل القرية في سيطرة الشيطان على جسد الطفلة الصغيرة، الأمر الذي دفع رجل الدين - بمساعدة أحد أصدقائه - إلى تعذيب خادمته السوداء لعله يجبرها على الاعتراف بأنها اتصلت بالشيطان وقادته إلى السيطرة على جسد ابنته

وتحت ألم التعذيب اضطرت الخادمة إلى الاعتراف بأنها اتصلت بالشيطان وبأنه طلب منها السيطرة على جسد ابنته، بل طلب منها قتل رجل الدين نفسه ولكنها رفضت حبا منها لسيدها وتعبيرا له عن ولائها، وفي هذه اللحظة استراح رجل الدين وانتهت نصف مهمته، أما النصف الثاني فكان استجواب الخادمة الفقيرة ومعرفة مدى علاقتها بالشيطان وحجم المؤامرة التي دبرتها معه وشركائها في المؤامرة، ودفع الألم والحنق الخادمة الفقيرة إلى الاعتراف على بعض السيدات بالقرية كانت تكره بعضهن أو كن مكروهات من القرية

وفي هذه اللحظة أدركت إباجيل قريبة رجل الدين، وأكثر فتيات القرية تمردا وفسادا الميزة التي باتت تتمتع بها الخادمة السوداء، فأسرعت وسط الحضور بالمبادرة بالاعتراف بأنها رأت الشيطان هي الأخرى، وأنها تعرف بمؤامرته وبأعضاء المؤامرة، وأنها مستعدة لكشفهم خلاصا بروحها من الشيطان وعودة بها إلى الرب مرة أخرى، وسرعان ما حذت بقية فتيات القرية حذو أباجيل، فلكل منهن عدو أو عدوة تريد الانتقام منها، وبدأت المحنة

وكان لزاما على حكومة ماستشوتس المتدينة التدخل لمحاكمة المتهمين بالاتصال بالشيطان والتحالف معه، والذين أصبح أمامهم خياران لا ثالث لهما، وهما إما الاعتراف بتحالفهم مع الشيطان مثل المراهقات والاعتراف بالأسباب التي دفعتهم لذلك والوشاية بأسماء حلفاء الشيطان حتى يتم كشفهم ومحاكمتهم أيضا، وإما مواجهة تهمة التحالف مع الشيطان وعقوبتها الموت شنقا

واضطر البعض للاعتراف بالتحالف مع الشيطان إما للهروب من العقوبة، أو لصعوبة نفي التهمة عن أنفسهم (فليس من السهل على المرء تقديم أدلة تثبت أنه لا يتصل بالشيطان)، أو تطوعا من أجل إنزال العقوبة بشخص يكرهونه أو يريدون وراثته بعد موته أو لأنه سبق وعارضهم من قبل، حتى أن بعض رجال القرية النفعيون شجعوا فتياتهم على الاعتراف بتحالفهم مع الشيطان للانتقام من بعض معارضيهم

أما المتهمون الشرفاء ففضل الكثيرون منهم الموت على الوشاية بالأبرياء وعلى الحياة بسمعة ملوثة وتهمة لاصقة بهم وبأسرهم إلى الأبد، وهي تهمة "التحالف مع الشيطان"

واستمرت الاتهامات والمحاكمات في دوامة متنامية حتى طالت الكثيرين، وحتى ضاق أهل القرية بها، وشرعوا في الثورة على رجل الدين الذي سرقت أمواله قريبته أباجيل وهربت تحت جنح الظلام، وعلى المحكمة التي بدأت تدرك أنها في أزمة فحاولت سريعا لم القضية من خلال رشوة بعض المتهمين ومطالبتهم بالاعتراف بتحالفهم مع الشيطان لكي ينجوا بحياتهم

وانتهت المسرحية برفض أحد أبطالها الشرفاء الاعتراف على نفسه حماية لسمعته وسمعة أبنائه مفضلا الموت

أرثر ميلر لم يعش محنة قرية سالم التي وقعت فعليا في أواخر القرن السابع عشر، ولكنه عاصر أزمة أخرى دفعته إلى كتابة "المحنة" في الخمسينات من القرن العشرين، وهى هيستريا "التحالف مع الشيوعية"، والتي عرفت بفترة الماكارثية، إذ شكل السيناتور الأمريكي جوزيف ماكرثر في عام 1953 لجنة خاصة بالكونجرس للتحقيق في ظاهرة التعاطف مع الشيوعيين في أمريكا والعمل على اقتلاعهم مستفيدا من - ومؤججا - هيستريا العداء للشيوعية التي انتشرت في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت دائرة التحقيقات والبحث عن المتحالفين مع الشيوعية، واتسعت دائرة المشتبه فيهم، والذين خضعوا لضغوط عديدة لجبرهم على الاعتراف بجريمتهم والوشاية بحلفائهم في التعاطف مع الشيوعية لكي ينجوا من العقاب، الأمر الذي دفع البعض للوشاية بآخرين مما خلق شعورا متزايدا في أوساط الأمريكيين بسيطرة الشيوعية على المجتمع الأمريكي وأجج هيستيريا العداء للشيوعية، أما الشرفاء الذين رفضوا الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها والوشاية بالأبرياء فقد تم وضعهم على قوائم سوداء وتعرضوا لضغوط لا حصر لها

المسرحية بما تحمله من معانٍ عميقة ورموز هامة أصبحت جزءاً من التراث الثقافي الأمريكي إذ أصبحت رمزا للمحن التي يمر بها الأبرياء في أوقات الأزمات ببلدان عديدة في فترات مختلفة، وأصبح تدريسها يعد ضرورة لتوعية الأمريكيين وأبناء الشعوب الأخرى بخطورة عقائد "الأنقياء" ونظرتهم للبشرية من منظور إما معنا أو علينا


والطريف أن بعض أساتذة الجامعات الأمريكية درسوا مسرحية "المحنة" لطلابهم هذا العام وربطوها بشكل مباشر على معاناة المسلمين والعرب في أمريكا، ولما كانت القصة واضحة التعبير عن رسالتها رأيت أن أخصص خاتمة هذه المقالة للتعبير عن عدد قليل من معانيها العميقة التي يمكن الاستفادة منها في فهم معاناة المسلمين والعرب في أمريكا خلال الفترة الحالية، وهي

أولا: حالة عدم التسامح التي قادت إليها أصولية الأنقياء وتشددهم - إلى الحد الذي قسم مجتمعهم لحزبين حزب الرب وحزب الشيطان - دفعت أبناء القرية إلى الخوف من نقد الظلم عندما رأوه خوفا من اتهامهم بمساندة حزب الشيطان، فقد أدرك الكثير من أبناء القرية ظلم المحاكمات وبهتان الدليل التي قامت عليه، ولكنهم جبنوا عن الاعتراض عليها خوفا من اتهامات العامة

ثانيا: أصولية الأنقياء أصبحت كارثة عندما تبنتها حكومة تملك تفسير القانون وتطبيقه وتملك أدوات البطش والقدرة على القبض على الأفراد ومحاكمتهم، وإعدامهم

ثالثا: المغالون والنفعيون يعيشون على - ويستنشقون - الهيستريا والتي تقضي على قدرة الأفراد على التفكير الهادئ المنطقي وتجعلهم مستعدين للشك في جيرانهم، وتمثل الهيستريا فرصة للمنتفعين للثورة وللتعبير عن كراهيتهم الدفينة والانتقام ممن يعادونهم

رابعا: ما يقوم به المغالون والنفعيون في أوقات المحن لا يرتبط بدين أو بمبادئ مقدسة، وإنما هو سعي مريض للحصول على القوة السياسية بمعانيها المجردة عن أي أخلاق أو قيم

خامسا: النظام القانوني الذي تضعه الحكومات في أوقات المحن قد يبتعد كثيرا عن العدالة باعتماده على الاتهامات والوشايات واعترافات المنتفعين والمعذبين

سادسا: ما حدث في قرية سالم يمكن أن يحدث في أمكنة وأزمنة أخرى عديدة إذا ما سادت أفكار متطرفة كأفكار الأنقياء

وفي النهاية رسخت مسرحية المحنة مفهوما هاما من مفاهيم المحن، وهو مفهوم "صيد حلفاء الشيطان" (Witch Hunt)، والذي يعبر عن حملة سياسية لاقتلاع المعارضة لتحقيق منافع سياسية في وقت الأزمات الذي تسيطر فيه مشاعر الخوف والرهبة على الجماهير، وللأسف أصبح المسلمون والعرب في أمريكا من أكثر ضحايا هذا المفهوم في الوقت الراهن

Sunday, June 29, 2003

أسلوب اتخاذ أعضاء الكونجرس الأمريكي للقرارات
بقلم: علاء بيومي

نشر في 29 يونيو 2003

نص المقال

عملية صناعة واتخاذ القرار بالكونجرس الأمريكي عملية معقدة ليس من السهل فهمها أو تحليلها لأية مراقب بما في ذلك أعضاء الكونجرس الأمريكي أنفسهم، وذلك بسبب تعدد العوامل المؤثرة على قرارات أعضاء الكونجرس واختلاف الطرق التي يمكن من خلالها رصد هذه العوامل

وسنحاول هنا عرض إحدى أهم النظريات المهتمة بتفسير العوامل المؤثرة على قرارات أعضاء الكونجرس الأمريكي خاصة بمجلس النواب، كما سنحاول استخدام هذه النظرية في تفسير مواقف أعضاء الكونجرس العام تجاه قضايا المسلمين والعرب

النظرية التي نحب الحديث هنا يمكن تسميتها بالنظرية السلوكية أو الإدراكية لأنها تركز على سلوك عضو الكونجرس كفرد وتحاول تفسير ما يدور بداخل عقل عضو الكونجرس قبل اتخاذه قرار بمساندة قضية معنية أو بالتصويت بشكل معين

معضلة صناعة القرارات بالكونجرس

وأطرف محتويات هذه النظرية هو نظرتها الرئيسية لمعضلة صناعة القرار التي يواجهها كل عضو من أعضاء الكونجرس الأمريكي (435 عضو بمجلس النواب و100 عضو بمجلس الشيوخ). وسبب هذه المعضلة هو أنه ينبغي على كل عضو من هؤلاء الأعضاء اتخاذا آلاف القرارات المتعلقة بآلاف مشاريع القرارات والقوانين التي تقدم بمجلس الكونجرس كل عام، ففي كل عام يقدم بالكونجرس حوالي عشرة آلاف مشروع قرار أو قانون (يمرر حوالي ألفين منها) تعالج قضايا عديدة ومختلفة تتراوح بين إدارة ترسانة الأسلحة النووية وبرامج الطيران والفضاء الأمريكية إلى تربية الدجاج وتنقية المياه وحماية البيئة وغير ذلك من القرارات التي تعالج قضايا دولة شاسعة وقارية وعظمى كالولايات المتحدة

وبالطبع تفوق هذه القرارات القدرة الاستيعابية لأية إنسان مهما كانت عبقريته ومهما كثر عدد مساعديه خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار قضايا هامة أخرى تؤثر على قرارات أعضاء الكونجرس على رأسها أن أعضاء الكونجرس ليسوا متفرغين فقط لصناعة القرارات والقوانين، فعليهم القيام بمهام أخرى مثل اللقاء مع أبناء دوائرهم الانتخابية ومع ممثلي جماعات المصالح وقيادات أحزابهم وقيادات الإدارة الأمريكية، كما ينبغي عليهم أيضا مثل كل إنسان التفكير في مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وطموحاتهم السياسية والتي تدفع بعضهم أحيانا إلى السعي إلى لعب أدوار قيادية داخل أحزابهم بالكونجرس وداخل لجان الكونجرس وعند مناقشة التشريعات والتصويت عليها

العوامل السابقة مجتمعة تعني في الواقع أن عضو الكونجرس المثالي قد لا يستطيع أن يتخذ قرارا واعيا ومدروسا تجاه القضايا المعروضة عليه بالكونجرس سوى مرات محدودة جدا قد لا تتعدى العشرات، أما بخصوص بقية القرارات التي يتحتم عليه اتخاذها، والتي قد تقدر بالآلاف فيجب عليه البحث عن أسلوب أخر لاتخاذها لا يرتبط بأسلوب التفكير العقلاني بمفهومه الأكاديمي الذي يعتمد على الدراسة الواعية والدقيقة لتفاصيل أي قضية قبل اتخاذ قرار فيها، ويمكن وصف هذه الأسلوب ببساطة على أنه أسلوب "سياسي"

معالم الأسلوب السياسي في اتخاذ القرار

وأهم معالم هذا الأسلوب السياسي هو اعتماده ليس على الدراسة الواعية بقدر ما يعتمد على الإشارات القادمة من مصادر موثوق بها، بمعنى أخر أن أصحاب النظرية السلوكية/ الإدراكية يرون أن أعضاء الكونجرس يتخذون معظم قراراتهم بناء على إشارات أو نصائح سريعة تصل إليهم من مصادر موثوق فيها على رأسها زملائهم بالكونجرس، وقيادات أحزابهم وقيادات الناخبين بدوائرهم ومساعديهم وجماعات المصالح والإعلام

وترى هذه النظرية أن عضو الكونجرس بسبب انشغاله الشديد، ولأنه يتحتم عليه اتخاذ آلاف القرارات، يلجأ إلى الاعتماد على نصائح عدد قليل من الناصحين الموثوق بهم والذين أشرنا لهم في الفقرة السابقة، وترى النظرية أن عضو الكونجرس يتبع منهج "السلامة أولا" في أسلوب تلقيه واستخدامه للنصائح والإشارات، فهو يريد بالأساس آلا يغضب أحد وأن يحافظ على وظيفته وأن يضمن إعادة انتخابه، ولذا فهو يبحث عن نصائح من نوع خاص، نصائح لا تدخله في تحد أو خلاف مع أحد، نصائح سياسية بقدر ما هي موضوعية وعلمية

كما أن عضو الكونجرس يعلم أن انتباه أعضاء دائرته أو الإعلام أو حتى الشعب الأمريكي كله فيما يتعلق بالقضايا السياسة هو محدود جدا، فحجم القضايا السياسية التي يمكن أن يهتم بها أي مواطن حتى لو كان نشيط سياسيا هو حجم قليل جدا، وذلك لأن إدراك وانتباه أي إنسان محدودان مهما كانت عبقريته، فليس هناك إنسان قادر على الاهتمام بآلاف القضايا والقانونين وبمواقف 535 عضو كونجرس تجاهها، وإذا أضفنا إلى ذلك دور السياسيين على مستوى البيت الأبيض وعلى مستوى الولايات والمدن الأمريكية المختلفة في التأثير على هذه القضايا والسياسات، وأهمية أني يعي المواطن العادي بهم جميعا وبسلوكهم، لوجدنا أن المواطن العادي لا يستطيع الاهتمام سوى بعدد محدود جدا من القضايا التي تقدم له بشكل عام وقيمي وأيديولوجي يتلافى التفاصيل حتى لا يرهق مستقبلها

أعضاء الكونجرس يدركون هذه الحقيقة بشكل جيد، ويستخدمونها جيدا، ويعلمون أن المواطن العادي ليس لديه اهتمام بالغالبية العظمى من القضايا المطروحة وأن اهتمامه يقتصر على عدد محدود جدا من القضايا، وهذا بالطبع يساعد عضو الكونجرس على تطبيق مبدأ السلامة في صناعة الغالبية العظمى من القرارات

مصادر النصائح لأعضاء الكونجرس

وأول مصدر يلجأ إليه عضو الكونجرس في الحصول على النصيحة هو زملائه بالكونجرس خاصة أبناء حزبه والنواب القادمين من ولايته الأقدم منه وأصحاب الخبرة، وذلك لتشابه ظروفهم مع ظروفه مع امتلاكهم الخبرة، ولسبب أخر هام هو أنهم معتادين على صناعة القرارات السياسية التي تأخذ في اعتبارها الاعتبارات السياسية وليس فقط الاعتبارات المتعلقة بالحقيقة بمفهومها الأكاديمي المجرد. كما أن أعضاء الكونجرس يتميزون بأنهم باقون بالكونجرس ومعروفين مما يعطيهم مصداقية ويحول بينهم أيضا وبين خداع زملائهم

ويرتبط أعضاء الكونجرس مع بعضهم بعضا من خلال عشرات التجمعات الرسمية وغير الرسمية التي تجمعهم داخل الكونجرس وخارجه، والتي تقوم على أسس عديدة كالتكتلات الحزبية مثل تجمع أعضاء الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي، وأخرى عرقية مثل تكتل أعضاء الكونجرس الأفارقة الأمريكيين، وهناك تحالفات إيديولوجية ينقسم فيها أعضاء الكونجرس وفقا لدرجة انتمائهم إلى اليسار أو اليمين الأمريكيين، وهناك تحالفات حول قضايا معينة مثل الأسلحة الصغيرة وانتشارها في المجتمع الأمريكي ومثل الإجهاض، هناك أيضا تحالفات تنشأ بخصوص قضايا مؤقتة تظهر ثم تختفي

ويتنقل أعضاء الكونجرس بين هذه التحالفات وغيرها باحثين عن مصادر موثوق فيها للنصيحة، حتى إذا عثروا عليها بين زملائهم الموثوق فيهم استخدموها بشكل مذهل أحيانا، إذا تشير بعض الدراسات التي أجريت حول هذه القضية إلى أن بعض أعضاء الكونجرس يصوتون على تشريعات قوانين لم يقرؤها أو يسمعوا بها لمجرد معرفتهم أن فلان من زملائهم صوتوا عليها بشكل معين، وإذا أتيحت لك فرصة حضور إحدى جلسات الاستماع بالكونجرس الأمريكي فسوف تجد أن رجال الكونجرس يتنقلون بين جلسات الاستماع وجلسات التصويت بشكل مستمر راكضين أحيانا، إذا ينبغي عليهم التعامل مضطرين مع جدول مليء بالإعمال وبعشرات القضايا المطروحة للتصويت بشكل مستمر

بعد أخذ نصائح زملائهم الموثوق فيهم يهتم أعضاء الكونجرس بمعرفة نصائح قيادات أحزابهم بالكونجرس، كما يهتمون أيضا وعلى مستوى أقل بمعرفة نصائح قيادات الناخبين بدوائرهم وسبب قلة الأهمية هنا أن الناخبين لا يهتمون إلا بعدد قليل جدا من القضايا كما شرحنا في السابق

هناك أيضا دور هام وإن كان محدود لجماعات المصالح لأنها محدودة الاهتمام أيضا مثلها مثل جماعات الناخبين فكل جماعة تهتم بعدد قليل جدا من القضايا، كما يهتم أعضاء الكونجرس بقراءة الجرائد الكبرى كجريدة واشنطن بوست ونيويورك تايمز لمعرفة ما يحدث بالولايات المتحدة وتوجهات الرأي العام من خلالها، وفي أحيان كثيرة يستشهد أعضاء الكونجرس بمقالات وتقارير نشرت في هذه الجرائد خلال جلسات الكونجرس معتبرا إياها مصدرا هاما وموثوقا به للمعلومات، وفي رأيي أن أهميتها هنا ترتبط بعوامل عديدة على رأسها أنها استطاعت الوصول إلى أعين وانتباه عضو الكونجرس لدقائق قليلة كونت فيها إداركه لقضية معينة في ظل انشغاله الشديد

أما بالنسبة لمساعدي أعضاء الكونجرس فدورهم في التأثير عليه هو كالسهل الممتنع فهم شديدي التأثير لدرجة أن عضو الكونجرس أحيانا لا يدرك وجودهم، وأهمية دورهم تنبع من كونهم يقدمون مساعدات غير متناهية لعضو الكونجرس مثل دراسة القضايا، ورفع تقارير بخصوصها إليه، وتنظيم وقته، واللقاء مع ممثلي جماعات المصالح، ولكن الكثير من أعضاء الكونجرس لا يشعرون بتأثير مساعديهم عليهم لأنهم باختصار يعتبرونهم جزء منهم

تفرض الظروف السابقة على عضو الكونجرس أسلوب معين في اتخاذ القرارات يتبع كما ذكرنا مبدأ "السلامة أولا"، ولو عملنا أن الكونجرس يمرر في المتوسط حوالي ألفي تشريع من بين عشرة آلاف تشريع تطرح عليه كل عام في المتوسط لأمكننا القول - وفقا للدراسات التي أطلعنا عليها - أن عضو الكونجرس يتخذ قراراته تجاه معظم هذه القضايا بأسلوب سلس بعيد عن المواجهة، وذلك بسبب أن غالبية جماعات المصالح وتحالفات الناخبين وحتى وسائل الإعلام لا يهتمون إلا بعدد قليل من القضايا المطروحة، كما أن لكل جماعة اهتمامها المحدد بقضية معينة، كما أن اهتمامهم هذا لا يتعدى مستوى العموميات ولا يصل للتفاصيل في كثير من الأحيان

ولذا يصوت عضو الكونجرس على عدد كبير من التشريعات متبعا نصائح زملائه الموثوق فيه وقيادات حزبه مادامت هذه التشريعات لا تغضب أحد

بقي لنا أن نناقش في هذه المقالة مسألتين، أولهما أن نذكر القارئ الكريم بأن النظرية السابقة ليست النظرية الوحيدة المطروحة لتفسير الأسلوب الذي يصنع من خلاله أعضاء الكونجرس الأمريكي قراراتهم فهناك نظريات أخرى تركز على دور المؤسسات داخل الكونجرس كاللجان والأحزاب في صنع القرارات، وهناك نظريات أخرى تركز على دور السياق العامة والبيئة السياسية خارج الكونجرس خاصة على المدى الطويل وبفعل فترات التغير التاريخية

أما المسألة الثانية فهي أن نحاول سريعا الاستفادة من النظرية السابقة فيما يتعلق بفهم الأسلوب الذي يتخذ به أعضاء الكونجرس قراراتهم بخصوص قضايا المسلمين والعرب، وأحب أن أشير هنا إلى دروس خمسة أساسية

قرارات الكونجرس تجاه قضايا المسلمين والعرب

أولا: النظرية السابقة تعطى المواطن المسلم والعرب العادي فرصة أكبر للتأثير على موقف عضو الكونجرس الأمريكي من قضاياه، فهناك أسلوبان يمكن النظر من خلالها لدور الفرد في التأثير على عضو الكونجرس وفقا للنظرية السابقة، النظرة الأول ترى أن عضو الكونجرس شديد الانشغال قد لا يبالي بتأثير الفرد العادي وسيحاول تلافيه، أما النظرة الثانية فهي ترى أن كثرة أشغال عضو الكونجرس تجعله شديد التأثر بأي نصيحة تصل إليه بسبب قلة الوقت التي يمكن أن يمنحه لتلقى هذه النصائح

ولذا يركز كثير من خبراء اللوبي عند محاضرتهم بخصوص أفضل سبل التأثير على أعضاء الكونجرس على أهمية الاختصار إذا يرون ضرورة اختصار أية قضية يرجى عرضها على عضو الكونجرس في صفحة واحدة لا أكثر، لأن عضو الكونجرس – في ظل انشغاله الشديد – لن يستطيع قراءة أكثر من صفحة واحدة

ثانيا: الدرس السابق يعني أن وظيفة المسلمين والعرب الساعين إلى التأثير على أعضاء الكونجرس هي وظيفة سهلة نسبيا لا تتعدى صياغة صفحة واحدة عن كل قضية يهتمون بها وإيصالها إلى عضو الكونجرس، ويجب هنا أن نشير إلى أن تأثير هذه الصفحة سوف يتوقف على عوامل عديدة هامة مثل دقة صياغتها بشكل عملي يرتبط بشيء يمكن أن يقدمه عضو الكونجرس للجماعات المسلمة والعربية، كما يتوقف على قدرة هذه الجماعات على الوصول إلى عضو الكونجرس، وعلى الوصول إلى الإعلام وإلى باقي صناع القرار في واشنطن وإيصال تلك الصفحة الواحدة إليهم بشكل يجعلها مطروحة في مختلف أروقة صنع القرار بواشنطن ومن ثم يقنع عضو الكونجرس بأن الصفحة الواحدة تعالج قضية ذات حضور بواشنطن

ثالثا: منظور "السلامة أولا" الذي تحدثنا عنه في المقالة يمكن أن يفسر لنا أسباب نجاح اللوبي الموالي لإسرائيل في إخافة عدد كبير من أعضاء الكونجرس من مساندة قضايا المسلمين والعرب في أمريكا، فوجود اللوبي الموالي لإسرائيل القوي والمنظم وتحالفه مع قوي اليمين الأمريكي المتشددة من شأنه أن يخيف كثير من أعضاء الكونجرس من الخوض في القضايا التي تمس مصالح هذه اللوبي

رابعا: هيمنة اللوبي الموالي لإسرائيل على القضايا المتعلقة بمصالح إسرائيل في الكونجرس لم تمنع العشرات من أعضاء الكونجرس من تأييد قضايا المسلمين والعرب في السنوات الأخيرة وفي الفترة الحالية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وذلك إيمانا منهم بعدالة قضية الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يعني أن لمبدأ "السلامة أولا" الذي يتبعه غالبية أعضاء الكونجرس استثناءات وحدود، وهو يعني أيضا أن لجماعات المصالح المسلمة والعربية الأمريكية دورا كبيرا يمكن أن تلعبه لتقديم مصالحهم وإعلاء قضاياهم في أروقة صناعة القرار الأمريكية

خامسا: الدرس الأخير والأهم هو أنه ينبغي على المسلمين والعرب الأمريكيين أن يتعلموا كيفية تقديم نصائح موثوق فيها لعضو الكونجرس الأمريكي، وذلك بأن يكونوا في مواضع الثقة المعروفة والمحترمة من قبلهم، وعلى رأسها عضوية الكونجرس وقيادة الأحزاب والعمل كمساعدين لأعضاء الكونجرس، وقد رأينا إقبالا ملحوظا من قبل الشباب المسلم والعربي الأمريكي على العمل كمساعدين لأعضاء الكونجرس خلال الفترة الأخيرة، ونأمل أن يقود هذه الاهتمام إلى تشجيع السياسيين المسلمين والعرب الأمريكيين المرتبطين بقضايا أمتهم بشكل حقيقي على السعي إلى الوصول إلى عضوية الكونجرس، كما نأمل في أن يكلل سعيهم هذا بالنجاح في المستقبل القريب كما نجحوا في احتلال مناصب عديدة هامة على مستوي الولايات والمدن الأمريكية المختلفة

Wednesday, March 12, 2003

دور المال في الانتخابات التشريعية الأمريكية 2002
بقلم: علاء بيومي

نشر في 12 مارس 2003

نص المقال

أصدر مركز أبحاث أمريكي معني بتتبع دور المال في الانتخابات الأمريكية يسمى مركز السياسات المتجاوبة
(The Center for Responsive Politics)
إحصاءات تتعلق بحجم التبرعات السياسية التي جمعت وأنفقت خلال الانتخابات التشريعية الأمريكية الأخيرة لعام 2002، وتوضح البيانات التي وفرها المركز - والذي يصف نفسه بأنه غير منحاز حزبيا - الارتفاع الكبير في تكلفة الانتخابات وتكلفة الفوز بالمقاعد البرلمانية، وزيادة حاجة المرشحين السياسيين الأمريكيين لجمع كميات أكبر من الأموال لتمويل حملاتهم الانتخابية المتزايدة التكاليف، ومن ثم تزايد أهمية الدور الذي تلعبه مجموعات صغيرة جدا من الناشطين الذين يمتلكون الأموال والإرادة السياسية في التأثير على سير الحياة الديمقراطية الأمريكية

مجموع الأموال السياسية ومصادرها

وقد أحصى المركز حوالي 933 مليون دولار أمريكي أنفقت على انتخابات عام 2002 عن طريق المرشحين والأحزاب ولجان العمل السياسية (PACs) وهي منظمات سياسية تنشأ بغرض جمع التبرعات السياسية وتوجيهها إلى المرشحين المهتمين بقضايا تلك اللجان

وتشير إحصاءات المركز إلى أن الأموال التي أنفقت على انتخابات العالم الماضي والتي تقترب من البليون دولار أمريكي أتت من حوالي 640 ألف متبرع أمريكي فقط، وهو ما يعادل حوالي 0.22 % من مجموع الشعب الأمريكي الذي يبلغ عدده حوالي 288.5 مليون نسمة أو 0.3 % من مجموع المواطنين البالغين في الولايات المتحدة ( 18 عاما فأكثر) والذي يبلغ عددهم 214.3 مليون نسمة

ويمثل رقم الستمائة وأربعين ألف متبرع عدد المتبرعين من أفراد ولجان عمل سياسية وأحزاب ومؤسسات الذين تبرعوا بمبالغ كبيرة بشكل كافي (200 دولار أمريكي فأكثر) لتسجيلها لدى الجهات الحكومية المعنية بتسجيل التبرعات السياسية للانتخابات الفيدرالية. ومن بين الستمائة وأربعين ألف متبرع الذي تبرعوا بمائتي دولار أو أكثر حوالي 252 ألف متبرع تبرعوا بألف دولار فأكثر من بينهم 9755 متبرع تبرعوا بعشرة آلاف دولار فأكثر، كما تبرع 14 متبرع (شخص أو هيئة) بأكثر من مليون دولار أمريكي

ووفقا لهذه الإحصاءات والأرقام تبلغ نسبة المتبرعين الذي تبرعوا بألف دولار فأكثر والذين يبلغ عددهم 252 ألف متبرع تقريبا - مقارنة بمجموع الشعب الأمريكي - أقل من واحد من العشرة في المائة من الأمريكيين أو حوالي 0.09 % من مجموع الشعب الأمريكي، و0.12 % من مجموع الأمريكيين البالغين في الوقت الذي دفع فيه هؤلاء حوالي 779 مليون دولار وهو ما يعادل نسبة 83 % من المجموع الكلي للأموال التي أنفقت على الانتخابات الفيدرالية الأمريكية خلال عام 2002

تكاليف المقاعد البرلمانية

وبالنسبة للأموال التي يحتاجها المرشحون السياسيون للفوز بمقاعد مجلسي الكونجرس الأمريكي يشير مركز السياسات المتجاوبة إلى أن متوسط الأموال التي جمعها كل مرشح من المرشحين الفائزين بمقاعد في مجلس النواب الأمريكي خلال انتخابات العام الماضي بلغت 965 ألف دولار أمريكي، مقابل 5 مليون دولار لكل مرشح فائز بمقعد من مقاعد مجلس الشيوخ

وبالنسبة لمصادر هذه الأموال تشير الإحصاءات إلى أن كل مرشح من المرشحين الفائزين بمقاعد في مجلس النواب الأمريكي جمع في المتوسط 42.7 % من التبرعات التي جمعها من لجان العمل السياسية وجمع البقية من أفراد، بينما جمع مرشح مجلس الشيوخ الفائز في المتوسط 24.5 % من التبرعات التي جمعها من لجان العمل السياسية وجمع البقية من أفراد

وبالنسبة لأكثر الحملات الانتخابية الفيدرالية تكلفة في عام 2002 فقد وصلت تكلفة الفوز بأحد مقاعد مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية نورث كالورينا إلى 14 مليون دولار أمريكي، كما بلغت تكلفة أحد حملات الفوز بأحد مقاعد مجلس النواب الأمريكي عن ولاية وست فيرجينيا ثمانية ملايين دولار أمريكي

وقد شهدت الانتخابات التشريعية لعام 2000 رقما قياسيا من حيث تكلفة الفوز بأحد مقاعد مجلس الشيوخ الأمريكي إذ أنفق رجل الأعمال جون كورزين (ديمقراطي عن ولاية نيوجرسي) حوالي 63 مليون دولار أمريكيي للفوز بأحد مقاعد مجلس الشيوخ الأمريكي

لجان العمل السياسية تدفع أكثر للقيادات

وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة الأموال التي حصل عليها قيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونجرس الأمريكي لتمويل حملاتهم الانتخابية الأخيرة من لجان العمل السياسية تفوق متوسط ما حصل عليه المرشح العادي من لجان العمل السياسية

فعلى سبيل المثال جمع دينيس هاريست المتحدث باسم مجلس النواب الأمريكي (وهو جمهوري من ولاية ألينوي) 44.1 % من التبرعات السياسية التي جمعها في الانتخابات الأخيرة من لجان العمل السياسية، كما جمع توم دلاي زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي 63 % من التبرعات السياسية التي جمعها من لجان العمل السياسية، بينما جمعت نانسي بالوسي زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي 55.8 % من التبرعات التي جمعتها من لجان العمل السياسية، وهو ما يمثل ارتفاعا ملحوظا عن نسبة التبرعات التي يحصل عليها المرشح العادي الفائز بمقعد في مجلس النواب الأمريكي من لجان العمل السياسية والتي تبلغ في المتوسط 42.7 % من التبرعات التي جمعها كل مرشح فائز

وبالنسبة لمجلس الشيوخ الأمريكي فقد جمع توم داشل زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي 32 % من التبرعات التي جمعها من لجان العمل السياسية، في حين جمع بيل فريست زعيم الأغلبية الجمهورية 19.6 % من التبرعات التي جمعها من لجان العمل السياسية وهو ما يمثل انخفاضا عن متوسط نسبة التبرعات التي يجمعها مرشح مجلس الشيوخ العادي الفائز في الانتخابات من لجان العمل السياسية والتي تبلغ 24.5 % من مجموع التبرعات. وقد يعود ذلك إلى أن بيل فريست تولى مقعده كرئيس الكتلة الجمهورية بمجلس النواب الأمريكي مؤخرا وبعد انتهاء انتخابات عام 2002 والتي لم يتحتم على فريست خوضها

من أين تأتي الأموال جغرافيا

احتلت العاصمة الأمريكية واشنطن أهم مصدر للتبرعات السياسية في الولايات المتحدة خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة إذ أتى منها 252 مليون دولار أمريكي أو ما يعادل 27 % من مجمل تكلفة الانتخابات، يليها ولاية كاليفورنيا والتي أتى منها 138 مليون دولار أو ما يعادل 15 % من مجمل تكلفة الانتخابات، ثم ولاية نيويورك التي أتي منها 109 مليون دولار أو ما يعادل 11.6 % من مجمل تكلفة الانتخابات، ثم ولاية تكساس التي أتي منها 90 مليون دولار

ومن المعروف أن العاصمة الأمريكية واشنطن هي مدينة صغيرة لا تتناسب في حجم السكان أو المساحة مع ولايات كبيرة مثل كاليفورنيا ونيويورك وتكساس، كما أنها لا تحظي بأية مقاعد في الكونجرس الأمريكي، وإنما يعود ثرائها السياسي إلى تمركز عدد كبير من جماعات المصالح ولجان العمل السياسية بها

تتبع دور المال في الانتخابات الأمريكية يعطي صورة هامة عن سير العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة والقوى التي تتحكم فيها وكيف يمكن لجماعات صغيرة نشطة ومنظمة أن تحصل على قدر هائل من النفوذ من خلال تمويلها لحملات المرشحين السياسيين المساندين لها

هذه الحقائق توضح ضرورة آلا يستهين أية شخص بمساهمته الإيجابية في العملية السياسية مهما كان نوعها أو طبيعتها لأن من الواضح أن الحياة السياسية تصنعها أقلية صغيرة جدا حتى في أكبر البلدان الديمقراطية