Monday, September 11, 2006

صورة الإسلام في أميركا بعد خمس سنوات على 11/9

مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 11 سبتمبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

أحد أهم الأسئلة المطروحة في الذكرى السنوية الخامسة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 هو كيف أثرت تلك الأحداث وتبعاتها خلال السنوات الخمسة الأخيرة على نظرة الأميركيين تجاه الإسلام والمسلمين

هذا إضافة إلى التساؤل حول طبيعة العوامل التي ساهمت في صياغة تلك النظرة خلال السنوات الخمس التي باتت تفصلنا عن الحدث التاريخي الهام

التحيزات الدفينة

قبل الشروع في إجابة السؤالين السابقين ينبغي أن نذكر أنفسنا بأن صورة الإسلام في أميركا هي نتاج لعوامل ثقافية وسياسية بعيدة الجذور، فعلى المستوى الثقافي تبرز دراسات علم الإستشراق أن الإسلام والمسلمين - والعالم غير الغربي عموما - يعانون كثيرا من التشويه والإجحاف في عقلية المواطن الغربي والأميركي نتيجة لتحيزات دينية وفكرية وثقافية تاريخية دفينة

وعلى المستوى السياسي عانت صورة العربي سياسيا لعقود نتيجة للصراع العربي الإسرائيلي، وعانت صورة المسلمين بأميركا سياسيا منذ وقوع الثورة الإسلامية بإيران في أواخر السبعينات على أقل تقدير، حيث رأي أميركا في الثورة الإيرانية تهديدا لمصالحها الإستراتيجية بالمنطقة تحت شعار إسلامي، هذا إضافة إلى ترشيح عدد متزايد من الأكاديميين والسياسيين الأميركيين للإسلام للعب دور العدو الدولي الجديد للولايات المتحدة بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وهي ترشيحات زادت وتيرتها خلال العقد الماضي، وأصبح ينظر إليها حاليا - من قبل بعض السياسيين الأميركيين - على أنها نبوءات موفقة كان ينبغي الانتباه لها بدرجة أكبر

عموما أحداث سبتمبر والسنوات الخمس الماضية أضافت للتحيزات السابقة الدفينة عدد إضافي من العوامل والمتغيرات التي تركت تأثيرا واضحا على صورة الإسلام والمسلمين بأميركا، والتي نلخصها هنا في خمسة عوامل رئيسية

الجهل كمصدر للتحيز

أولا: مختلف الاستطلاعات التي أجريت عن رأي الأميركيين تجاه الإسلام والمسلمين أوضحت أن ثلثي الأميركيين على الأقل يفتقرون للمعرفة الكافية بالإسلام والمسلمين، وأن الأميركيين الذين يعرفون الإسلام بدرجة كافية أو الذين يمتلكون أصدقاء ومعارف مسلمين يمتلكون أكثر إيجابية تجاه الإسلام والمسلمين، أكثر من ذلك أثبتت الاستطلاعات أن ارتفاع مستوى المواطن الأميركي التعليمي يؤثر إيجابيا على نظرته للإسلام والمسلمين

هذا يعني أن الجهل بصفة عامة والجهل بالإسلام بصفة خاصة يقودان إلى التحيز والعداء، فالجهل يترك المواطن الأميركي فريسة لتحيزات الإعلام ولأجندة الجماعات السياسية ذات المصالح الضيقة ولتقلبات الأحداث الدولية

معتقدات وأزمات وخصائص ديمغرافية

ثانيا: تنتشر مشاعر سلبية عن الإسلام خلال الفترة الحالية في أوساط نسبة لا يستهان بها من الأميركيين تتراوح بين 20-33% في الأوقات العادية، وترتفع إلى 25-40% في أوقات الأزمات

هذه المشاعر السلبية ترتبط بمعتقدات وخصائص ديمغرافية وظروف سياسية معينة، فعلى جانب المعتقدات ترتبط صورة الإسلام السلبية في عقلية المواطن الأميركي بأفكار نمطية معنية على رأسها الإعتقاد بأن الإسلام يحض على العنف وعلى إضطهاد المرأة وعلى كره أبناء الأديان الأخرى والحد من حقوقهم وحرياتهم

وفيما يتعلق بالعوامل الديمغرافية تنتشر الرؤى السلبية عن الإسلام بدرجة أكبر في أوساط أبناء التيار اليميني المحافظ وخاصة كبار السن منهم، ويتركز هؤلاء جغرافيا في ولايات الجنوب والوسط الأميركي وفي المناطق الزراعية والبعيدة عن المدن، في حين يميل أبناء التيار الليبرالي والشباب وسكان المدن للنظر بشكل أكثر إيجابية تجاه الإسلام

وعلى جانب الظروف السياسية هناك إرتباط واضح وقوي بين فترات الأزمات الدولية - خاصة الأزمات المتعلقة بأحداث إرهابية - وبين تردي صورة الإسلام والمسلمين لدى الشعب الأميركي، حيث تؤدى تلك الأحداث لقفزة في التغطية الإعلامية السلبية للإسلام والمسلمين، كما تزيد بوضوح من دعاوي التمييز ضد مسلمي أميركا ومن قابلية الشعب الأميركي للموافقة على تحويل تلك الدعاوى لسياسات أمنية حقيقية

وعلى الصعيد نفسه أثرت بعض سياسات الإدارة الأميركية تجاه العالم الإسلامي – كالحرب على العراق – على صورة الإسلام والمسلمين بأميركا، حيث أثبت إستطلاعات مختلفة أن مؤيدي الحرب على العراق أكثر قابلية للنظر سلبيا تجاه الإسلام والمسلمين، وقد يرتبط هذا بالطبع بالدعاية السلبية التي تصاحب الحروب وما شابهها من السياسات

جماعات سياسية متحيزة

ثالثا: صورة الإسلام في أميركا لا تتشكل في بيئة محايدة، فهناك دور واضح لبعض الجماعات الأميركية النشطة سياسيا وإعلاميا والتي تروج لأجندات سياسية وفكرية متحيزة ضد الإسلام والمسلمين، وعلى رأس تلك الجماعات ثلاثة فرق رئيسية

الفرقة الأولى تضم المحافظين الجدد، وهي فئة يصعب تحديد موقفها من الإسلام والمسلمين لسبب أساسي وهو صعوبة تحديد من ينتمون إليها على الرغم من الكتابات العديدة التي تعريفها، وبصفة عامة يمكن تقسيم هذه الفئة من حيث موقفها من الإسلام والمسلمين إلى ثلاثة تيارات أساسية، أولها تيار عام يضم غالبية أبناء هذه الفئة ويتميز بالتركيز المبالغ فيه على العالم الإسلامي والاندفاع نحو استخدام القوة لتطبيق رؤاهم بخصوص العالم الإسلامي ونحو النظر لبعض الجماعات المسلمة على أنهم عدو أميركا الأساسي، ويمكن القول أن نفوذ هذه الفئة وأفكارها أوجدا جوا من الشك والخوف غير المسبوق تجاه المسلمين، كما أنتجا سياسات ذات تبعات كارثية على صورة الإسلام وعلى رأسها حرب العراق

الفئة الثانية - وهي أقلية ضمن تلك المجموعة - ساندت مساعي الإدارة الأميركية الحالية قصيرة العمر وضعيفة الموارد لدفع قوى الديمقراطية في العالم الإسلامي، ويلاحظ أن هذه الفئة رفعت شعارات تطالب بمشاركة الجماعات الإسلامية في العملية السياسية بالعالم الإسلامي مما أوجد حالة حراك نسبي في الخطاب السائد بواشنطن تجاه ما هو إسلامي لفترة قصيرة، وهذا لا يعني أن تلك الفئة أقل تحيزا تجاه الإسلام والمسلمين، ولكن خطابها الديمقراطي إمتلك أبعادا إيجابية يجب رصدها

الفئة الثالثة تضم بعض الجماعات المتطرفة في مساندة إسرائيل وهي تربط المحافظين الجدد بقوى لوبي إسرائيل التقليدية، ويمكن الإشارة إلى منبر أبحاث الشرق الأوسط والذي يرأسه الباحث الأميركي المتشدد دانيال بايبس كنموذج لتلك الفئة، وهي فئة رافضة لفكرة نشر الديمقراطية، وتروج لأجندة شديدة التطرف مفادها ترويج أسوء الأفكار النمطية عن المسلمين في شكل إنتاج يبدو أنه فكري أو بحثي رصين، ومن تلك الأفكار إضطهاد المسلمين للمرأة وللأقليات الدينية، وحض الإسلام على العنف وكراهية الآخرين

الفرقة الثانية من الجماعات السياسية المتحيزة ضد الإسلام والمسلمين هي جماعات لوبي إسرائيل، ويلاحظ هنا أن بعض الإستطلاعات أثبتت بصفة عامة وجود إرتباط بين مساندة إسرائيل والقابلية للنظر سلبيا تجاه الإسلام والمسلمين، هذا إضافة إلى نشاط اللوبي المذكور في أوقات الأزمات – كحرب لبنان الأخيرة – لقمع أي خطاب إيجابي عن الحقوق المسلمة العربية، كما كشفت دراسات وتقارير متواترة عن جهات مختلفة أن لوبي إسرائيل ينشط بصفة مستمرة وراء الستار لتهميش وعزل مسلمي وعرب أميركا على المستوى السياسي والعام بالولايات المتحدة خوفا من أن يؤدي نفوذهم المتزايد تدريجيا لتوعية الأميركيين بحقيقة ما يجري بالشرق الأوسط ومن ثم إضعاف التأييد الشعبي الأميركي المتآكل لإسرائيل

الفرقة الرئيسية الثالثة هي الجماعات المسيحية المتدينة والتي تشكل نسبة لا يستهان بها من أصوات الحزب الجمهوري تقدر أحيانا بحولي 40%، وترتبط هذه الفئة بالتشويه الذي تتعرض له صورة الإسلام بأميركا على أكثر من مستوى، أولها أن أبناء اليمين الأميركي المحافظ أكثر قابلية للنظر سلبيا للإسلام كما أفادت مختلف الإستطلاعات، كما تشير تقارير مختلفة أن بعض الأفكار والكتابات المنتشرة على نطاق واسع في أوساط اليمين الأميركي المتدين – مثل الكتابات التي تدور حول نبوءات أخر الزمان الإنجليكية – تحتوي على تصورات تضع غالبية المسلمين والعرب في معسكر أعداء المسيح والمسيحية

ثانيا: شنت بعض قيادات اليمين الأميركي المتدين حملة على الإدارة الأميركية بسبب وصفها الإيجابي للإسلام كدين في أعقاب 11-9، ثالثا: أقدمت بعض قيادات اليمين الأميركي المتدين واسعة النفوذ مثل بات روبرتسون وجيري فالويل وفرانكلين جرام على توجيه إساءات مباشرة وقوية للإسلام كدين على أهم وسائل الإعلام الإميركية، رابعا: تلعب وسائل الإعلام اليمينية العلمانية مثل قناة فوكس نيوز والدينية مثل القنوات والإذاعات المسيحية دورا واضحا في ترويج الأفكار الناقدة للإسلام وللمسلمين

مواقف النخب السياسية الأميركية

رابعا: تتميز مواقف النخب السياسية الأميركية تجاه ما يتعرض له المسلمون والعرب من تشويه وتمييز بالتضارب على أقل تعبير، فبينما حرصت أقلية بين النخب السياسية الليبرالية على نقد ظاهرة الإسلاموفوبيا (العداء للإسلام والمسلمين) لم تقدم غالبية أعضاء النخبة السياسية الأميركية حلولا واضحة للتعامل مع تلك الظاهرة أو مع ما يتعرض له المسلمون من تمييز في الولايات المتحدة، بل تسابقت غالبية تلك النخب على تسجيل أهداف سياسية مستغلين مشاعر العداء للإسلام والمسلمين بالمجتمع الأميركي كما حدث في مواقف عديدة مثل حادثة "موانئ دبي" وخلال الحرب الإسرائيلية على لبنان

أما فيما يتعلق بموقف الإدارة الأميركية نفسها فقد حرصت في أكثر من مناسبة على الفصل بين الإسلام ومعتقدات الإرهابيين، ولكنها في نفس الوقت إستخدمت مصطلحات مثل "الإسلام الراديكالي" والإسلام الفاشي" في وصف معتقدات الإرهابيين، وهي مصطلحات غير محددة التعريف تربط بين الإسلام والإرهاب خاصة لدى المواطن الأميركي العادي الذي يفتقر للمعرفة الكافية وللقدرة على فهم المغزى المحدد لتلك المصطلحات

المبادرات المسلمة والعربية لتحسين الصورة

خامسا: فيما يتعلق بموقف المسلمين والعرب في أميركا وخارجها تجاه ما تتعرض له صورة الإسلام والمسلمين من تشويه خلال السنوات الخمسة الأخيرة، يلاحظ بوضوح غياب أي مبادرات كبرى تهدف للتعامل مع هذه الظاهرة من داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها

ففي الوقت الذي أنفقت فيه أميركا مئات الملايين من الدورلات لإنشاء محطات تلفزيون وإذاعات ومطبوعات وبرامج مختلفة لكسب عقول وقلوب المسلمين والعرب في ظل خطط ذات أساس علمي قوي وتوجه سياسي ضعيف ومضطرب، لم يتمكن المسلمون والعرب في أميركا وخارجها حتى الآن من القيام بمبادرات موازية من حيث الحجم أو الهدف أو المدى أو التخطيط العلمي، فمبادرات المسلمين والعرب الأميركيين محدودة بحكم محدودية إمكانياتها، ومبادرات العالم الإسلامي متفرقة بحكم إختلاف جهات تنظيمها، ومحدودة أيضا فحتى الآن لم تطلق أي دولة عربية وإسلامية خطة عامة لتحسين صورة الإسلاميين والمسلمين في أميركا من خلال خطة علاقات عامة وسياسية تطبق على مدى زمني كافي

خاتمة

الضغوط السلبية السابقة لم تمنع من ظهور مبشرات إيجابية على رأسها زيادة رغبة الأميركيين في التعرف على الإسلام والمسلمين، وإعتراف غالبية الأميركيين (الثلثين) بعدم إمتلاكهم معرفة كافية عن الإسلام، واتساع رقعة التعاطف مع المسلمين والعرب في أوساط ليبرالية أميركية دينية وعلمانية مختلفة بما في ذلك جماعات حقوقية كبرى، وأخرى معنية بحقوق الأقليات وبنشر السلام، وتشكل العوامل السابقة فرص إيجابية حقيقية هامة يمكن حصادها لو تم ذلك من خلال جهد عملي منظم يتناسب في حجمه وإمكانياته مع حجمة التحدي الذي تواجهه صورة الإسلام والمسلمين في أميركا حاليا

-----

مقالات ذات صلة

مسلمو وعرب أميركا بين تبعات 11/9 والثورة اليمينية المضادة

الخطاب المسلم الأمريكي السائد

سبل مكافحة الإسلاموفوبيا في البيئة الأمريكية

تفسير جديد لأسباب إنتشار الإسلام بين الأفارقة الأمريكيين

حاضر الهوية المسلمة الأمريكية

Sunday, September 10, 2006

مسلمو وعرب أميركا بين تبعات 11/9 والثورة اليمينية المضادة


بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 10 سبتمبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

تمثل الذكرى السنوية الخامسة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 الإرهابي والتي تحل في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول الحالي فرصة هامة للوقوف على أهم خصائص ردة فعل الولايات المتحدة حكومة وشعبا تجاه مسلمي وعرب أميركا (من مواطنين ومهاجرين)، وذلك لأن المسافة الزمنية – خمس سنوات – التي تفصلنا عن الأحداث تعطينا قدرة على المقارنة وتمييز ردود الأفعال الرئيسية عن نظيرتها الهامشية

عصر المد الليبرالي

وإذا كانت العودة إلى الوراء وقراءة التاريخ مفيدتان في فهم ما يجري في الواقع المعاصر، فحري بنا البحث عن جذور أقدم لما يمر به المسلمون والعرب في أميركا من ظروف في الفترة الحالية، وقد يمثل عام 1965 - على وجه التحديد - وعقد الستينات - بشكل عام - نقطة مثالية لسرد قصة الجيل الراهن من مسلمي وعرب أميركا

ففي عقد الستينات دخلت الولايات المتحدة الأميركية مرحلة تاريخية جديدة يمكن وصفها بمرحلة "المد الليبرالي"، والتي ثار فيها المجتمع الأميركي – وخاصة أجياله الشابة – على بعض التقاليد والمؤسسات التقليدية السلبية داخل المجتمع الأميركي، وعلى رأسها مؤسسات العبودية والعنصرية الموجهة ضد السود والأقليات والمهاجرين بالمجتمع الأميركي، والنزعة العسكرية الإمبريالية في السياسية الخارجية الأميركية كما تمثلت في حرب فيتنام

وفي عام 1965 أجرت الحكومة الأميركية تعديلات جوهرية على قوانين الهجرة سمحت بدخول أعداد متزايدة من المهاجرين القادمين من مختلف بلدان العالم – بما في ذلك الدول المسلمة والعربية – إلى الولايات المتحدة والاستقرار فيها، وذلك في جو سادت فيه النزعات الثقافية المنادية بالتعددية واحترام حقوق وحريات وخصوصيات المهاجرين والأقليات وغير الممثلين سياسيا

ويعود لقوانين عام 1965 - والظروف الثقافية والسياسية التي سمحت بسنها - فضل كبير في قدوم واستقرار الجيل الراهن من مسلمي وعرب أميركا وهو جيل يختلف بدرجة كبيرة عن الهجرات العربية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهي هجرات غلب على أبناءها الديانة المسيحية، كما أتت إلى الولايات المتحدة في مرحلة تبنت فيها أميركا سياسة أكثر صرامة تجاه دمج الأقليات عرفت باسم "بوتقة الصهر" والتي سادت خلال النصف الأول من القرن العشرين

وفي المقابل جاء مهاجرو الستينيات من بلدان مسلمة وعربية مختلفة ليجدوا بيئة أميركية أكثر احتراما للتعددية الثقافية وللحقوق والحريات المدنية في ظل تطور واضح في وسائل الاتصال والمواصلات سمح للمهاجرين الجدد بالحفاظ على روابط أقوى مع أوطانهم الأم، وقد ساعدت الظروف السابقة مسلمي وعرب أميركا على بناء بنية متزايدة من المؤسسات الثقافية والدينية – تقدر حاليا بأكثر من ألفي مؤسسة – للحافظ على هوياتهم الثقافية والدينية ومصالحهم السياسية والعامة

الثورة اليمينية المضادة

ولكن إذا كان عقد الستينيات قد شهد أوج المد الليبرالي وحركات التعددية الثقافية بالولايات المتحدة فإنه شهد أيضا ميلاد حركات مقاومة يمينية أميركية محافظة سعت تدريجيا لإحداث "ثورة مضادة" ضد "المد الليبرالي" وهو ثورة رأى المتابعون أنها وقعت في أوائل التسعينات فيما عرف باسم "ثورة الجمهوريين" التي وقعت في عام 1994

الثورة اليمينية المضادة لم تكن لتتحقق دون توافر عدد كبير من العوامل الثقافية والسياسية والديمغرافية داخل أميركا وعلى المستوى الدولي، فعلى المستوى الدولي شهد عقد الستينيات هزيمة لأنظمة علمانية واشتراكية عبر العالم – خاصة في الشرق الأوسط – كما بدأت حركات دينية محافظة في الصعود سياسيا وثقافيا عبر العالم – بما في ذلك أميركا - بداية من السبعينات، وفي الثمانينات دخلت الاشتراكية ونموذجها السوفيتي الأهم مرحلة إعياء كبرى توجت بانهيار الإتحاد السوفيتي وانتصار أميركا في الحرب الباردة

وفي الداخل الأميركي ساهم عدد كبير من التغيرات الكبرى في تراجع مكانة اليسار وصعود اليمين تدريجيا على مختلفة الأصعدة، فعلى الصعيد الاقتصادي ساهم التحول من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الخدمات واقتصاد المعلومات في تراجع قوة ونفوذ العمال ونقاباتهم والتي كانت تمثل نواة أساسية لتعبئة قوى اليسار الأميركي الجماهيرية والسياسية، كما زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء في أميركا بشكل مضطرد، ففي عام 2005 بلغت ما تمتلكه أغني 20% من الأسر الأميركية نسبة 50.4 % من الدخل الأميركي وهي النسبة الأعلى منذ عام 1967، كما بلغ عدد الأميركيين الذين لا يمتلكون تأمينا صحيا 46.6 مليون أميركي، وفي العام نفسه بلغ متوسط دخل رؤساء الشركات 262 مرة مقارنة بدخل العامل العادي، وذلك مقارنة بـ 24 مرة فقط في عام 1965

على المستوى السياسي ساهمت الفجوة المتزايدة بين الفقراء والأغنياء في زيادة الفجوة بين توجهات النخب السياسية - التي يمولها الأثرياء - وتوجهات غالبية الشعب التي تعجز عن مجاراة إمكانيات ونفوذ الأثرياء، حيث تشير إحصاءات أحد مراكز الأبحاث الأميركية المستقلة المعنية بتتبع تأثير المال على السياسية الأميركية إلى أن 237 ألف متبرع تبرعوا في انتخابات عام 2002 التشريعية بنسبة تقدر بحوالي 83% من مجموع التبرعات السياسية التي جمعت في تلك الانتخابات – والتي تقدر بحوالي 873 مليون دولار أميركي - مع العلم بأن نسبة هؤلاء المتبرعين لا تتعدى أكثر من 0.08 % من مجموع الشعب الأميركي

وعلى المستوى الديمغرافي استقبلت أميركا منذ السبعينات أكثر من 34 مليون مهاجر، كما تمركز الأفارقة الأميركيين والأقليات في المدن الكبرى خاصة في الشمال الشرقي وولايات الغرب الليبرالية مثل كاليفورنيا مما أدى لنزوح عدد متزايد من السكان البيض من تلك المدن واستقرارهم في الضواحي وفي ولايات الجنوب التي شهدت صعودا متزايدا للحركات المسيحية الدينية، والتي اتحدت مع أثرياء الجنوب الذين زادوا غنى ومع قيادات الحزب الجمهوري المحافظة للقيام بثورة ضد قيادات الحزب الديمقراطي والنخب الثقافية الليبرالية التي لم يرض عنها المسيحيون المحافظون

وقادت التطورات السابقة تدريجيا إلى فوز الجمهوريين بأغلبية مقاعد مجلس النواب الأمريكي لأول مرة منذ عقود في عام 1994، كما حقق الجمهوريون سيطرة كاملة على الكونجرس بمجلسيه والبيت الأبيض في عام 2002 حيث بدأ الساسة الجمهوريون في فرض أجندة تبطل ما حققه الليبراليون خلال العقود الأربعة السابقة، وعلى رأس بنود الأجندة المحافظة خفض الضرائب والحد من برامج الرفاهية وخصخصة برامج الضمان الاجتماعي

وعلى المستوى الثقافي قادت الثورة اليمينية المضادة إلى ما أطلق عليه البعض اسم "الحرب المدنية الثانية" والتي هدفت لإبطال إنجازات أجندة الليبراليين المنادية بالتعددية الثقافية، حيث طالب المحافظون تدريجيا بالحد من الهجرات ورفض التعددية الثقافية وفرض التراث الغربي في صورته الإنجلوساكسونية البروتستاتينية، والحد من النقد الذي توجهه الجماعات اليسارية للتراث الغربي التقليدي المحافظ، هذا إضافة إلى الدفع بأجندة المحافظين دينيا على مستويات فكرية وسياسية مختلفة مثل مكافحة الإجهاض ورفض الاعتراف بحقوق الشواذ وتحدي نظرية "النشوء والتطور"

11/9 الأزمة والعدو الجديد

في وقت وصلت فيه أمواج الثورة المضادة ارتفاعات غير مسبوقة، وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتمنح أصحاب الأجندات الثقافية والاجتماعية والسياسية المنغلقة عاملين هامين إضافيين ساعدا على تقوية مواقفهم المتشددة ضد المهاجرين والأقليات والأجانب بصفة عامة وضد المسلمين والعرب بصفة خاصة

العامل الأول هو الشعور بالأزمة والتهديد والخوف الناتج عن هجمات 11/9 الإرهابية، وهنا يؤكد البعض – مثل ميشيل واكر مؤلفة كتاب "امنعوهم" المتعاطف مع المهاجرين والصادر عن مطابع بابليك أفاريز الأميركية في مايو الماضي – إلى أن الأميركيين عادة ما يسيئون التصرف في أوقات الأزمات، وهي عادة سيئة كررها الأميركيون بشكل متكرر كما حدث ضد المهاجرين الألمان في الحرب العالمية الأولى وضد المهاجرين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية

العامل الثاني هو بلورة دور المسلمين كعدو بديل للإتحاد السوفيتي، وهنا يجب الإشارة إلى كتاب الأكاديمي والمفكر الأميركي واسع النفوذ صموئيل هنتينجتون الصادر في عام 2004 بعنوان "من نحن: تحديات الهوية الوطنية الأميركية" والذي عبر فيه صراحة عن اعتقاده بأن الأميركيين يتوحدون بشكل أقوى حول هويتهم الوطنية في أوقات الأزمات وضد الأعداء المشتركين، مؤكدا على إمكانية أن يلعب "الإسلاميون المسلحون" - والذين لم يعرفهم في كتابه بشكل دقيق أو محدد - دور العدو الجديد الذي يوحد الأميركيين ضده

إضافة إلى العوامل السابقة وقعت أحدث سبتمبر/أيلول في فترة كساد اقتصادي أمريكي، وفي وقت صعدت فيه قوى المسيحيين المتدينين السياسية بما يحمله بعض قياداتهم من رؤى سلبية تجاه المسلمين وتجاه الشرق الأوسط تماشيا مع إيمانهم بنبوءات آخر الزمان الإنجليكية، وفي فترة صعود لنفوذ المحافظين الجدد داخل أروقة السياسة الخارجية الأميركية بتركيزهم المبالغ فيه على العالم الإسلامي والشرق الأوسط، وقد ساعدت العوامل السابقة مجتمعة على مضاعفة أثر أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 على مسلمي وعرب أميركا

تبعات خمس سنوات

شكلت العوامل السابقة ردة فعل الولايات المتحدة حكومة وشعبا تجاه المسلمين والعرب منذ 11/9 على النحو التالي

أولا: فيما يتعلق بصورة الإسلام والمسلمين توضح الاستطلاعات المختلفة أن مشاعر التمييز والعداء ضد المسلمين تنتشر في نسبة تتراوح بين 20-33% من الأميركيين، وتتراوح النسبة ذاتها بين 25-40% في أوقات الأزمات

ثانيا: على مستوى الحقوق المدنية استمرت حوادث التمييز ضد مسلمي أميركا في ارتفاع بشكل مضطرد، وإن كان أقل في نسبة الارتفاع السنوي مقارنة بالفترة التالية للهجمات، هذا إضافة إلى دخول مؤسسات الدولة الأميركية نفسها سباق المنافسة بين أهم مصادر التمييز ضد مسلمي أميركا

ثالثا: على المستوى السياسي لم تقدم القيادة السياسية الأميركية عروضا محددة للتعامل مع ما يتعرض له الإسلام والمسلمون من تشويه، ففي الوقت الذي حرصت فيه الإدارة على مديح الإسلام كدين والفصل بينه وبين معتقدات الإرهابيين استخدمت الإدارة أوصاف مثل "الإسلاميين الراديكاليين" و"الإسلاميين الفاشيين" ربطت بشكل غير واضح أو محدد - خاصة لدى المواطن الأميركي العادي ضعيف المعرفة بالإسلام - بين الإرهابيين والإسلام

رابعا: على المستوى الاجتماعي دفعت الضغوط السابقة بعض المسلمين للعزلة أو إنهاء "حلمهم الأميركي" طواعية بمغادرة أميركا، كما دفعت البعض للتملص من الإسلام كهوية ومن المسلمين كجماعة وكحركة سياسية

على الجانب الإيجابي يمكن الإشارة إلى الظواهر التالية

أولا: حافظ مسلمو وعرب أميركا ومنظماتهم الرئيسية على خطاب وموقف اندماجي إيجابي رافض للعزلة والتهميش، وذلك في وجه الانعزاليين والمتملصين

ثانيا: بدا واضحا خلال السنوات الخمس الأخيرة أن المسلمين والعرب الأميركيين يقفون في نفس الخندق وتربطهم علاقات وثيقة مع جماعات أميركية ليبرالية دينية وأخرى علمانية كان لها الفضل في ترسيخ التسامح كقيمة أساسية داخل المجتمع الأميركي، وذلك مثل منظمات الأقليات والحقوق والحريات المدنية وجماعات السلام، ويعني هذا أن المسلمين والعرب الأميركيين - إذا توفرت لديهم الموارد الكافية خلال السنوات المقبلة – سوف يشاركون شراكة كاملة مع دعاة التسامح والتعددية بالمجتمع الأميركي في ترسيخ تلك القيم مرة أخرى بالولايات المتحدة

-----

مقالات ذات صلة

ملامح الجيل الأميركي الحاكم

الخطاب المسلم الأمريكي السائد

العرب وتحديات الهوية الوطنية الأمريكية بعد 11/9

سبل مكافحة الإسلاموفوبيا في البيئة الأمريكية

لماذا رفضت وسائل الإعلام الأمريكية إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول؟