Monday, August 16, 2004

نصف المجتمع الأمريكي المساند لنا
مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
جريدة الشرق الأوسط، 16 أغسطس 2004

نص المقال

من الخطأ الاعتقاد بأن المتعاطفين مع المسلمين والعرب في أمريكا وقضاياهم قليلي العدد، فاستطلاعات الرأي العام تؤكد أن عددهم لا يقل بأي حال من الأحوال عن عدد الأمريكيين غير المتعاطفين معنا، ولكن المشكلة تكمن في أن المتعاطفين معنا أقل نفوذ على الصعيد السياسي كما أنهم غير موحدين

استطلاعات الرأي المختلفة التي أجريت حول موقف الرأي العام الأمريكي من الإسلام والمسلمين خلال السنوات الثلاثة الأخيرة تشير إلى أن نسبة الأمريكيين الذين ينظرون نظرة عامة إيجابية تجاه الإسلام انخفضت إلى 39 % في سبتمبر 2003 مقارنة بنسبة 47 % في أكتوبر 2001، في المقابل وصلت نسبة غير المتعاطفين مع الإسلام إلى 38 % من الشعب الأمريكي، في حين تبلغ نسبة الأمريكيين الذين يشعرون بالرغبة في معرفة المزيد عن المسلمين والعرب حوالي ثلثي الشعب الأمريكي تقريبا

الإحصاءات السابقة تعني أن الشعب الأمريكي ليس موحدا في موقفه تجاه المسلمين والعرب، فهو منقسم على نفسه، كما أنه يميل في انقسامه هذا إلى كفة مساندتنا وليس العكس، فأربعين في المائة من الأمريكيين يساندونا ومثلهم لا يتعاطفون معنا، والعشرين في المائة المتبقية غير محددة الموقف ولكنها منفتحة وتميل إلى معرفة المزيد عنا وعن قضايانا

وأمثلة الجماعات الأمريكية المساندة لقضايا المسلمين والعرب عديدة، نذكر منها هنا أربعة فئات أساسية كبرى، أولها جماعات الحقوق والحريات المدنية – مثل إتحاد الحريات المدنية الأمريكية (ACLU) – والتي تقف بقوة في وجه ما تعرض له المسلمون والعرب في أمريكا من تمييز منذ أحداث سبتمبر 2001

المثال الثاني نجده في أبناء الأقليات الأمريكية كالأفارقة واليابانيين والآسيويين الأمريكيين والذين تعاطفوا مع مسلمي وعرب أمريكا منذ أحداث سبتمبر ورأوا أن ما يتعرض له المسلمون والعرب في أمريكا حاليا هو صورة مكررة لما تعرضوا له من تمييز ظلما خلال فترات سابقة من التاريخ الأمريكي

ثالثا: مالت جماعات السلام ومعاداة الحروب الأمريكية بشكل متزايد لمساندة مختلفة قضايا المسلمين والعرب الدولية منذ أحداث سبتمبر بصفة عامة ومنذ حرب العراق بصفة خاصة، ومن المهم هنا أن نذكر أن مساندة هذه الجماعات لقضايانا لم تتوقف عند قضية العرق بل تخطتها لتشمل عدد من قضايانا الهامة وعلى رأسها القضية الفلسطينية

رابعا: بعض الجماعات الدينية الأمريكية - وعلى رأسها مجلس الكنائس الوطني الأمريكي والذي يمثل عشرة ملايين أمريكي – رفضت وصم المسلمين والعرب بالإرهاب ونظمت أنشطة مشتركة مع مسلمي أمريكا لبيان معارضة الإسلام والمسيحية والأديان عامة للإرهاب

الفئات الأربعة الكبرى من الجماعات المساندة لنا تضم في عضويتها ملايين الأمريكيين ولها نفوذ واسع داخل المجتمع الأمريكي، وهي بدون شك منفتحة على قضايا المسلمين والعرب ومتعاطفة بشكل متزايد معنا، وتساعد بشكل يومي على تحسين صورتنا وزيادة مساندينا في أوساط الشعب الأمريكي

وهنا يثار سؤال هام، وهو أين تذهب أصوات هذه الجماعات؟ ولماذا لا تسمع لها أصوات عالية مثل أصوات الجماعات المناهضة للمسلمين والعرب كالجماعات اليمينية المتشددة والجماعات الموالية لإسرائيل؟ ولماذا تعجز الجماعات المساندة لنا على تحسين مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه قضايانا؟

السبب الأول هو أن الجماعات المتعاطفة معنا في أمريكا ذات نفوذ واسع داخل المجتمع المدني الأمريكي ولكنها أقل نفوذ من الجماعات المناهضة لنا على الصعيد السياسي، كما أن الجماعات المساندة لنا لا تقف موحدة في صف واحد خلفنا وخلف قضايانا، فهي تساندنا بشكل عفوي انطلاقا من طبيعتها الخيرة، ولذا فهي تفتقر للأجندة الموحدة وللعمل الجماعي المنظم

ثانيا: وجود المسلمين والعرب الأمريكيين ونشاطهم داخل المجتمع المدني الأمريكي مازال محدودا لأسباب مختلفة مثل قلة الخبرة السياسية وحداثة العهد وافتقار المسلمين والعرب الأمريكيين النسبي وليس المطلق للطاقات والموارد البشرية والمادية اللازمة لتفعيل وجودهم على المستويين السياسي والمدني بالولايات المتحدة

ومن المفترض أن يقوم المسلمون والعرب الأمريكيون بدور التنسيق بين الجماعات الأمريكية المختلفة المساندة لنا وتوحيد عملهم المساند لقضايا، وطالما افتقر المسلمون والعرب الأمريكيون للإمكانيات التي ترشحهم للعلب هذا الدور طالما افتقرت الحركة المساندة لقضايانا داخل أمريكا لعقلها المدبر

ثالثا: الجو العام السائد في علاقة الولايات المتحدة بالعالمين العربي والإسلامي هو جو صدامي تملئه العديد من الأخبار السلبية مما يضعف من قدرة أي أطرف مساندة لنا داخل المجتمع الأمريكية على نشر صورة إيجابية عنا

كما أن هناك افتقار واضح فيما يتعلق بنشر الوعي في أوساط المسلمين والعرب خاصة خارج أمريكا بوجود نصف أمريكا الآخر المساند لنا، فأخبار السياسات الرسمية السلبية التي تصنعها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة تطغى على أية أخبار أخرى قادمة من الولايات المتحدة

رابعا: الجماعات الأمريكية المساندة للمسلمين والعرب لا تعمل في بيئة مشجعة أو مرحبة كما أنها تواجه في عملها العفوي خصوم شديدي الدهاء والحيلة والعزم على زرع بذور الشقاق بين المسلمين والعرب من ناحية والشعب الأمريكي من ناحية أخرى

وقد قصدنا من مقالنا هذا أن نسلط قدر من الضوء على نصف أمريكا الأخر المساند لنا لعل ذلك يساعد على رغبتا في معرفة المزيد عنه والتعاون مع وتقويته وتوحيده خلف قضايانا

Sunday, August 08, 2004

تأثير المال على الانتخابات الأمريكية
مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 8 أغسطس 2004

نص المقال

يستحيل التخلص من الدور الكبير الذي يلعبه المال في التأثير على العملية السياسية بأي دولة من الدول، وفي المقابل تسعى النظم الديمقراطية للحد من احتمالية إفساد المال للسياسية من خلال فرض تشريعات لمراقبة استخدام المتبرعين والمرشحين - على حد سواء - للمال في العملية السياسية بصفة عامة وفي الانتخابات بشكل خاص

ومع اقتراب الانتخابات الفيدرالية الأمريكية في نوفمبر 2002، وتمكن الرئيس جورج دبليو بوش ومنافسه الرئيسي الديمقراطي جون كيري من جمع كميات غير مسبوقة من التبرعات السياسية، وزيادة الجدل داخل الولايات المتحدة حول مضمون وأثار قوانين الإصلاح المالي للانتخابات الفيدرالية، رأينا أن نقدم في هذا المقال مقدمة مختصرة عن تأثير المال على الانتخابات الأمريكية بشكل عام، وعلى انتخابات نوفمبر 2004 بشكل خاص

تكاليف الانتخابات الفيدرالية الأمريكية

التحدي الأول الذي يواجه المشرعون الأمريكيون في مساعيهم للحد من التأثير السلبي للمال على الانتخابات الفيدرالية (ممثلة في البيت الأبيض والكونجرس) هو الارتفاع المستمر في تكاليف الحملات الانتخابية الفيدرالية ومن ثم زيادة اعتماد المرشحين الأمريكيين على المال للفوز بمناصبهم السياسية

فعلى مستوى انتخابات الرئاسة الأمريكية جمع المتنافسون على منصب الرئيس الأمريكي في عام 2000 تبرعات قدرها 528 مليون دولار، في مقابل 425 مليون دولار جمعها المتنافسون في انتخابات عام 1996 الرئاسية، بينما جمع المتنافسون في انتخابات عام 1992 تبرعات مقدارها 331 مليون دولار فقط، مما يعني أن حجم التبرعات التي جمعها المتنافسون على الرئاسة الأمريكية زادت بمعدل 100 مليون دولار أمريكي كل أربعة أعوام منذ عام 1992

كما جمع المرشح الجمهوري للرئاسة وهو الرئيس الأمريكي الحالي جورج دبليو بوش بمفرده 228 مليون دولار حتى العشرين من يونيو 2004 محطما بذلك رقمه القياسي السابق والذي حققه في انتخابات عام 2000 عندما نجح في جمع تبرعات قدرها 193 مليون دولار أمريكي، بينما لم يتمكن منافسه الديمقراطي في انتخابات عام 2000 آل جور من جمع سوى 132 مليون دولار فقط، أما بالنسبة لمنافسه الحالي جون كيري فقد جمع 186 مليون دولار حتى العشرين من يونيو 2004

أما على مستوى انتخابات الكونجرس، فيبلغ متوسط ما جمعه كل عضو من الأعضاء الفائزين في انتخابات مجلس النواب الأمريكي في عام 2002 مبلغ 898 ألف دولار في مقابل 197 ألف دولار فقط لكل منافس من منافسيهم الخاسرين، كما جمع عضو مجلس الشيوخ الفائز مبلغ 5.8 مليون دولار في المتوسط في مقابل مليون دولار فقط لمنافسه الخاسر

وتعود الزيادة المستمرة في تكاليف الانتخابات الأمريكية للأسباب التالية

أولا: ليس هناك سبيل يمكن للمرشحين من خلاله معرفة تكلفة الفوز بالانتخابات بشكل مسبق، ولذا يحرص كل مرشح على جمع وإنفاق أكبر قدر من الأموال للدعاية لحملته حتى ولو أهدرت بعض هذه الأموال في سباق ضد خصم ضعيف مادام ذلك سوف يؤكد نجاح المرشح

ثانيا: الحملات الانتخابية ليست مجانية، فهي عملية صعبة ومكلفة لها هيئات ومكاتب متخصصة في مجال الحملات الانتخابية تقوم بها وتعمل على تطوير أدائها وأدواتها بشكل مستمر، وينبغي على المرشحين دفع ثمن استخدام خدمات هذه الهيئات وما تقوم به من أنشطة مثل تسجيل الناخبين وطبع الدعايات وتوزيعها وعقد اللقاءات الجماهيرية وعقد لقاءات جمع التبرعات انتهاء بشراء الدعاية التلفزيونية باهظة التكاليف

ثالثا: حجم الأموال التي يجمعها أحد المرشحين قد تمثل رادعا قويا لخصومه خاصة إذ نجح المرشح في جمع قدر كبير من الأموال في بداية حملته الانتخابية

رابعا: الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية تنظر إلى حجم التبرعات التي يجمعها المرشحون خاصة في بداية حملاتهم الانتخابية كعلامة هامة على مدى جديتهم وقدرتهم على المنافسة والفوز بالانتخابات

تأثير جماعات المصالح الثرية

أما التحدي الأكبر الذي يواجهه المشرعون الأمريكيون في مساعيهم للحد من تأثير المال على الانتخابات فهو القلق من الدور الكبير الذي تلعبه جماعات المصالح الثرية في تمويل المرشحين ومن ثم التأثير على مسار الديمقراطية الأمريكية، ويعود هذا القلق للأسباب التالية

أولا: تأتي جميع الأموال التي تنفق على الانتخابات الأمريكية في الغالب من نسبة ضئيلة جدا من الأمريكيين لا تتعدى 2% من مجموع الشعب الأمريكي

فعلى سبيل المثال أنفق المرشحون والأحزاب ولجان العمل السياسية (PACs) والتي تمثل جماعات المصالح مبلغ وقدره 933 مليون دولار أمريكي على انتخابات عام 2002 التشريعية

وقد أتت هذه الأموال من حوالي 640 ألف متبرع أمريكي فقط، وهو ما يعادل نسبة 0.22 % من مجموع الشعب الأمريكي الذي يبلغ تعدداه 288.5 مليون نسمة، أو ما يعادل نسبة 0.3 % من مجموع المواطنين الأمريكيين البالغين ( 18 عاما فأكثر)

ومن بين هؤلاء المتبرعين حوالي 252 ألف متبرع تبرعوا بألف دولار أو أكثر من بينهم 9755 متبرع تبرعوا بعشرة آلاف دولار فأكثر، كما تبرع 14 متبرع (شخص أو هيئة) بأكثر من مليون دولار أمريكي

ووفقا لهذه الإحصاءات تبلغ نسبة المتبرعين الذي تبرعوا بألف دولار فأكثر - والذين يبلغ عددهم 252 ألف متبرع تقريبا - مقارنة بمجموع الشعب الأمريكي حوالي 0.09 % من مجموع الأمريكيين، في الوقت الذي دفع فيه هؤلاء حوالي 779 مليون دولار وهو ما يعادل نسبة 83 % من المجموع الكلي للأموال التي أنفقت على الانتخابات التشريعية الأمريكية خلال عام 2002

ثانيا: نسبة كبيرة من الأموال التي يحصل عليها المرشحون تأتي من لجان العمل السياسية والتي تمثل جماعات المصالح الكبرى وتركز تبرعاتها في الغالب في صالح أعضاء الكونجرس الموجودين بالفعل والذين تربطهم بجماعات المصالح روابط وعلاقات قوية

ففي انتخابات عام 2002 التشريعية حصل أعضاء الكونجرس الفائزين في الانتخابات على 43% من التبرعات التي جمعوها من لجان العمل السياسية في حين أن المتوسط العام للتبرعات التي حصل عليها جميع المرشحين (الفائزين والخاسرين) في الانتخابات نفسها من لجان العمل السياسية هو 34 % من إجمالي التبرعات التي جمعوها وهي أيضا نسبة مرتفعة، كما حصل أعضاء مجلس الشيوخ الفائزين في الانتخابات نفسها على 24.5 % من التبرعات التي جمعوها من لجان العمل السياسية، في حين أن المتوسط العام للتبرعات التي حصل عليها جميع المرشحين (الفائزين والخاسرين) في الانتخابات نفسها من لجان العمل السياسية هو 18 % فقط

وبدون شك يترك ذلك تأثيرا شديد السلبية على درجة الحراك والتغيير السياسي في مراكز صنع القرار الأمريكية، إذ تشير الإحصاءات إلى 96 % من مرشحي مجلس النواب الأمريكي الفائزين في انتخابات عام 2002 هم أعضاء سابقين، كما أن 86 % من مرشحي مجلس النواب الفائزين في انتخابات العام ذاته هم من الأعضاء السابقين، وقد يعود انخفاض النسبة في مجلس الشيوخ إلى قلة عدد أعضاءه من ناحية، وإلى هزيمة عدد من مرشحي الحزب الديمقراطي في انتخابات عام 2002 بعد صعود نفوذ الحزب الجمهوري ومرشحيه خلال الأعوام الأخيرة

كما تحرص لجان العمل السياسية على تأييد كبار أعضاء الكونجرس ومنحهم نسب أكبر من التبرعات من أجل التأثير عليهم، فعلى سبيل المثال جمع توم دلاي زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي 63 % من التبرعات السياسية التي جمعها في انتخابات عام 2002 من لجان العمل السياسية، بينما جمعت نانسي بالوسي زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي 55.8 % من التبرعات التي جمعتها خلال الانتخابات نفسها من لجان العمل السياسية، وهي نسب تفوق بكثير متوسط ما يحصل عليه المرشح العادي من لجان العمل السياسية

ثالثا: يلعب الأثرياء دورا شديد الخطورة في التأثير على مسار العملية الانتخابية الأمريكية من خلال استخدامهم للمال الناعم

إذ يضع القانون الأمريكي سقفا على حجم التبرعات التي يمكن أن يحصل عليها أي مرشح بشكل مباشر من كل مواطن أمريكي، وذلك للحد من قدرة الأثرياء على التأثير على الانتخابات، ولذا يلجأ الأثرياء لمنح تبرعات سخية تقدر بملايين الدولارات أحيانا لهيئات سياسية كالأحزاب وجماعات المصالح لكي تستخدمها بصورة مباشرة لخدمة قضاياها، وبصورة غير مباشرة لخدمة مرشحيها، حتى لا تقع تحت طائلة القانون، ومن أبرز وأهم هذه الأساليب قيام الأحزاب وجماعات المصالح بشراء إعلانات تلفزيونية مكثفة قبل موعد الانتخابات لا تذكر اسم مرشح بعينه ولكنها تروج بشكل محدد ومكثف وفي دوائر انتخابية معينة لقضية بعينها مؤثرة على مسار الانتخابات بتلك الدوائر

وتسمى هذه الملايين بالمال الناعم لأنه يصعب رصدها ولأنها ليست محددة بسقف معين من قبل القانون ولأنها تؤثر على الانتخابات بصورة غير مباشرة من خلال دعمها لقضايا وليس لمرشحين، في حين تسمى التبرعات التي يسمح القانون بأن يمنحها المواطن الأمريكي مباشرة للمرشحين لكي يستخدموها في الأنشطة السياسية التي تصب مباشرة في الحملات الانتخابية بالمال الجامد

وتشير أحدث الإحصاءات إلى أن الحزب الديمقراطي جمع في عام 2001 (وذلك قبل عام واحد من صدور قانون الإصلاح المالي للانتخابات لعام 2002) نسبة 54 % من التبرعات التي حصل عليها في صورة أموال ناعمة، كما جمع الحزب الجمهوري 43 % من التبرعات التي جمعها في العام نفسه في صورة أموال ناعمة، وهي بدون شك نسب مرتفعة توضح مدى اعتماد الحزبين الرئيسيين على تبرعات الأثرياء

تبعات قوانين الإصلاح المالي للحملات الانتخابية الأمريكية

في السبعينات من القرن الماضي أقر المشرعون الأمريكيون مجموعة من قوانين الإصلاح المالي للحملات الانتخابية والتي ظلت تنظم دور المال في الانتخابات الأمريكية حتى عام 2002، ومن أهم ما أنجزته هذه القوانين تأسيس لجنة الانتخابات الفيدرالية لكي تراقب حركة المال في الانتخابات، كما وضعت القوانين سقفا واضحا على حجم التبرعات السياسية التي يمكن أن يقدمها المواطن الأمريكي أو لجان العمل السياسية (التي تمثل جماعات المصالح) بشكل مباشر للمرشحين

وحرمت القوانين على المرشحين قبول أموال من مصادر معينة خاصة من قبل الشركات واتحادات العمال بشكل مباشر، وطالبت القوانين الشركات واتحادات العمال بتأسيس لجان عمل سياسية تعمل بشفافية تحت عين القانون في مجال جمع تبرعات ممثلي هذه الهيئات ثم توزيعها على المرشحين ضمن السقوف التي يسمح بها القانون

وسرعان ما التفت جماعات المصالح الثرية هذه القوانين خاصة من خلال توسعهم في استخدام المال الناعم للتأثير على الانتخابات خاصة عن طريق منحه للأحزاب واستخدامه في شراء إعلانات التلفزيون الباهظة التكاليف التي تروج للقضايا المؤثرة على الانتخابات

وقد جمع الحزب الجمهوري تبرعات قدرها 691 مليون دولار في انتخابات عام 2002، كما جمع 715 مليون دولار في انتخابات عام 2000، أما الحزب الديمقراطي فقد جمع 463 مليون دولار في انتخابات عام 2002، وجمع 520 مليون دولار في انتخابات عام 2000، وقد أتت نصف هذه الأموال تقريبا في صورة مال ناعم

ولذا أقر قانون الإصلاح المالي للانتخابات الأمريكية لعام 2002 عدد من الإصلاحات الرئيسية وعلى رأسها منع الأحزاب من قبول المال الناعم، والحد من قدرة جماعات المصالح على شراء الإعلانات التلفزيونية مع اقتراب موعد عقد الانتخابات

ونتيجة لذلك لم يتمكن الحزب الديمقراطي في دورة الانتخابات الحالية سوى من جمع 114 مليون دولار، كما لم يجمع الحزب الجمهوري في دورة الانتخابات الحالية سوى 256 مليون دولار

كما زادت القوانين الجديدة من حجم الأموال التي يمكن أن يتبرع بها الأفراد مباشرة لمرشحيهم الأساسيين في صورة أموال جامدة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تقوية دور الفرد، وأن يحد من التلاعب خارج إطار القانون، إذ تسمح القوانين الجديدة لكل فرد بأن يتبرع بألفي دولار لكل مرشح في مقابل ألف دولار في الماضي، كما تسمح لكل مواطن بالتبرع بخمسة وعشرين ألف دولار للجنة حزبه الرئيسة، وبعشرة آلاف دولار لكل لجنة عمل سياسية أو لجنة حزبية محلية، وذلك بشرط آلا تزيد حجم تبرعات الفرد الواحد عن 95 ألف دولار كل عامين

ويقول بعض المحللين أن القوانين الجديدة دفعت الأحزاب والمرشحين إلى الاهتمام بالوصول إلى أكبر عدد من الأفراد بعض أن منعت الأحزاب من الحصول على المال الناعم، فعلى سبيل المثال قام الحزب الديمقراطي في الشهور الأربعة الأولى من عام 2004 بإرسال 35 مليون رسالة بريدية لمسانديه طلبا لتبرعاتهم، وهو ما يعادل مجموع رسائل جمع التبرعات البريدية التي أرسلها الحزب الديمقراطي خلال عقد التسعينات من القرن الماضي

كما توسع جورج دبليو بوش وجون كيرى في مساعيهم للوصول إلى أكبر عدد من المتبرعين بما في ذلك المتبرعين الصغار منهم خاصة عن طريق الإنترنت، وقد نجح كل منهم في تخطي حاجز المليون متبرع حتى الآن

على النقيض ظهر تهديد جديد لقوانين الانتخابات تمثل في ظهور منظمات خيرية ذات طابع سياسي تعرف باسم (527) وهو رقم بند قانون الضرائب الذي ينظم عملها، ويسمح القانون الجديد لهذه الجماعات بتلقى تبرعات معفية من الضرائب وغير محدودة من الأفراد وإنفاقها للتأثير على سير العمليات الانتخابية بشرط استقلالها عن المرشحين والأحزاب

وقد جمعت هذه المنظمات خلال العامين الماضيين عشرات الملايين من الدولارات من المال الناعم خاصة من قبل أثرياء الديمقراطيين الساعين لهزيمة جورج دبليو بوش، كما تلقت بعضها تبرعات من قبل أشخاص وجماعات ثرية وصلت أحيانا إلى 14 مليون دولار من قبل هيئة واحدة

وفي المقابل رفع جمهوريون قضايا قانونية ضد هذا النوع من المنظمات بدعوى إفسادها لقوانين الإصلاح المالي للانتخابات والتي كانت تسعى للحد من تأثير المال الناعم، ومازالت هذه القضايا مفتوحة ولم تحسم بعد

الحكم بشرعية أو عدم شرعية الجماعات الجديدة لن يضع حلا نهائيا لتأثير المال السلبي على الانتخابات الأمريكية، وذلك لثقة غالبية المحللين في أن جماعات المصالح سوى تسعى لإيجاد ثغرات قانونية في أي قانون جديد، كما يرى البعض أن الحد من قدرة أية جماعة أمريكية من التأثير على الانتخابات هو تعدى على حرية هذه الجماعة في التعبير عن نفسها، وهذا يعنى أن الإصلاح المالي للانتخابات سوف يبقى تحديا دائما للمدافعين عن الديمقراطية الأمريكية

Monday, August 02, 2004

دور الإسلام في تشكيل الهوية الأمريكية من وجهة نظر صموئيل هنتينجتون
بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 2/8/2004، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال

إذ كان العرب والمسلمون قد استقبلوا كتاب المفكر والأكاديمي الأمريكي المعروف صموئيل هنتينجتون قبل الأخير "صدام الحضارات" بالقلق والرفض الواسعين لترويجه فكرة أن الصراع العالمي القادم سوف يكون صراعا بين الحضارة الغربية من ناحية وحضارات الشرق وعلى رأسها الإسلام من ناحية أخرى، فإنه حري بالعالمين العربي والإسلامي الانتباه لنظرية أخطر يروجها هنتينجتون في كتابه الجديد "من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية" الصادر في مايو 2004 بالولايات المتحدة نظرا للدور الذي ينادي هنتينجتون بأن يلعبه الإسلام كدين وحضارة في تشكيل الهوية الوطنية الأمريكية خلال الفترة الراهنة وفي المستقبل المنظور

فعلى الرغم من أن هنتينجتون لا يرى – في كتابه الجديد - أن الإسلام هو أحد التحديات الأساسية التي أدت إلى تراجع شعور الأمريكيين بهويتهم الوطنية خلال العقود الأخيرة، إلا أنه يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأمريكيين المنشود حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور

مصادر الهوية الوطنية الأمريكية

يرفض هنتينجتون في كتابه فكرة أن الولايات المتحدة هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على النقيض أن الأمريكيين الذين أعلنوا استقلال أمريكا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوربا وخاصة بريطانيا لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد

ويرى هنتينجتون أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأمريكي انطلاقا من مبادئهم وثقافتهم الأنجلو-بروتستانتينية والتي لولاها لما قامت أمريكا التي نراها اليوم، ولذا يرى هنتينجتون أن لأمريكا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين والتي تقوم على ركائز أربعة أساسية وهي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتسانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية

ويعتقد هنتينجتون أن الخصائص الأربعة السابقة انعكست بوضوح على كافة خصائص المجتمع والدولة بالولايات المتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، وأن موجات الهجرة المختلفة التي أتت أمريكا منذ نشأتها وحتى أوائل القرن العشرين تقريبا سعت للذوبان في هذه الهوية واعتناقها بشكل واضح وسريع فور استقرارها في أمريكا

كما يرى هنتينجتون أن الهوية الأمريكية استفادت تاريخيا من ركيزتين إضافيتين، أولهما الأعداء الذين حاربهم الأمريكيون على مدى التاريخ بداية من الهنود الحمر والمستعمرين الفرنسيين ثم المستعمرين البريطانيين، مرورا بسعي الأمريكيين التاريخي المتواصل لتمييز أنفسهم والحفاظ على استقلالهم عن القارة الأوربية بشكل عام وعن القوى الأوربية الاستعمارية الأوربية بشكل خاص، وانتهاءا بالحرب الباردة وصراع الولايات المتحدة مع الإتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين

وهنا يعبر هنتينجتون بصراحة عن اعتقاده بأن العداء للأخر يلعب دورا أساسيا في تشكل هوية أي جماعة، ويرى أن الحروب التي خاضها الأوربيون في العصور الوسطى وقبل بداية عصر الدولة القومية كانت ضرورية لتشكيل هوية الدول الأوربية المختلفة، كما يرى أن وجود الإتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية وشعور الأمريكيين بتهديده وسعيهم الواضح لمواجهته والانتصار عليه لعب دورا هاما في وحدة الأمريكيين والتفافهم حول هويتهم الوطنية خلال الحرب الباردة

أما ثاني هذه الركائز الإضافية فهي عقيدة الأمريكيين السياسية، فلكي يميز الأمريكيون أنفسهم عن أجدادهم البريطانيين سعوا – كما يعتقد هنتينجتون - لنشر ثقافة سياسة مستقلة ومتميزة عن ثقافة الأوربيين الإقطاعية والتمييزية والتي اضطرتهم إلى ترك أوربا للأبد والفرار بمعتقداتهم إلى الولايات المتحدة، ومن أهم عناصر هذه العقيدة السياسية مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية، وسيادة حكم القانون

تحديات الهوية الوطنية الأمريكية

في المقابل يرى هنتينجتون أن الهوية الأمريكية واجهت خلال العقود الأخيرة وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين عدد من التحديات الضخمة التي أضعفت من التفاف الأمريكيين حول هويتهم بشكل يمثل تهديدا لبقاء الهوية الأمريكية واستمرارها، ومن أهم التحديات التي رصدها هنتينجتون ما يلي

أولا: التقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات، والذي أدى - كما يرى هنتينجتون - إلى ربط المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة بمجتمعاتهم القديمة بشكل قوي وغير مسبوق مما أضعف من اندماجهم بالمجتمع الأمريكي وسهل عملية تواصلهم مع مجتمعاتهم الأصلية وشجع المهاجرين الجدد على الحفاظ على ثقافاتهم الأصلية وهوياتهم الأجنبية ومحاولة نشر هذه الهويات بين أبناء بلدانهم في أمريكا، مما أدى إلى نشر عدد كبير من الهويات الأمريكية الفرعية مثل هوية اللاتينيين الأمريكيين على سبيل المثال مما يعد تهديدا خطيرا للهوية الأمريكية

على صعيد أخر يرى هنتينجتون أن تقدم أدوات الاتصال والمواصلات وقوى العولمة أدت إلى انفتاح النخب الأمريكية الاقتصادية الكبرى بشكل غير مسبوق على العالم، ويرى هنتينجتون أن هذه النخب بدأت في تكوين هويات فوق-قومية تتخطى الهوية الأمريكية، إذ تنظر هذه النخب والهيئات لهوياتها - بشكل متزايد - نظرة عالمية ترتبط بمصالحها الاقتصادية المنتشرة عبر بقاع العالم، ونظرا لنفوذ هذه النخب الكبير فإنها قادرة على نشر أفكارها وهويتها المتخطية للهوية الأمريكية على نطاق واسع مما يمثل تهديدا لا يستهان به للهوية الأمريكية

ثانيا: نفوذ الليبراليين الأمريكيين وثقافتهم التعددية، إذ ينتقد هنتينجتون اليسار الليبرالي الأمريكي ودعواته المستمرة للتعددية ومراجعة الذات الأمريكية والغربية والتي ساعدت على نمو هويات فرعية أمريكية عديدة وانتشارها وعلى رأسها هويات الأفارقة الأمريكيين واللاتينيين الأمريكيين، كما وقف اليسار الأمريكي موقفا ناقدا للثقافة الأنجلو-بروتستانتينية، وخاصة تجاه الجانب الديني منها، ونادى الليبراليون بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة الأمريكية مما أضعف المكون الديني المسيحي للهوية الأمريكية، وروجوا كبديل عن المكون الديني مكون آخر وهو العقيدة السياسية الأمريكية والتي بالغ الليبراليون – كما يرى هنتينجتون – في التأكيد عليها كمصدر أساسي للهوية الأمريكية، وتقوم العقيدة السياسية الأمريكية – كما ذكرنا من قبل – على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية والحقوق المدنية وعدم التمييز وحكم القانون

وعلى الرغم من احترام هنتينجتون لهذا العقيدة السياسية إلا أنه يرى أنها غير كافية لحماية الهوية الأمريكية من عدم التفكك، وينادي بإحياء مركزية الثقافة الأنجلو-بروتستانتينية في الهوية الوطنية الأمريكية

ثالثا: ينتقد هنتينجتون سياسات الهجرة الأمريكية الحديثة والتي ساعدت على تدفق ملايين المهاجرين على أمريكا منذ الستينات دون وضع ضمانات كافية لدمج وصهر موجات الهجرة الجديدة في ظل ثقافة التعددية التي سعى اليسار الليبرالي الأمريكي بقوة لنشرها منذ النصف الثاني للقرن العشرين

كما يقدم هنتينجتون نقدا مباشرا للهجرات اللاتينية الأمريكية والسماح بتدريس اللغة الأسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسمية في العديد من المدن والولايات الأمريكية، وهنا يظهر قلق هنتينجتون الخاص من المهاجرين اللاتينيين الأمريكيين على الهوية الأمريكية بعد أن أصبحوا يمثلون 12 % من تعداد الشعب الأمريكي، ونظر لارتباطهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة

كما يبدي هنتينجتون قلقا خاصا تجاه من ينادون بإقرار اللغة الأسبانية كلغة ثانية رسمية، ويرى أن ذلك يعد أحد أخطر التهديدات الموجهة للهوية الأمريكية لأنه ينذر بتحول أمريكا لبلد ذو هوية لغوية ثنائية إنجليزية-أسبانية

رابعا: يرى هنتينجتون أن سقوط الاتحاد السوفيتي وعدم تبلور عدو جديد للولايات المتحدة ساهم في ضعف التفاف الأمريكيين حول هويتهم خاصة في أواخر القرن العشرين

ويرى هنتينجتون أن التغيرات الكبرى السابقة والتحولات العديدة التي شهدها المجتمع الأمريكي أدت إلى تراجع مصادر الهوية الأمريكية الرئيسية وهي الإثنية البريطانية والعرق الأبيض والدين المسيحي والثقافة الإنجليزية – البروتستانتينية

إذ ساعدت الهجرات الأوربية العديدة غير الإنجليزية كالألمان والإيطاليين وغيرهم إلى الولايات المتحدة على إضعاف أهمية الإثنية البريطانية في الهوية الأمريكية، وأضعفت دعاوى التعددية والعلمانية دور الثقافة المسيحية، كما أضعفت ثورات الحقوق المدنية دور العرق أو العنصر الأبيض كمصدر للهوية، وإن كان هنتينجتون يرى أن العنصرية مازالت قوية وحية وتمثل عامل تمييز أساسي داخل المجتمع الأمريكي خاصة على المستوى الاقتصادي والسياسي حيث يبرز نفوذ الأمريكيين البيض

سيناريوهات أربعة لمستقبل الهوية الأمريكية

يرى هنتينجتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحد من التبعات الأربعة التالية على الهوية الأمريكية في المستقبل

أولا: فقدان الهوية الأمريكية وتحول أمريكا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية، ويرى هنتينجتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأمريكيين ولكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه

ثانيا: تحول أمريكا إلى بلد ثنائي الهوية "إنجليزي-أسباني" بفعل زيادة أعداد ونفوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية

ثالثا: ثورة الأمريكيين البيض لقمع الهويات الأخرى، ويرى هنتينجتون أن هذا السيناريو هو احتمال قائم ويدرس إمكانات وقوعه ودوافعه بالتفصيل خلال الفصل قبل الأخير من كتابه

رابعا: إعادة تأكيد الهوية الأمريكية من قبل الجميع والنظر لأمريكا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنجلو-بروتستانتينية والتراث الأوربي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدة كافة الأمريكيين

مستقبل الهوية الأمريكية ودور الإسلام في تشكيلها

في مقابل هذه التهديدات والسيناريوهات يطرح هنتينتجون رؤية بديلة لإعادة بناء الهوية الأمريكية، تقوم على استشراف بعض التغيرات الجذرية الإيجابية الطارئة على المجتمع الأمريكي في الفترة الأخيرة، والتي من شأن تأكيدها عودة الروح للهوية الوطنية الأمريكية، ويعني هنتينجتون بهذه التغيرات تحولين أساسيين، أولهما عودة الأمريكيين للدين المسيحي وزيادة دور المسيحية في الحياة العامة الأمريكية، وثانيهما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام كعدو أساسي جديد لأمريكا

فيما يتعلق بدور المسيحية يرصد هنتينجتون مظاهر الصحوة الدينية بالولايات المتحدة خاصة خلال عقد التسعينات، وهي صحوة سادت مختلف الطوائف الدينية الأمريكية وعلى رأسها الجماعات الإنجليكية والذين زادوا بنسبة 18 % خلال التسعينات ونجحوا في بناء عدد كبير ومؤثر من المؤسسات السياسية، بل سعى بعض قادتهم مثل بات روبرتسون وجيري فالويل لخوض مجال العمل السياسي

ويؤكد هنتينجتون على حقيقة أن المجتمع الأمريكي هو أكثر المجتمعات الأوربية تدينا مما يجعله أرض خصبة لعودة الدين خاصة بعد أن ضاق الأمريكيون بشكل متزايد منذ الثمانينات بالمشاكل الأخلاقية التي انتشرت في مجتمعهم مثل انتشار الإدمان والجنس والعنف

ويقول هنتينجتون أن هناك عودة عامة للدين في أمريكا انعكست على الروايات الأمريكية وظهرت في الشركات والمؤسسات الاقتصادية، كما أثرت على الحياة السياسية، مشيرا إلى الحضور الكبير للقضايا الدينية والمتدينين في إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جورج دبليو بوش

ويبشر هنتينجتون بأن العودة للمسيحية – والتي تعد أحد الركائز الأساسية للهوية الأمريكية – تمثل عاملا هاما في دعم الهوية الأمريكية ونشرها خلال الفترة الراهنة

كما أن الصحوة الدينية – وفقا لتحليل هنتينجتون - تصب مباشرة في الدور المساعد الذي يمكن أن يلعبه الدين على الساحة الدولية وخاصة في تعريف عدو أمريكا الجديد وهو الإسلام

وهنا يرى هنتينجتون أن عداء بن لادن لأمريكا هو عداء ديني، وأن الأمريكيين لا يرون الإسلام على أنه عدو لهم ولكن "الإسلاميين المسلحين، المتدينين منهم والعلمانيين، يرون أمريكا وشعبها ودينها وحضارتها كأعداء للإسلام"، ونتيجة لذلك يرى هنتينجون أن "البديل الوحيد للأمريكيين هو أن ينظروا لهؤلاء الإسلاميين المسلحين بأسلوب متشابه"

ثم يبدأ هنتينجتون في وصف نفوذ الإسلاميين المسلحين ويقول أنهم كونوا شبكة دولية لها خلايا عبر العالم وأنهم يدخلون الانتخابات في بعض الدول ويسعون لتجنيد مسلمي الغرب ويتخذون المساجد كقواعد وغطاء لهم

كما يقول هنتينجتون أن الإسلاميين المسلحين يختلفون عن السوفيت في أنه لا توجد دولة واحدة تضمنهم كما أنهم لا يسعون لتقديم بديل سياسي واقتصادي عالمي للغرب كما فعل السوفيت، وذلك لأن هدفهم الأساسي هو تدمير الغرب

ثم يبدأ هنتينجتون في توسيع تعريفه للعدو الإسلامي أكثر فأكثر فيقول أن المسلمين دخلوا في العقود الأخيرة حروبا طالت البروتستانت والكاثوليك ومسلمين آخرين وهندوس ويهود وبوذيين وصينيين، وأن المسلمين حاربوا في كوسوفا والبوسنة والشيشان وكشمير وفلسطين والفلبين، وأن مشاعر المسلمين السلبية تجاه أمريكا زادت في التسعينات، وأن الشعوب الإسلامية لم تتعاطف مع الأمريكيين بعد الحادي عشر من سبتمبر، وأن عداوة الشعوب الإسلامية لأمريكا عميقة وليست بسبب إسرائيل فهي مدفونة في الحقد على الثروة الأمريكية والسيطرة الأمريكية والعداء للثقافة الأمريكية في شقيها العلماني والديني

وينهي هنتينجتون فكرته بتوقع دخول أمريكا حروب مع دول وجماعات مسلمة في السنوات القادمة مما يرشح الإسلام بشكل واضح للعلب دور العدو الأساسي والكبير الذي يوحد الأمريكيين ضده

خاتمة وتعليق

في نهاية هذا المقال نحب أن نؤكد على خطورة ما ورد في الكتاب الراهن من أفكار لأن الكتاب يحول الإسلام من عدو تصاغ حوله علاقات أمريكا الخارجية - وهي الفكرة التي طرحها هنتينجتون في كتاب صدام الحضارات والتي قد تؤثر أو لا تؤثر على حياة المواطن الأمريكي العادي الذي قد لا يهتم كثيرا بالعلاقات الدولية - إلى عدو تصاغ حوله هوية المواطن الأمريكي العادي اليومية مما قد يرسخ بشكل غير مسبوق عداء المواطن الأمريكي للإسلام والذي لا يعد – وفقا لرؤية هنتينجتون نفسه – مصدرا أساسيا من مصادر تهديد الهوية الوطنية الأمريكية