Friday, April 24, 2009

إدارة أوباما والإستراتيجية الأميركية: الأيام المائة الأولى

عرض بقلم علاء بيومي

يمكن نشر المقال الحالي مع الإشارة إلى مصدره

www.alaabayoumi.com

نص العرض

يتوصل التقرير الحالي الصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن لعدد من النتائج الهامة بخصوص بصمة إدارة أوباما على الإستراتيجية الأميركية خلال أيامها المائة الأولى في السلطة، حيث يرى التقرير أن مهمة استعادة مكانة أميركا الاقتصادية الدولية سوف تطغى على ولاية أوباما الأولى، وأن التركيز على أفغانستان وباكستان هو أكبر تغيير أدخله أوباما على الإستراتيجية الأميركية في الوقت الراهن، وأن إستراتيجية أوباما في العراق تعاني من غموض ونقص واضحين خاصة في حالة تدهور الوضع الأمني هناك

وفي البداية يؤكد مؤلف التقرير أنطوني كوردسمان أنه لا يوجد رئيس أميركي قادر على تغيير إستراتيجية أميركا خلال مائة يوم لأسباب عديدة، فالرئيس يدخل الحكم بدون فريق عمل ويحتاج لشهور لبناء فريق الأمن القومي الخاص به، كما أنه يدخل الحكم في ظل ميزانية أقرت في العام السابق لتوليه الحكم، والميزانية هي من تتحكم في واقع السياسات على الأرض، كما أنه يواجه مشاكل دولية يعود بعضها لأكثر من نصف قرن على غرار أزمة الشرق الأوسط في حالة إدارة أوباما

لذا فإن أقصى ما يمكن أن يحققه الرئيس - خلال أيامه المائة الأولي بالبيت الأبيض - هو أن يعيد التفكير في أهداف ومبادئ الإستراتيجية الأميركية، ومحاولة إعادة تقييم تلك الأهداف، وفي هذا السياق يتوصل كوردسمان إلى النتائج الهامة التالية

أولا: أن حل الأزمة الاقتصادية داخليا واستعادة مكانة أميركا الاقتصادية الدولية - والتي تعد ركيزة هامة من ركائز إستراتيجية أميركا ونفوذها حول العام - سوف "تسيطر على ولاية أوباما الأولى" خاصة وأن علاج الأزمة الاقتصادية لن يكون عملية سهلة وسوف يتطلب "تجارب" أو محاولات عديدة قد يكتب لها النجاح أو الفشل

ثانيا: تحرك أوباما سريعا وبشكل يحسب له في توجيه اهتمام أميركا نحو الحرب في أفغانستان وباكستان وتغيير بعض أدوات الإستراتيجية هناك مثل المطالبة بزيادة الجنود الأميركيين، وتقديم مزيد من المساعدات لباكستان، والدعوة لدبلوماسية إقليمية نشطة لحل المشكلة الأفغانية تضم الدول المحيطة بما فيها إيران

ثالثا: على عكس أفغانستان، تعاني إستراتيجية أوباما تجاه العراق من عجز واضح، فلم يعلن أوباما عن إستراتيجية جديدة للحرب، ولم يناقش إستراتيجية الإدارة في حالة انزلاق العراق نحو مزيد من التوتر الطائفي أو العرقي مع انسحاب القوات، هذا في الوقت الذي أبدى فيه أوباما مرونة كبيرة في إتباع نصائح قادة القوات الأميركية بالعراق فيما يتعلق بوتيرة الانسحاب

رابعا: بصفة عامة نجح أوباما في التحرك سريعا لمواجهة التدهور الخطير في صورة أميركا حول العالم خلال عهد الرئيس جورج دبليو بوش، حيث نجح أوباما في تصوير إدارته على إنها أكثر استعدادا للحوار والإنصات والتعاون الدولي

خامسا: لم يحصل أوباما على دعم كبير من دول حلف الناتو من أجل مساعدته في حرب أفغانستان، ولكنه أعاد توجيه أهداف الناتو نحو الدفاع عن أمن أعضائه بدلا من التركيز بشكل أساسي على التدخل في حربي العراق وأفغانستان

سادسا: أعلن أوباما نيته المضي قدما في جهود نزع أسلحة الدمار الشامل من خلال التعاون مع روسيا بهذا الخصوص

سابعا: فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أعلن أوباما عن نيته التركيز على إيجاد حل للصراع خلال ولايته الأولى ورفضه تسويف القضية لنهاية ولايته الثانية كحال الرؤساء الأميركيين السابقين، كما أعلن حرصه على دفع جهود السلام بين سوريا وإسرائيل ودعم مبادرة السلام العربية

ثامنا: توقف أوباما عن استخدام مصطلح "الحرب العالمية على الإرهاب" احتراما لمشاعر العالم الإسلامي، حيث رأى البعض أن المصطلح موجه ضد الإسلام والعرب في جوهره، وفي هذا السياق حرص أوباما على إبراز حرصه على التعاون مع الحكومة التركية كنموذج لدولة مسلمة تقودها حكومة إسلامية

تاسعا: بخصوص إيران، أعلنت إدارة أوباما معارضتها لشن إسرائيل ضربة جوية ضد منشئات إيران النووية، في الوقت الذي أكدت فيه الإدارة معارضتها الشديدة لاستمرار إيران في برامج التسلح النووي وفي دعم حركات كحزب الله وحماس

أخيرا: وبخصوص الجيش الأميركي طالبت إدارة أوباما بأموال إضافية خلال العام الحالي مقدرها 75.5 بليون دولار توجه بالأساس لدعم حربي أفغانستان والعراق خلال عام 2009، وذلك على الرغم من الأزمة الاقتصادية، ويفسر ذلك أن ميزانية عام 2009 والتي أقرت في عهد الرئيس بوش لم تتضمن مصاريف الحربين، وذلك كعادة إدارة بوش والتي كانت تبقي تكاليف تمويل الحرب خارج الميزانية وتمولها من خلال مخصصات مالية إضافية تطلب تباعا

لذا حرصت إدارة أوباما على أن تقر مصاريف الحربين في الميزانية الجديدة، حيث طالبت الإدارة بميزانية دفاع قدرها 663 بليون دولار في عام 2010 تخصص 130 بليون دولار منها لحربي أفغانستان والعراق في محاولة من قبل إدارة أوباما للتحكم في تكاليف الحربين من البداية وتخفيضها

كما أكدت إدارة أوباما عزمها تطوير الجيش الأميركي في اتجاه دعم قدراته في مجال حروب العصابات والحرب داخل المدن مما يستدعي الاهتمام بالقوات البرية وعدم التركيز فقط على القوات الجوية الأميركية كما كان الحال في الماضي، وكذلك التخلي عن برامج الأسلحة عالية التكنولوجيا والتكاليف (الطائرات والصواريخ) لصالح برامج الأسلحة الأقل تكنولوجيا وتكلفة والتي يحتاجها الجيش في الفترة الحالية (مثل أنظمة الاستخبارات الحربية والعربات المصفحة التي تسير عن بعد)، وهو تحول هام وضخم سوف يستغرق سنوات وخطط عديدة ودقيقة لتنفيذه

كما توقع التقرير أن يساهم تولي هيلاري كلينتون لوزارة الخارجية الأميركية في زيادة ميزانية الخارجية الأميركية وفي تنشيط دور الدبلوماسية في الإستراتيجية الأميركية بشكل عام

وفي النهاية أكد التقرير على أن إعلان النوايا وحده لا يكفي، وأن الأهم هو الميزانيات والخطط المفصلة والخطوات الحقيقية التي سوف تتخذها إدارة أوباما للتعامل مع القضايا الإستراتيجية التي تواجهها، وأن حصيلة الأيام المائة الأولي لأوباما في الحكم هي مجموعة من البدايات والمفاهيم والنوايا التي قد يحتاج بعضها لسنوات لتحقيقه وإن كان هذا لا يقلل من أهمية رصدها – كما حدث في التقرير الحالي – والبحث عن تبعاتها وتطوراتها في تقارير مستقبلية

----

للإطلاع على النص الكامل للتقرير يرجى زيارة

http://www.csis.org/component/option,com_csis_pubs/task,view/id,5411/

Monday, April 20, 2009




عودة التاريخ ونهاية الأحلام

عرض بقلم: علاء بيومي

يمكن نشر المقال مع الإشارة إلى مصدره
www.alaabayoumi.com

نص العرض

يتضمن الكتاب الراهن اعترافا من قبل مؤلفه المحسوب على تيار المحافظين الجدد بنهاية عصر القطبية الأحادية كما عرفه العالم في الفترة التالية لانهيار الاتحاد السوفيتي، ودعوة صريحة لأوربا والدول الرأسمالية الليبرالية بالتوحد خلف أميركا في مرحلة ما بعد القطبية الأحادية

ويعد روبرت كاجان أحد أشهر الكتاب اليمينيين المحسوبين على تيار المحافظين الجدد، كما عمل كمستشار للشئون الخارجية في حملة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية السيناتور جون ماكين خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة حيث نجح في ضخ بعض أفكاره المتضمنة في الكتاب الحالي ضمن حملة ماكين في إشارة هامة لمدى النفوذ الذي يتمتع به مؤلف كتابنا في أوساط الجمهوريين واليمين الأميركي

نظام عالمي جديد

الكتاب يتضمن دعوة صريحة للدول الأوربية واليابان والهند للتوحد خلف أميركا في مواجهة القوى العظمى الصاعدة وعلى رأسها الصين وروسيا ضمن نظام عالمي جديد يتكون من قطب أحادي واحد وهو الولايات المتحدة محاط بقوى عظمي عدة يأتي على رأسها أوربا وروسيا والصين والهند واليابان والتي تمتلك كل منها قدرات وطموحات الدول العظمي الساعية إلى خدمة مصالحها والفوز ببعض من النفوذ الهائل الذي كانت تتمتع به أميركا في عصر القطبية الأحادية

إذ يرى كاجان أن القوى العظمى السابقة فيما عدا أوربا تمتلك مشاعر قومية متنامية وذاكرة تاريخية لا تخلو من شعور بالمرارة ورغبة حاضرة في إثبات الذات من خلال توسيع نفوذها السياسي والعسكري على نقيض الأوربيين

ويبني كاجان كتابه على فرضية أن الدول الديمقراطية الليبرالية كانت تأمل بعد نهاية الحرب الباردة في بناء نظام عالمي جديد يسوده السلام عن طريق نشر الديمقراطية والقيم الليبرالية بين الدول والتجارة الحرة والعلاقات الاقتصادية الإيجابية، ومن ثم يتراجع التنافس العسكري والسياسي والذي يعود لعصور سابقة أقل حداثة، ويحل محله التنافس الاقتصادي السلمي بين دول ديمقراطية تعلي القيم الليبرالية المختلفة

ولكنه يرى أن الحلم السابق أثبت فشله، وأن السنوات التالية لنهاية الحرب الباردة شهدت صعود قوى عظمي تقليدية كروسيا والصين والتي رفضت الديمقراطية الليبرالية وتبنت نظما أكثر ديكتاتورية وسياسات خارجية تقليدية تقوم على بناء القوة العسكرية الصرفة وفرض النفوذ السياسي والدخول في حروب إذا تطلب الأمر

وعندما يستعرض كاجان القوى الدولية الكبرى المختلفة بما في ذلك أميركا تشعر بأن أوربا هي الاستثناء وأن الدعوة موجه لها بالأساس بالإضافة إلى اليابان والهند للتوحد خلف أميركا والتي تعرف كيف تتعامل مع القوى العظمي التقليدية وكيف تقود العالم الديمقراطي عبر النظام العالمي الجديد

قوى عظمى عدة

استعراض صعود القوى العظمي التقليدية وسياستها يستهلك جزءا رئيسيا من كتاب روبرت كاجان، فهو الجزء الأول من الحجة التي يريد أثباتها لأوربا والأوربيين

والحجة تقول أن القوى العظمي الصاعدة غير عقلانية لا تؤمن بالقيم الليبرالية والمابعد حداثية التي تؤمن بها أوربا، وأنها في الحقيقة قوى مشغولة بالماضي والتاريخ والصراعات والمرارة والتنافس التقليدي

فروسيا تشعر بالمهانة لفقدانها مكانتها كقطب دولي بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وتمتلك حكومة بقيادة بوتين تؤمن بروسيا القيصرية وتعيد بناء قوى روسيا الاقتصادية والعسكرية على حد سواء وتؤجج المشاعر القومية الروسية، ولا تتواني في بسط سيطرتها على الدول المستقلة عن الإتحاد السوفيتي ودول شرق أوربا بل وعلى دول أوربا الغربية ذاتها مستخدمة سلاح النفط وذلك من أجل عودة العظمة والمكانة الروسية مرة أخرى

والصين عاشت معظمها عمرها قوة عظمى أسيوية لا تنازع حتى جاء عصر الاستعمار في أوائل القرن التاسع عشر والذي عانت خلاله الصين مذلة تاريخية، وعلى الرغم من صعود الصين اقتصاديا حاليا وانخراطها في النظام الاقتصادي العالمي إلا أنها لم تنس ما تعرضت له من مهانة على يد الاستعمار ولم تهادن فيما يتعلق بمشاعرها القومية، واليوم تعيش الصين فترة صعود قومي ورغبة في العودة للمكانة التاريخية تدفعها لإنفاق 10% من دخلها على تحديث جيشها وإلى بناء أسطول بحري ضخم تستعرض به إمكاناتها المعاصرة في المياه الدولية المحيطة بها والتي كانت حتى وقت قريب حكرا على الأسطول الأميركي

وحتى اليابان وهي القوة الاقتصادية الثانية في العالم مازالت تعاني من التاريخ والمشاعر القومية، فهي تعاني من ثأر تاريخي مع الصين منافستها التقليدية، حيث لم ينسى الصينيون احتلال اليابان لأراضيهم خلال الحقبة الاستعمارية، وهو أمر دفع اليابانيون للاهتمام بجيشهم وإلى التقرب من أميركا لمواجهة الصعود الصيني وكذلك إلى الدخول في صراع إعلامي مع الصين في جنوب شرق أسيا

وتسير الهند على المنوال نفسه، فعلى الرغم من نموها الاقتصادي الكبير في السنوات الأخيرة إلا أنها مازالت تشعر بمرارة الاستعمار الأوربي وبرغبة في إثبات مكانتها الدولية الجديدة وبقلق واضح من الصين والتي دعمت باكستان في بناء قوتها النووية

خصائص الصراع العالمي الجديد

ويقول كاجان أن التنافس في فترة ما بعد القطبية الأحادية يتميز بخصال مختلفة عن فترة الحرب الباردة، فهو أولا صراع غير إيديولوجي، فالواضح أن الصين وكذلك روسيا لم تعدا معنيتان بأيدلوجية معينة، فما يحركهما الآن هو المصلحة الاقتصادية والمشاعر القومية، فهمهما الأساسي هو العودة إلى العهد القيصري حيث تمتعت الصين وكذلك روسيا بإمبراطورية واسعة يسيطر عليها القيصر أو الإمبراطور الصيني أو الروسي

فهم الدولتين حاليا هو توسيع نفوذهما الاقتصادي والسياسي والعسكري ومصالحهما الوطنية دون تبني أيدلوجية معينة

ثانيا: تقدم الدولتان نموذجا مختلفا للنمو الاقتصادي يقوم على الحكومة المركزية القوية القادرة على إحداث تقدم اقتصادي كبير دون السماح بانفتاح سياسي يوازيه، وهو نموذج يتنافي مع نموذج الحكومة الضعيفة نسبيا والذي تروج له أميركا وأوربا ضمن إيديولوجيتها الديمقراطية الليبرالية

ثالثا وبناء على ما سبق تعلي الصين وروسيا من أهمية القانون الدولي ومن أهمية مبادئ قانونية تقليدية مثل السيادة الوطنية، وترفض حرص الدول الغربية على نشر وتطبيق القيم الليبرالية والتي تمنح تلك الدول بابا للتدخل في شئون الدول الأخرى الأقل ديمقراطية وليبرالية بدعوى الدفاع عن القيم الليبرالية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان

في المقابل تنادي دول عظمى كالصين وروسيا بأن التطور الاقتصادي لا يرتبط فقط بتطبيق القيم الديمقراطية الليبرالية، وأن تطبيق تلك القيم لا يجب أن يكون على حساب القانون الدولي أو السيادة الوطنية

وهي أفكار – كما يدعي كاجان – تجهض أحلام الأوربيين في بناء علاقات دولية قائمة على القيم الليبرالية

وبهذا يتبلور النظام العالمي الجديد في صورة صراع بين الدول الديمقراطية الليبرالية بقيادة أميركا وأوربا والتي تنادي بتطبيق القيم الليبرالية كمعيار للعلاقات الدولية والدول الديكتاتورية بقيادة الصين وروسيا والتي تطالب بإعلاء معايير القانون الدولي والسيادة الوطنية

تحالفات ونقاط تماس جديدة

وبناء على ما سبق تتم إعادة بناء النظام العالمي الجديد في الفترة المقبلة، إذا يتوقع كاجان أن يتم تقسيم العالم لتحالفين أو محورين أساسيين، محور تقوده أميركا وأوربا ودول كاليابان والهند وتنضم إليه الدول الديمقراطية الليبرالية، ومحور تقوده الصين وروسيا وتنضم إليه الديكتاتوريات

ويضرب كاجان مثلا بدولة كإيران وهي على شاكلة روسيا والصين دولة تسيطر عليها المطامع التاريخية والمشاعر قومية وذاكرة تاريخية مليئة بالمرارة لذا تسعى لبناء قوتها النووية وبسط نفوذها الإقليمي مستفيدة من ثروتها النفطية وغير مبالية بالديمقراطية أو بالقيم الليبرالية، لذا من المتوقع أن تجد إيران الحماية والمساندة لدى دول كالصين وروسيا

وعلى شاكلة إيران يمكن النظر إلى دولة كالسودان وغيرها من الدول الأفريقية الديكتاتورية، ويقول كاجان أن نقاط التماس بين محور الديمقراطيات ومحور الديكتاتوريات هي مناطق الصراع في النظام العالمي الجديد، وذلك في دول مثل جورجيا وأوكرانيا في شرق أوربا، وبلدان وسط أسيا المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وتايوان في حالة الصراع بين أميركا والصين ولبنان كساحة صراع إقليمي، وكذلك الدول الأفريقية كساحة للتنافس بين الديمقراطيات والديكتاتوريات

القيادة الأميركية

والواضح على مدى الكتاب أن كاجان يعول على أوربا أكثر من أميركا في مد النظام العالمي الجديد بقيمه الليبرالية الديمقراطية ما بعد الحداثية، وذلك على الرغم من أنه لا يتحدث عن ذلك صراحة، ولكن القارئ يشعر بأن أوربا هي النموذج القيمي الذي يتطلع إليه كاجان، فهي مجموعة الدول التي تخلت عن نزاعاتها الوطنية وفضلت بناء علاقات جديدة سلمية قائمة على التجارة الحرة والقيم الليبرالية

لذا يشعر القارئ أن تفسير كاجان لطبيعة القيادة الأميركية لا يخلو من اعتراف ضمني بتردي نوع السياسات والقيادة الأميركية للعالم

فمن ناحية تبقى أميركا قطب العالم الأوحد المتطلع للقيادة الطموحة، فأميركا تقود العالم من موضوع قوة ترغب من خلاله في تغيير العالم وفي تغيير النظم المعارضة لها، ولكن القيادة الأميركية تعاني من معضلة داخلية تتمثل في رغبة الأميركيين في قيادة العالم قيادة طموحة بأقل تكلفة ممكنة كما يرى كاجان

كما يقر المؤلف أيضا بأن القيادة الأميركية لم تخلو من أخطاء، وأن أميركا تميل للنزعة الفردية في القيادة، وأن العالم يريد الحد من النفوذ الأميركي ومن سيطرة القطبية الأحادية

ولكنه يعود ويقول أن تكلفة تراجع النفوذ الأميركي كبيرة، وأن تراجع النفوذ الأميركي وصعود عالم متعدد الأقطاب قد لا يقود إلى السلام أو الاستقرار، وأن أميركا بمصادر قوتها المتعددة تمثل ضمانة لاستقرار العالم وللحد من طموحات القوى العظمي الديكتاتورية الصاعدة

وهذا يعني أن كاجان يقر ضمنيا بسوء الإدارة الأميركية وبأن السياسات الأميركية قد لا ترتقي بعد للسياسات الأوربية ما بعد الحداثية، ولكنه يرى أن قيادة أميركا لأوربا والدول الديمقراطية الليبرالية ضرورية، فأميركا وحدها تمتلك قدرات قطب العالم الأوحد، كما أن أميركا وحدها القادرة على التعامل مع القوى العظمي التقليدية مثل روسيا والصين

بمعني أخر يريد كاجان أن يقول للأوربيين بأن عليكم التوحد خلفنا فنحنا مازلنا قطب العالم الأوحد وأننا وعلى الرغم من أخطائنا مازلنا قادة الديمقراطيات الليبرالية والقوة القادرة على مواجهة القوى العظمى التقليدية الصاعدة وسياساتها، فنحن على الرغم من عيوبنا الأكثر تأهيلا للقيادة في الوقت الحالي

ويتمنى كاجان أن تتراجع الخلافات الغربية التي نشأت بين أوربا وأميركا بسبب حرب العراق بعد تراجع مكانة الحرب في السياسات الدولية، وأن تتوحد الدول الغربية تباعا خلف أميركا

الشرق الأوسط في النظام العالمي الجديد

أما فيما يتعلق بمكانة الشرق الأوسط في النظام العالمي الجديد فهي تبدو متناقضة كطبيعة حجة كاجان والتي تريد أن توحد قوى العالم الديمقراطية الليبرالية خلف أميركا قطب العالم الأوحد لأنها الدولة الأقوى القادرة على مواجهة القوى العظمي الديكتاتورية، وهي بالطبع دعوة لا تخلو من براجماتية عالية

وعلى نفس المنوال يتوقع أن تنضم الدول العربية إلى تحالف الديمقراطيات مع أميركا وإسرائيل في مواجهة ديكتاتوريات مثل إيران وفي مواجهة ما يسميه بقوى "الإسلام الراديكالي"، وذلك على الرغم من اعتراف كاجان بطبيعة الدول العربية غير الديمقراطية، لذا يقول في نهاية الكتاب أن تحالف أميركا مع الدول العربية لا يجب أن يمنعها في الدفع التدريجي بالديمقراطية داخل تلك الدول

وبهذا يبدو تحالف الديمقراطيات كتحالف لا يخلو من براجماتية واعتبارات سياسية، فهو تحلف لدول مضطرة للتوحد خلف قطب العالم الأوحد المتخبط أحيانا (أميركا) والتحالف مع دول غير ديمقراطية (كدول الشرق الأوسط) لاعتبارات إستراتيجية مختلفة في مواجهة نفوذ القوى الديكتاتورية الصاعدة بقيادة روسيا والصين

Tuesday, April 14, 2009

العالم العربي والأخوة إيمانويل
مقال بقلم: علاء بيومي

يمكن نشر المقال مع الإشارة إلى مصدره

www.alaabayoumi.com

نص المقال

العالم العربي لا يعرف كثيرا عن الأخوة إيمانويل، وعندما اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما أحد الأخوة - وهو رام إيمانويل - كبيرا لموظفي البيت الأبيض في اليوم التالي لانتخابه رئيسا لأميركا إهتم العالم العربي برام وبأبيه بنجامين الذي كان عضوا في منظمات الإرجون الإسرائيلية الإرهابية، ولكنه لم يهتم بالأخوين الآخرين إزيكيل وإريل، كما لم يهتم أيضا بالأم مارثا، وبهذا ظلت الصورة غير مكتملة والفكرة غير واضحة وفقد العالم العربي فرصة التعرف على الأخوة إيمانويل كما تسميهم وسائل الإعلام الأميركية

العالم العربي اهتم بمواقف رام إيمانويل تجاه فلسطين والعراق وباحتفال وسائل الإعلام الإسرائيلية باختياره ككبير موظفي البيت الأبيض في عهد أوباما، وهو منصب أشبه في أهميته بمنصب رئيس الوزراء في نظم رئاسية أخرى، خاصة وأن الصحف الإسرائيلية خرجت في اليوم التالي بعناوين تحتفل باختيار أوباما لإيمانويل، على غرار صحيفة معاريف التي وصفت أيمانويل بأنه "رجلنا في البيت الأبيض"

كما أهتم العالم العربي بتصريحات الأب بنجامين إيمانويل المسيئة للعرب، والتي جاءت ضمن مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف حيث ذكر للصحفية: "من الواضح أنه (رام) سوف يؤثر على الرئيس (أوباما) في اتجاه مساندة إسرائيل. كيف لا يفعل ذلك؟ من هو! عربي!؟ لن يذهب هناك لمسح بلاط البيت الأبيض"، وهي تصريحات مسيئة أثارت حفيظة عرب أميركا الذين طالبوا رام بالاعتذار عن تصريحات أبية، فأعتذر

ولكن هذه الأحداث تمثل في الحقيقة نهاية القصة أو جزءا متقدما للغاية من قصة لم تنتهي بعد، ولكنها ليست بدايتها، فالبداية قديمة تعود لأوائل التسعينيات أو قبل ذلك بعقود، فوسائل الإعلام الأميركية تتحدث منذ منتصف التسعينيات عن "الأخوة إيمانويل" كما أسمتهم مقالة نشرت بجريدة نيويورك تايمز الأميركية في يونيو 1997، والمناسبة كانت النجاح الذي حققه رام في إدارة بيل كلينتون حيث كان واحد من أكثر المستشارين الذي خدموا في إدارة كلينتون على الرغم من صغر سنه، والنجاح الذي حققه الأخوين الآخرين في مجال البحث العلمي والسينما

فالأخ الأكبر إزيكيل أستاذ جامعي مرموق والأخ الأصغر إيريل وكيل فنانين مشهور بهوليود حتى أن أحد كتاب المسلسلات الأميركية المشهورة صمم إحدى شخصيات مسلسله حول شخصية إريل، ويقال أيضا أن شخصية إيمانويل السياسية - والذي أصبح مستشارا لبيل كلينتون وهو في أوائل الثلاثينيات من عمره وعرف بقدراته في جمع التبرعات والحملات السياسية - دخلت الثقافة الجماهيرية الأميركية وباتت جزءا من قصص كتاب هوليود

قصة نجاح الأخوة إيمانويل - وهي موضوع مقالنا الحالي – تعود إلى الأب بنجامين الذي عمل بمنظمات الإرجون الإرهابية في إسرائيل وهاجر في الخمسينيات إلى أميركا ليختار لأبنائه أما ناشطة سياسيا، فأبوها كان ناشطا في مجال الدفاع عن حقوق العمال، وكانت مارثا بدورها نشطة في حركة الحقوق والحريات المدنية ويقال أنها تعرضت للاعتقال بسبب مشاركتها في بعض المظاهرات دفاعا عن حقوق الأقليات في أميركا

وبهذا نشأ "الأخوة إيمانويل" في بيت نشيط سياسيا واعين بما يدور حولهم، فالأم تصطحب الأبناء الصغار للمشاركة في المظاهرات، والأب نشط سياسيا، والأسرة تجتمع على العشاء كل ليلة لتحدث الأبناء في السياسة وفي الشئون العامة

وتشير وسائل الإعلام إلى أن بنجامين ومارثا اهتما كثيرا بتربية الأبناء الثلاثة، وأنهما حرصا على توعية الأبناء بالأنشطة السياسية والثقافية المختلفة بشيكاغو حيث ترعرعوا، ونصحوا الأولاد الصغار بعدم الانشغال بصغائر الأمور التي قد تشغل الأطفال في أعمارهم، فأيام العطلة مخصصة للتعلم وللنشاط الثقافي وللنهل من تراث شيكاغو وأنشطتها الثقافية الثرية

كما أن الحياة لا تخلو من هدف، هدف كبير ومعنى، لذا حرص بنجامين على اصطحاب أطفاله إلى المعابد اليهودية لتلقي التعليم الديني وإلى إسرائيل في العطلات الصيفية، كما علقت الأسرة على جدران المنزل صورا ومتعلقات لأقاربهم الذين لم يتمكنوا من الهجرة لأميركا هروبا من معاناة اليهود في أوربا لكي يقدر الأطفال دائما أميركا ويتذكروا جذورهم ومعاناة أجدادهم وأهمية دورهم ودور أميركا في منع تكرار تلك المعاناة، وبهذا الخصوص ذكر رام في إحدى المقابلات الإذاعية التي أجريت معه - عن طفولته وعن الأفكار التي أثرت فيه وهو صغير - ما يلي:

أعتقد أنها الثقافة التي تأتي – من وجهة نظري – من ثقافة مهاجرة تحاول أن تقدر ما نحصل عليه بوجودنا في هذه البلد. ففي حجرة المعيشة علق والداي صورا أبيض وأسود، حوالي 10 إلى 12 صورة شخصية لأقارب من طرفي العائلة لم يتمكنوا من القدوم إلى هذه البلد ... وفي وسط الحائط كان هناك حقيبة يد صغيرة معلقة، هذه الحقيبة هي التي حملت أوراق جدتي واثنتين من أخواتهما وهن قادمات إلى أميركا. كان هذا تذكرة من والدينا لنا كل يوم بأننا محظوظون لوجودنا في هذا البلد

هذه هي قصة الأخوة إيمانويل، لذا لم يكن مستغربا أن يتطوع رام لخدمة الجيش الإسرائيلي كمتطوع مدني خلال حرب تحرير الكويت في عام 1991، وعندما عاد أميركا التحق سريعا بحملة المرشح الرئاسي الشاب بيل كلينتون وصار من كبار مساعديه في مجال جمع التبرعات، حيث ربط رام بيل كلينتون بشبكة واسعة من الأثرياء اليهود عبر أميركا وعرفهم بكلينتون وحثهم بقوة على التبرع له

لذا يقال أن الأموال التي ساعد رام إيمانويل بيل كلينتون على جمعها حمت حملة كلينتون الرئاسية من الفشل حين اشتدت المنافسة وقلت الموارد، لذا عين رام بعدها في إدارة كلينتون وظل بالعمل بجانبه حتى أصبح واحد من أكثر السياسيين خدمة في إدارة كلينتون، وقرب نهايتها استقال ليدخل عالم المال والأعمال وينجح في تكوين ثروة مقدارها 18 مليون دولار في أربع سنوات مستفيدا بدون شك بالعلاقات الواسعة التي كونها خلال عمله بإدارة بيل كلينتون

وسرعان ما عاد رام إلى السياسة، وكان ذلك في أوائل عام 2003 كعضو في مجلس النواب الأميركي ليصير سريعا وخلال ثلاث سنوات فقط أحد أهم قيادات الديمقراطيين بالكونجرس الأميركي على الإطلاق حيث تولي في عام 2005 إدارة لجنة الديمقراطيين الانتخابية بالكونجرس The Democratic Congressional Campaign Committee (DCCC) وهي اللجنة المعنية بحشد جهود الحزب الديمقراطي للفوز بانتخابات الكونجرس من خلال العمل على اختيار المرشحين الجدد ودعم المرشحين الحاليين والتحكم في رسالة وأنشطته الحزب الانتخابية، ويعد رئيس اللجنة رابع قيادة للديمقراطيين بالكونجرس الأميركي

وبالطبع لا تخلو قصة نجاح رام إيمانويل من سلبيات، فقد عرف عنه شراسته السياسية وحرصه على جمع التبرعات السياسية والتحزب والاهتمام بالقوة السياسية الصرفة والميل إلى اليمين، لذا نظر البعض نظرة سلبية تجاهه وتجاه اختيار أوباما له ككبير لموظفي البيت الأبيض

ولكن نجاح إيمانويل أو فشله السياسي لا يعنينا هنا بقدر ما تعنينا قصة "الأخوة إيمانويل" أو "عائلة إيمانويل"، والتي تتلخص في أب صاحب قضية، وأم نشطة سياسيا، وبيئة سياسية ديمقراطية، وأطفال صغار تربو على السياسية والعمل العام منذ نعومة أظافرهم، وفكرة سياسية تحرك الأسرة جميعها، ومجتمع يهودي أميركي متكاتف حول هدفه وفكرته

وقد يقول البعض أن الهدف ظالم وأن الأدوات غير سلمية وأن القيم مختلفة وأن الغاية لا تبرر الوسيلة، ولكن وبعض النظر عن كل ما سبق تحتوي قصة الأخوة إيمانويل على عبر كثيرة ودروس عديدة لعالم عربي يطالب بحقوقه ولكن كثير من بلدانه تحرم المشاركة السياسية ولن ترحب أصلا بوجود الأخوة إيمانويل بين أبنائها

Sunday, April 05, 2009


مصر والمصريون في عهد مبارك - 1981-2008
عرض بقلم: علاء بيومي

يمكن نشر العرض مع الإشارة إلى مصدره
www.alaabayoumi.com

نص العرض

ينتمي هذا الكتاب بوضوح إلى نظريات "ما بعد الاستعمار" والتي ترى أن سيطرة الدول الاستعمارية على بلدان العالم الثالث لم تنته بنهاية عصر الاستعمار التقليدي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنما استمرت من خلال صعود قوى استعمارية جديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة

وأن الاستعمار الجديد لم يأخذ شكلا سافرا كالاستعمار التقليدي الذي أخذ أبعادا عسكرية واضحة من خلال احتلال أراضي الدول الفقيرة بالقوات المسلحة والتحكم في سياساتها بشكل يومي، في المقابل يتخذ الاستعمار الجديد صورة أكثر ضمنية من خلال السيطرة السياسية والاقتصادية ومن خلال تحويل دول العالم الثالث إلى أسواق مستقبلة لمنتجات الدول الثرية والاستثمارات الأجنبية الجبانة المعنية فقط باستنزاف ثروات الأمم الفقيرة يعاونها في ذلك مجموعة من العملاء أو "الوسطاء" المحليين، كما يسميهم جلال أمين – الاقتصادي المصري المعروف والأستاذ بالجامعة الأميركية بالقاهرة ومؤلف الكتاب

وتتلخص وظيفة وكلاء الاستعمار الجديد أو وسطائه – كما يتضح من تسميتهم – في تلقى أوامر الاستعمار الجديد القادمة من واشنطن – كما هو في الحالة المصرية كما يراها أمين – وتطبيقها على الواقع المحلي بشكل يضمن نجاح سياسات الاستعمار الجديد وتصويرها للشعوب المستقبلة على أنها سياسات ضرورية وناجحة ومفروضة من باب أنه "ليس في الإمكان أبدع مما كان

لعبة الكلب الحيران

ينفق أمين صفحات كتابه البالغة حوالي 260 صفحة على تطبيق النظرية السابقة على حالة المصريين منذ عام 1967 تقريبا وهو العام الذي يتخذه أمين بداية لتراجع مصر وهزيمتها أمام الاستعمار الجديد (الولايات المتحدة) وحتى الآن، وذلك دون أن يسمي النظرية باسمها (نظريات ما بعد الاستعمار) ولكنه يطبقها برشاقة كبيرة من خلال فصول شيقة سهلة القراءة مصنفة تحت عناوين جذابة للغاية مثل الفساد والفقراء والبشوات والمثقفون والاغتراب والتوريث وهو الفصل الحادي عشر من الكتاب والذي تظهر فيه معالم نظرية أمين بوضوح حيث يتحدث بصراحة عن اعتقاده بان القرار المصري يصنع في واشنطن ويرسل إلى مصر جاهزا لتطبقه مجموعة من الوسطاء المحيطين بالرئيس المصري حسني مبارك والمسيطرين على الحزب الديمقراطي الحاكم دون أن يكون للشعب المصري أدنى علاقة بذلك بعدما تم إحباط وإشغال الطبقة الوسطى المصرية بالبحث عن لقمة العيش من خلال سلسلة من السياسات التي طالب بها الاستعمار الجديد منذ عام 1973 وحتى الآن وطبقتها الحكومات المصرية المتعاقبة منذ منتصف السبعينيات وحتى الآن بطاعة كبيرة

ويقول أن دور الشعب المصري اقتصر على دور "الكلب الحيران" في لعبة كرة القدم الشهيرة المعروفة داخل مصر بالاسم نفسه حيث "يتبادل لاعبان الكرة، ويبذلان جهدهما في ألا تصل الكرة إلى شخص ثالث مسكين يقف بينهما، ويحاول محاولة مستميتة أن يقطع الطريق على الكرة وأن يمسك بها"، ولكن هيات فقد "يتظاهر أحد اللاعبين اللذين يتبادلان الإمساك بالكرة، بأنه سوف يلقى بالكرة إلى المسكين الواقف في الوسط، ثم سرعان ما يتبين أنه يلقيها إلى زميله الآخر، ثم يسترسل اللاعبان الشيطانيان في الضحك"، وهكذا يعبر أمين عن فقدانه الثقة في دعاوي الإصلاح الأميركية أو تلك القادمة من الوسطاء المصريين الحاكمين

ماذا حدث للمصريين

نظرية أمين الفكرية لا تتبلور بهذا الوضوح إلا في نهاية كتابه، وتحديدا بداية من الفصل الحادي عشر الذي يتحدث عن التوريث كما ذكرنا من قبل، أما جسد الكتاب الأكبر فينفقه أمين على إجابة سؤاله المفضل "ماذا حدث للمصريين؟" وهو عنوان واحد من أشهر كتب جلال أمين وأكثرها مبيعاً، والذي صدر في نهاية التسعينيات وطبعت منه ستة نسخ حتى الآن

والسؤال كما هو واضح من كلماته معني بالماضي، وتحديدا بما طرأ على أوضاع مصر والمصريين من تأخر وتراجع منذ عام 1967 والذي يتخذه أمين بداية لتراجع مصر والمصريين

الفارق بين كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" والكتاب الراهن "مصر والمصريون في عهد مبارك" يكمن في محورين أساسيين، أولهما أن كتاب "ماذا حدث للمصريين؟" يركز على تراجع الشعب المصري بالأساس، فهو يركز على الشعب لا الحكومة، وتحديدا على ما أصاب الطبقة الوسطى المصرية من تراجع منذ عام 1967، وهذا لا يمنع أمين من التطرق إلى دور الحكومة المصرية في السماح بهذا التراجع، ولكنه يتطرق إلى هذا الدور من جانب تاريخي تفسيري بالأساس أما هدفه الأهم فهو دراسة ما حدث داخل الطبقة الوسطى المصرية، لذا يخرج القارئ من الكتاب بتحليل طبقي اجتماعي يقول أن المصريين يعانون من الإحباط الشديد بسبب تسارع عجلة الحراك الاجتماعي في مصر منذ الثورة مما سمح بصعود ملايين من المصريين إلى أعلى في منذ عام 1952 وحتى عام 1985 هو بداية دخول مصر في كساد اقتصادي واضح بعد نهاية الانتعاش المؤقت الذي تعرض له الاقتصاد المصري في ظل سياسات الانفتاح والهجرة وارتفاع أسعار النفط

ويرى أمين أن الكساد الذي أعقب الحراك وما ارتبط به هذا الكساد من فساد داخلي وتراجع لمكانة مصر الدولية والإقليمية أشعر المصريين بإحباط شديد وبحرمان انعكس على مختلف جوانب حياتهم

أما الكتاب الراهن "مصر والمصريون في عهد مبارك" فهو يركز كما يظهر من عنوانه على الحكومة والشعب معا كما يركز أيضا على فترة حكم الرئيس المصري حسني مبارك، وهنا يكمن الفارق الجوهري الثاني بين الكتابين، فالكتاب الراهن بمثابة تحديث وتوسيع لكتاب "ماذا حدث للمصريين؟" من خلال التركيز على ما أصاب مصر كحكومة وشعب من تراجع وعلى الفترة منذ عام 1981 وحتى 2009

تفسير ثلاثي الأبعاد

لذا يقول جلال أمين أن تراجع مصر في عهد مبارك - والذي يشعر به المصريون حاليا أكثر من أي عهد مضى - لا يمكن تفسيره دون التطرق لثلاثة عوامل أساسية، وهي دور الحكومة وشخصية الرئيس المصري الحاكم، ودور المصريين وتحديدا الطبقة المتوسطة المصرية، والبيئة الدولية المعاصرة لمصر والمصريين خلال كل عهد رئاسي

كما يرى أمين – وهي فكرة محورية عبر الكتاب – أن فهم عصر مبارك وما يحدث خلاله من ظواهر يتطلب العودة قليلا إلى الوراء وتحديدا إلى بداية الثورة المصرية في عام 1952

وبهذا يقسم أمين ظروف المصريين إلى ثلاثة عصور أساسية، العصر الأول هو الفترة من 1952 وحتى 1967، والعصر الثاني ويمتد منذ عام 1967 وحتى عام 1985، أما العصر الثالث فيمتد من عام 1985 وحتى الآن

ديكتاتور نزيه

يلخص أمين عصر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في فكرتين أساسيتين وهما أن عبد الناصر كان ديكتاتورا ولكنه كان نزيها، فقد أدرك عبد الناصر أن النهضة في مصر تحتاج لدولة مركزية قوية - وهو نفس ما يؤمن به أمين، ولكن عبد الناصر أفرط في ديكتاتوريته وفي عدائه لخصومه، فقد حول الدولة المركزية القوية إلى أداة للبطش بخصومه السياسيين خاصة منذ أوائل الستينيات وحتى عام 1967

ولكن نزاهة عبد الناصر وإيمانه بمشروع نهضة ضخم وضعا الحكومة والشعب المصري خلال عهده على نفس الخط، لذا تميز عهده بصفة عامة بدرجة عالية من النزاهة والنهضة، وعاش المصريون في عصره أفضل عصورهم منذ بداية الثورة وحتى الآن خاصة وأن الثورة تبنت مشاريع عملاقة خلقت وظائف للمصريين وحسنت من مستوى معيشتهم كما ارتفعت أيضا مكانة مصر الإقليمية والدولية بسبب وضع مصر الاقتصادي الجيد وسياسة عبد الناصر المستقلة

وساعد الظرف الدولي عبد الناصر، ففي عام 1956 حظي عبد الناصر بدعم الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة معا في حربه ضد قوى الاستعمار القديم فرنسا وإنجلترا مما مكنه من الانتصار عليهما، كما حصل ناصر من السوفيت والأميركيين على دعم اقتصادي لسنوات

ولكن مسيرة ناصر الناجحة توقفت في عام 1967 عندما تمكنت إسرائيل ومن خلفها أميركا من هزيمته هزيمة ساحقة فيما عرف بالنكسة، وقد فتحت النكسة الباب على مصراعيه أمام مشاكل النظام الناصري وعلى رأسها غياب الديمقراطية والحريات والإفراط في قمع المعارضين

وبهذا بدأ إرث ناصر يتبلور، فقد أضطر ناصر بعد 1967 إلى تخفيف قبضة الدولة والسماح بأشياء لم يكن يسمح بها من قبل على مستويات سياسية واقتصادية ليشعر المواطنين بقدر من الاسترخاء، لذا ورث السادات دولة بيروقراطية ضخمة ومهيمنة للغاية فتح لها الباب للرخاوة والاسترخاء، كما ورث وهزيمة عسكرية ساحقة وديون بلغت في عام 1970 خمسة مليار دولار أميركي

ديكتاتورية ودولة رخوة

ولكن السادات – والذي يكن له جلال أمين نقدا لاذعا – ساهم في تدهور الدولة المصرية بدرجة كبيرة مقارنة بناصر، وذلك لأن السادات خضع للضغط الدولي بشكل مفرط وسافر، فقد خضع بشكل كلي للإرادة الأميركية خاصة وأن الدولة العربية ذاتها لم تعن السادات على التحدي، حيث يشير أمين ضمنا أن الدول العربية الثرية كانت تخشى من تقديم مساعدات للسادات دون ضوء أخضر أميركي

ويرى أمين أن أميركا أرادت استعمار مصر من خلال فتحها أمام المال الأميركي والسلاح الأميركي والسياسات الأميركية، وأن السادات ساعدها بسبب شخصيته التي رحبت بذلك

وهنا يظهر نقد أمين اللاذع لشخصية السادات فهو يكاد يتهمه بالقابلية للفساد وبحب الحياة السهلة المريحة، ويرى أنه كان "أخف" الضباط الأحرار وزنا ويتعجب من اختيار ناصر له كنائب، ويقول أن السادات سمح بالفساد على إطار واسع فيما يعرف بسياسات الانفتاح وأن بعض أعضاء أسرة السادات نفسها استفادت من ذلك الفساد

ويقول أن توقف الصناعة والأنشطة الإنتاجية في مصر خلال عهد السادات فتح الباب لنوع جديد من الفساد ظل سائدا حتى الآن وأضعف شعور المصريين بالانتماء إلى درجة محزنة، وذلك لأن الفساد الجديد ركز على الطغيان على حقوق الدولة والمواطنين من خلال اللعب بالقوانين والاستفادة من جسد الدولة البيروقراطي الضخم والمترهل في نفس الوقت من أجل تحقيق الثراء السريع ووضع اليد على ممتلكات الدولة التي باتت بدون حامي

وبهذا تحولت مصر إلى دولة رخوة مستبدة في أن واحد، دولة مستبدة ضد من يحاول تحدي سلطة النظام من خلال المطالبة بالإصلاح أو التغيير الديمقراطي، ودولة رخوة في كل ما يتعلق بحقوق الشعب والأرض فالقوانين لا تطبق والضرائب لا تجنى وممتلكات الدولة باتت بلا حامي

وبهذا تبلور نمط الحكم الجديد القائم على الدولة المستبدة الرخوة التابعة لأميركا والتي فتحت الباب أمام سيطرة الأنشطة الخدمية والاستهلاكية على الاقتصاد المصري وأهملت الاقتصاد الحقيقي، وقاد هذا النمط الجديد بشكل طبيعي لتدهور أخلاق وقيم وشعور الطبقة المتوسطة المصرية التي تركت بلا حامي أمام موجات العولمة والهجرة والاستهلاكية والتضخم فريسة سهلة يتلقفها الفاسدون ورأس المال الأجنبي الجبان

تركة السادات وشخصية مبارك

لذا يقر أمين بأن مبارك ورث إرثا غاية في الثقل من السادات كان على رأسه 30 مليار دولار من الديون الأجنبية التي راكمها السادات خلال سنوات حكمه القصيرة، كما وجد وضعا دولية جائرا وطبقة متوسطة مجهدة، ودولة رخوة مستبدة

وهنا يرى أمين أن حكم مبارك اتسم بشخصيته التي استسلمت تقريبا للأوضاع السابقة ورفضت تحديها بعد فترة وعود قصيرة بالإصلاح استمرت لأقل من عام أفرج خلاله مبارك عن المعارضين السياسيين الذين سجنهم السادات في نهاية حكمه

ويقول أمين أن مبارك شخصية تفضل الاستقرار على المخاطرة ولا تمتلك مشروع أو رؤية خاصة لحكم مصر، لذا سار مبارك على الخط الذي رسمه السادات وترك كثير من القرارات اليومية إلى مساعديه المنتمين لمجموعة الوسطاء التابعين لأميركا والذي هيمنوا على السياسة المصرية خلال عهد السادات

وأن السياسات الأميركية جردت الحكومة المصرية من أي قدرة على الاستقلالية أو التحدي، فالعلاقات المصرية الأميركية منعت مصر من الاعتراض على اعتداءات إسرائيل على لبنان والفلسطينيين، وأن خفض الديون على مصر كان ثمنا لدعمها أميركا في حرب الخليج الأول، وأن سياسات صندوق النقد والبنك الدولي تمادت في فتح الاقتصاد المصري أمام رأس المال الأجنبي الجبان وفي تحويل الحكومة المصرية بعيدا عن دعم الأنشطة الإنتاجية الحقيقية في مجالات الزراعة والصناعة الوطنية

وعلى المستوى السياسي استمرت الحكومة المصرية على منهج الديكتاتورية الرخوة الذي أسسه السادات، وتحول الوزراء المصريين لمجموعة من البيروقراطيين غير المعروفين للشعب المصري أصلا، واللذين لا يمتلكون أي تاريخ سياسي معروف قصير كان أو طويل

أما الطبقة الوسطى المصرية فقد طغى عليها الشعور بالإحباط بعدما استمر الفساد القائم على الطغيان على حقوق الشعب والأرض وانتشرت البطالة والفقر وتراجعت القيم، وذلك إلى درجة أن الطبقة الوسطى المصرية نفسها لم تعد معنية بالإصلاح بل باتت جزءا من المشكلة، فهي لم تعد قادرة على مواجهة الحكومة أو أميركا أو الوسطاء الحاكمين

نقد وتقييم

يتميز الكتاب الراهن بأسلوبه السهل الممتنع وبلغته الراقية ونظراته الثاقبة على أوضاع المصريين كعادة جلال أمين، فهو قادر على ربط التحولات الكبرى التي تعرض لها مصر والمصريون خلال الستون عاما الأخيرة برشاقة فكرية يحسد عليها وبأسلوب لا يمل منه القارئ، ولكن هذا لا يمنعنا من رؤية عيوب الكتاب والتي نلخصها في عيوب أربعة رئيسية، وهي

أولا: ميل جلال أمين الواضح للتاريخية والعودة إلى الماضي لتفسير الحاضر، ولكنه يبدو أحيانا مسجون في الماضي وتحديدا في العقود الثلاثة الأولى من الثورة المصرية والتي يعود إليها بشكل متكرر مع أنه تناولها بإسهاب في كتب سابقة مثل "ماذا حدث للمصريين؟" و"ماذا علمتني الحياة؟" وهي سيرة أمين الذاتية، وكان ينتظر القارئ أن يركز أمين كل جهده – في الكتاب الراهن - على سنوات حكم الرئيس مبارك كما يدعي الكتاب في عنوانه ومقدمته وهدفه، ولكن القارئ قد يشعر في نهاية الكتاب أن أمين يعود للتاريخ أكثر من اللازم، فعلى سبيل المثال يخصص أمين الفصل السابع من كتابه للحديث عن أحوال المثقفين المصريين، ويمتد الفصل على مدى إحدى عشر صفحة تقريبا مخصصة جميعا للحديث عن أحوال المثقفين المصريين في عهد ناصر والسادات فيما عدا صفحتين فقط يتحدث فيهما أمين سريعا عن أحوال المثقفين في عهد مبارك

ثانيا: يترك أمين أحد أهم المفاهيم الواردة في كتابه إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو المفهوم الخاص "بالوسطاء" الحاكمين لمصر نيابة عن الأميركيين دون تطبيق واضح، فهو يقول: "أنه ليس من الصعب على القارئ تخمين أسمائهم"، ويقول في مواضع أخرى أن الوسطاء الحاكمين لمصر يحيطون بالرئيس المصري ويسيطرون على الحزب الحاكم، وكنت تتوقع أن يسميهم أمين بأسمائهم وأن يضرب أمثلة واضحة على ما تربطهم بواشنطن من علاقات سياسية ومالية

ثالثا: غموض أمين انسحب أيضا على طبيعة الكتاب والذي يتناول بالأساس أهم التطورات التي طرأت على مصر والمصريين منذ عهد الثورة المصرية من خلال منهج تاريخي سياسي اقتصادي يقف عند أهم المحطات السياسية والاقتصادية ويفسرها للقارئ، أو بالأحرى يفسر تبعاتها على مصر والمصريين، ومن أمثلة تلك المحطات سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والعلاقات المصرية الأميركية والسلام مع إسرائيل، وهي بدون شك من أهم التطورات السياسية التي أثرت على سياسة المصريين في العقود الأخيرة وتناولها ضرورة لفهم ما حدث لهم

ولكنك تشعر أحيانا أن كتاب أمين يفتقد لأمثلة محددة ومعاصرة لما يحدث للمصريين، بمعني أخر يبدو أن كتاب أمين يقدم تفسيرا عاما يتتبع أهم الظواهر السياسية والاقتصادية التي تعرض لها المصريون في العقود الستة الأخيرة، ولكنه يتركك دون رصد أهم السياسات الراهنة التي تعد امتدادا لسياسات الماضي الإيجابية أو السلبية، فمن الصعب مثلا أن يساعدك الكتاب على نقد قانون أو سياسية مصرية راهنة، فهو يحدثك عن التاريخ كثيرا ويشرحك لك ما حدث في الماضي، ويشعرك بأن الماضي مستمر، ولكنه لا يقول لك كيف؟، فالكتاب يكاد يتوقف على تقديم تفسير تاريخي هام ومفيد للغاية يساعدك على فهم الوضع القائم بشكل عام دون تطبيقات سياسية محددة.
رابعا: أما أخطر عيوب أمين والكتاب فهو الإفراط في الحديث عن الماضي والسلبيات دون الحديث عن المستقبل والأمل، وعن كيفية التغيير، ويبدو أن أمين أراد تجنب هذا النقد، فتحدث في الصفحات الخمسة الأخيرة من الكتاب عن الأمل وعن ضرورة عدم الاستسلام لليأس والإحباط مشيرا إلى عدد من الظواهر التي تبعث على الأمل مثل تراجع نفوذ أميركا وزيادة المتعلمين في مصر وتحسن وضع المرأة

ولكن الصفحات الخمسة – التي قد لا يصل إليها قارئ الكتاب المتعجل - لن تحم أمين من النقد، فرسالة الكتاب واضحة بشكل كافي وتتكرر بانتظام عبر فصوله الثلاثة عشر الخالية تقريبا من الحديث عن الأمل أو عن المستقبل

ويزيد من نقدنا هذا أن أمين عانى من العيب نفسه في بعض كتبه السابقة التي ذكرناها سابقا مثل "ماذا حدث للمصريين؟" و"ماذا علمتني الحياة؟" والتي يبدو فيها أمين مسجونا في الماضي وفي جيل الثورة وفي شعوره بالإحباط وفقدان الأمل

ولكن هذا لا يمنعنا من الإشادة بأفكار ونظرات جلال أمين الثاقبة وأفكاره الجريئة في نقد مصر والمصريين والتي قد تمثل أساسا مفيدا للغاية لدراسات أخرى جديدة تركز على المستقبل والأمل المنشود

---

معلومات الكتاب

جلال أمين، مصر والمصريون في عهد مبارك (1981-2008)، دار ميريت، القاهرة، 2009