Saturday, September 10, 2005

مسلمو أمريكا بعد أربع سنوات على 11/9


بقلم: علاء بيومي

الناشر:
جريدة الوطن الكويتية، 10 سبتمبر 2005

نص المقال

لو حاولنا أن نلخص - في كلمات قليلة - تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 – في ذكراها السنوية الرابعة - على مسلمي أمريكا لقلنا أن 11/9 لم تتمكن من وقف مسيرة مسلمي أمريكا الكفاحية الطويلة نحو الاندماج الإيجابي في المجتمع الأمريكي

فعندما ننظر لمسلمي أمريكا - بعد مرور أربع سنوات طويلة وصعبة تخللتها أحداث هزت العالم عامة والمجتمعات الغربية خاصة كحرب العراق وتفجيرات لندن ومدريد – نجد أنفسنا أمام أقلية أمريكية رفضت الاستسلام للضغوط السلبية العديدة المحيطة بها

نجد أنفسنا أمام أقلية مسلمة أمريكية أكدت بشكل متكرر لا يترك مجالا للشك إصرارها على استكمال مسيرتها نحو الاندماج الإيجابي في المجتمع الأمريكي، اندماج يحفظ لها هويتها الدينية ويساعدها على الاستفادة من كل ما توصلت إليه الحضارة الأمريكية من تقدم على كافة المستويات

أقلية حاولت أقصى طاقاتها استخدام ما يتوافر لها من موارد سياسية وإعلامية وتنظيمية محدودة نسبيا لإيصال موقفها الرافض للعزلة والتهميش للمجتمعين الأمريكي والدولي

حيث وقفت الغالبية الكاسحة من المسلمين الأمريكيين – سبعة ملايين نسمة ممثلين من خلال أكثر من 2500 مؤسسة مدنية متنوعة – خلال السنوات الأربعة الأخيرة موقفا صريحا ضد الإرهاب والعنصرية والتمييز والحرب وضد التأليب الديني والعنصري، ومع التعددية والتسامح والحريات والسلام والأمن داخل الولايات المتحدة وعبر العالم، وعبرت عن موقفها هذا بسيل لا يحصى من البيانات الرسمية والأنشطة الجماهيرية والمبادرات الإعلامية والسياسية والقانونية

فالخطاب السائد في أوساط مسلمي أمريكا اليوم وبعد أربع سنوات صعبة وطويلة هو خطاب اندماجي يرفض العزلة والانكفاء على الذات، كما يرفض الذوبان والتنازل عن الهوية والمصالح المسلمة

خطاب يطالب مسلمي أمريكا بتحدي أنفسهم والظروف المحيطة وبتخطي الفترة الحالية الصعبة، بل ويطالب المسلمين الأمريكيين بعدم الاكتفاء بمواجهة التحديات العديدة الخطيرة التي تهددهم وتهدد أوضاعهم وتخطيها للدفاع عن القضايا التي تمس مصالح وحياة المواطن الأمريكي بشكل عام

لذا يندر - وربما يستحيل العثور - على منظمة أو تجمع مسلم أمريكي معروف وذي مصداقية داخل أوساط مسلمي أمريكا خرج عن الخطاب السابق

الحقائق السابقة أكدتها الإحصاءات العلمية القليلة التي أجريت عن توجهات مسلمي أمريكا نحو الاندماج بالمجتمع الأمريكي قبل أحداث سبتمبر – كمشروع دراسة توجهات قادة المساجد بالولايات المتحدة والذي أشرف عليه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) في أوائل عام 2001 – أو بعد أحداث سبتمبر – كالإحصاءات التي أصدرها مشروع المسلمين الأمريكيين في الساحات العامة والذي تشرف عليه جامعة جورج تاون الأمريكية العريقة

حيث أكدت الدراسات السابقة بشكل متكرر أن مسلمي أمريكا يجمعون بمعدلات تفوق نسبة 90% على ضرورة الانخراط الإيجابي في المجتمع الأمريكي من خلال المشاركة في شتى مؤسساته المدنية والسياسية، ومن خلال السعي للبحث عن – والبناء على - نقاط التقارب الثقافي والحضاري بين الإسلام والحضارة الأمريكية الغربية

ولو حاولنا تفسير هذه الظاهرة وموقف المسلمين الأمريكيين الرافض للعزلة والتهميش على الرغم من كل الضغوط التي قد تدفعهم في ذلك الاتجاه السلبي لوجب علينا الإشادة بمجموعتين رئيسيتين من العوامل أسهمتا في ذلك، المجموعة الأولى داخلية ترتبط بخصائص مسلمي أمريكا أنفسهم والمجموعة الثانية ترتبط بخصائص المجتمع الأمريكي ذاته

فالواضح أن قوانين الهجرة الأمريكية - والتي تعد أداة هامة في يد الحكومة الأمريكية لاستقدام الخبرات العلمية التي يفتقد لها سوق العمل الأمريكي من شتى أنحاء العالم - استقدمت لأمريكا خلال العقود الخمسة الماضية موجات متدفقة من المهاجرين المسلمين من أصحاب الخبرات العلمية والأكاديمية المرتفعة، وهو أمر أثرى المجتمع المسلم الأمريكي بشكل فريد

لذا عندما ننظر للأقلية المسلمة الأمريكية اليوم نجد أنفسنا أمام أقلية ناشئة تمتلك مقومات نهضة عديدة على رأسها ارتفاع المستوى التعليمي والثقافي لغالبية أعضائها

أضف إلى ذلك دور عدد يصعب إحصاءه من القيادات المسلمة التي ضحت بجهدها وبأموالها وراحة بالها من أجل العمل على بناء مؤسسات المسلمين بالولايات المتحدة، وبغض النظر عن أي نقائص قد تعتري هذه القيادات بحكم كونها أجيال مؤسسة لمنظمات المسلمين في أمريكا يعتريها ما يعتري الآباء المؤسسين لأي كيان اجتماعي من عيوب كقلة الخبرة وضعف التنظيم إلا أن التاريخ لا بد وأن يسجل لهذا الجيل دوره الريادي التأسيسي والذي لولاه لما تمكن المسلمون الأمريكيون من الوصول إلى أي وضع متقدم قد يحتلونه في المجتمع الأمريكي في الفترة الحالية أو في المستقبل

السبب الثالث لقوة مسلمي أمريكا الداخلية هو الجنود المجهولون بأي مجتمع والمسئولون كل نجاح كبير يحدث له وعن كل جيل مسلم أمريكي جديد متفوق ناجح، وذلك دون أن يعرفهم أحد ودون أن تسجل كتب التاريخ أسمائهم، وتضم هذه الفئة كل أم مسلمة أو أب مسلم حرصوا على تنشئة أولادهم تنشئة علمية ودينية وعملية ناجحة في ظروف المجتمع الأمريكي المليئة بالتحديات للشباب المسلم الناشئ، وكل مسلم أو مسلمة مجد في علمه يقود بالمثال الإيجابي وليس بمجرد الحديث، وكل من على شاكلة هؤلاء

السبب الرابع - وليس الأخير – هو طبيعة الاندماج الذي يسعى المسلمون الأمريكيون إلى تحقيقه، فالتيار العام المعبر عن مسلمي أمريكا ومنظماتهم يؤمن وينادي بالاندماج الإيجابي الذي يحفظ لمسلمي أمريكا هويتهم ويدفعهم في ذات الوقت إلى الانخراط بكل طاقتهم في شتى مؤسسات وقضايا المجتمع الأمريكي، حيث يرفض هذا التيار وجود تناقض بين إمكانية أن يكون الفرد مسلما حريصا على دينه وعلى قضايا أمته الإسلامية وأمريكيا محبا لوطنه ومدافعا عن قضاياه ومصالحه الحقيقية في آن واحد

وجود وانتشار هذا الفكر الوسطي الإيجابي في أوساط مسلمي أمريكا مثل أقوى درع لحماية المجتمع المسلم الأمريكي أمام محاولات تهميشه وعزله القادمة من داخلة أو من خارجه

المجموعة الثانية من الأسباب التي ساعدت مسلمي أمريكا على رفض القوى الساعية لعزلهم تعود للمجتمع الأمريكي ذاته، ذلك المجتمع الذي وصل خلال فترة قصيرة من الزمن إلى مستوى حضاري وإنساني ريادي

فمسلمو أمريكا يستفيدون اليوم بثمار تجارب كفاح خاضتها جماعات أمريكية عديدة – نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر حركة الحقوق المدنية وجماعات السلام والأقليات الأمريكية الدينية والعرقية الأقدم والعديد من الجماعات الليبرالية المختلفة - الجماعات السابقة خاضت على مدى التاريخ الأمريكي معارك عديدة لتصل بالمجتمع الأمريكي للمستوى الذي وصل إليه اليوم من التحضر والقبول بالآخر واحترام الحقوق والحريات المدنية

ولولا كفاح هذه الجماعات والتغيرات التي أدخلتها على المجتمع لكان وضع المسلمين في أمريكا اليوم - وبعد مرور أربع سنوات على أزمة بحجم محنة الحادي عشر من سبتمبر - مختلف لدرجة بعيدة

أضف إلى ذلك حقيقة هامة يشار إليها تكرارا عند الحديث عن خبرة اندماج الأقليات الدينية الأمريكية، وهي تتعلق بالفصل الأمريكي للدين عن الدولة، وهو فصل أدى – كما يرى عديد من المؤرخين – إلى تقوية الدين في الولايات المتحدة لا إضعافه

فعدم تدخل الدولة الأمريكية في أمور الدين أدى إلى تقوية المؤسسات والتجمعات الدينية بشكل غير مسبوق لأنه أعطي هذه الهيئات كل الحرية للعمل والحركة داخل المجتمع المدني الأمريكي، كما أنه دفع المؤسسات الدينية للاعتماد على الذات وعدم الاتكال على دولة تحميها وتدعمها

وقد أدى هذا إلى تقوية المؤسسات الدينية الأمريكية المختلفة بعد أن علمها الاعتماد على النفس، وبدون شك استفاد المسلمون الأمريكيون من هذه الخبرة، فلدى المسلمون الأمريكيون اليوم أكثر من 2500 مؤسسة مدنية مستقلة تكافح من أجل البقاء واجتذاب الأعضاء والنمو معتمدة على الذات

بقى لنا أن نشير إلى أن خبرة مسلمي أمريكا نحو الاندماج الإيجابي بالمجتمع الأمريكي لا تمر بدون تحديات، يأتي على رأسها تحديان رئيسيان، التحدي الأول خارجي قادم من القوى العنصرية الواقفة خلف حوادث الاعتداء على حقوق وحريات مسلمي أمريكا ومساعي تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وهي قوى مازالت في صعود خلال السنوات الأخيرة مستفيدة من عوامل عدة قد ترتبط أو لا ترتبط بالصراعات الدولية الراهنة

ويكفي أن هنا أن نشير إلى أن الإحصاءات الخاصة بحقوق مسلمي أمريكا المدنية تؤكد زيادة حوادث التمييز ضد مسلمي أمريكا بنسبة 400% خلال الفترة 2001-2004 وفقا للتقارير السنوية الصادرة عن مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير)

كما تشير الاستطلاعات الخاصة بموقف الرأي العام الأمريكي تجاه الإسلام إلى أن 40% من الشعب الأمريكي ينظرون نظرة عامة سلبية تجاه الدين الإسلامي وهي بدون شك نسبة مرتفعة على الرغم من تحسن نظرة الأمريكيين للإسلام خلال العامين الماضيين كما تشير أحدث الإحصاءات الخاصة بذلك

الأمر الذي يشير إلى حجم التحدي الكبير الذي ينبغي على المسلمين الأمريكيين مواجهته

التحدي الثاني هو حقيقة أن مسلمي أمريكا لم يترجموا حتى الآن رغبتهم العارمة في المشاركة في مؤسسات المجتمع الأمريكي المدنية والسياسية إلى مستوى عالي من المشاركة الفعلية، فالرغبة في المشاركة قائمة والعزلة مرفوضة بالإجماع

ولكن المشاركة الفعلية والتواجد بالمراكز القيادية داخل مؤسسات المجتمع الأمريكي لم تتحقق بالشكل المناسب حتى الآن، خاصة أن المشاركة المناسبة لن يتحقق إلا بوجود جيل كامل من القيادات المسلمة الأمريكية الناشطة في مختلف مؤسسات المجتمع الأمريكي وعلى كافة المستويات

وقد تحدث طفرات وتجد هذا المسلم الأمريكي أو ذاك في موقع قيادي سياسي أو إعلامي أو مدني ما، ولكن نجاح هذا الفرد لا ولن يعد علامة على وصول مسلمي أمريكا لمستوى المشاركة التي يرغبون في الوصول إليها

فهذا الأمر يحتاج – كما أشرنا من قبل – لجيل كامل من القيادات المسلمة المؤهلة والناجحة، وهو ما يعني أن طريق المسلمين الأمريكيين نحو الاندماج الإيجابي في المجتمع الأمريكي هو طريق كفاحي طويل كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال

Friday, September 02, 2005

العقل المدبر لليمين الأمريكي
بقلم: علاء بيومي

الناشر: جريدة الشرق الأوسط، 2 سبتمبر 2005

نص المقال

كتاب "أمة اليمين" الصادر في العام الماضي لمراسلي مجلة ذا أكونوميست البريطانية في الولايات المتحدة إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت يعد حتى الآن أبرز الكتب الحديثة الساعية لشرح أسباب صعود وقوة التيار المحافظ بالولايات المتحدة

فالكتاب يعد بمثابة قاموس أو مرجع شامل يتناول تاريخ اليمين الأمريكي ومدى قوته وأسباب تراجع اليسار الأمريكي ومستقبل أمريكا والعالم في ظل سيطرة اليمين خلال السنوات الأخيرة وسنوات عديدة مقبلة على مقاليد الحكم والإعلام والرأي العام بالولايات المتحدة

لذا يتضمن الكتاب عشرات الأفكار المحورية والمثيرة عن مدى سيطرة اليمين وأسباب هذه السيطرة ورؤية اليمين لمستقبل أمريكا والعالم

ويركز هذا المقال على أحد أفكار الكتاب المتميزة – والتي وردت في فصله الثاني - والمتعلقة ببنية اليمين الأمريكي نفسه ومن ثم أسباب صعوده وسيطرته، وهنا يتضح مدى التعقد الإيجابي الذي يتميز به الكتاب ومؤلفاه، فمؤلفا الكتاب يرفضان النظر إلى اليمين الأمريكي على أنه كتلة واحدة أو جماعة موحدة أو مجموعة بعينها كالمحافظين الجدد أو اليمين المتدين أو معارضي رفع الضرائب أو الأثرياء أو غيرها من القوى المعروفة بتأثيرها داخل التيار المحافظ والحزب الجمهوري بالولايات المتحدة

في المقابل يقسم الكتاب اليمين الأمريكي لجماعيتين أولها العقل المدبر وثانيها العضلات، وعقل اليمين كما يرى مؤلفو الكتاب يقع في مراكز أبحاثه، وعضلاته تكمن في منظماته الجماهيرية

دور المنظمات الجماهيرية - كما يرى الكتاب - يكمن في حشد قوى مساندي اليمين وتعبئتهم من خلال عقد المؤتمرات الجماهيرية وبناء التحالفات بين الكنائس والقيادات والقوى اليمينية المختلفة عبر الولايات المتحدة، فدور المؤسسات الجماهيرية الأساسي يكمن في التواصل مع الجماهير وحشدها، ومن أبرز هذه المنظمات الإتحاد الأمريكي المحافظ برئاسة دايفيد كين والذي يعقد مؤتمرا سنويا بواشنطن - في أوائل كل عام – يحضره حوالي 4 آلاف من النشطاء اليمينيين ليستمعوا ويشاهدوا عن قرب أكبر مناصري اليمين بدوائر الإعلام والفكر والسياسة بالولايات المتحدة الذين يحرصون على المشاركة في المؤتمر والحديث فيه، وعلى رأسهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الذي كان المتحدث الرئيس بمؤتمر الإتحاد خلال السنوات الثلاثة الأخيرة مما يعد علامة على مدى نفوذ الإتحاد وأهميته للجمهوريين

أما العقل المدبر لليمين ومركز قوته الفكرية والسياسية فيكمن في مراكز الأبحاث الأمريكية، وهنا يقدم الكتاب تشبيها بليغا لأهمية مراكز الأبحاث بالولايات المتحدة، إذ يقول أن مراكز الأبحاث في أمريكا تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب في دول العالم الأخرى

بمعنى أخر أن الأحزاب في الولايات المتحدة تبدو ضعيفة مقارنة بمرشحيها، فدور الأحزاب يكاد يقتصر على كونها ساحة عامة لتجميع الناخبين والناشطين المساندين لها وتنظيم الاقتراع بين مرشحيها لاختيار أفضلهم لخوض الانتخابات العامة ضد مرشحي الأحزاب الأخرى ودعم مرشحيها بقدر من الأموال، لذا يصعب على الأمريكيين أحيانا كثيرة تذكر أسماء المسئولين الكبار بالهيئات الحزبية بما في ذلك رؤساء اللجان المركزية للأحزاب بواشنطن، فشهرة قيادات الأحزاب الأمريكية بالكونجرس والبيت الأبيض وحتى بوسائل الإعلام ودوائر الأبحاث تفوق بشكل عام وبدرجة ملحوظة شهرة مسئولي هيئات الحزب المحلية أو الوطنية

أما وظيفة الحزب الأهم والخاصة بالتفكير في السياسات والتخطيط للمستقبل فقد تنازلت عنها الأحزاب الأمريكية طواعية لمراكز الأبحاث والتي تمتلئ بها واشنطن وتمتلئ الإدارات الأمريكية المتعاقبة بباحثيها، فإذا أتت إدارة جمهورية – على سبيل المثال – للبيت الأبيض قامت بتعيين عدد كبير من الباحثين بمراكز الأبحاث اليمينية، في حين تبقى مراكز الأبحاث اليسارية بمثابة حكومة ظل معارضة مستعدة لتولي الحكم وإدارة مقاليد السلطة لصالح سياساتها إذا ما أتى رئيس ديمقراطي للحكم، وعندما تغادر الإدارة الجمهورية السلطة يعود مسئوليها إلى مراكز الأبحاث في انتظار عودتهم للسلطة، والعكس صحيح في حالة الإدارات الديمقراطية وعلاقتها بمراكز الأبحاث

والمعروف عن الساسة في أمريكا وفي بقية دول العالم انشغالهم الشديد بسبب تعاملهم مع آلاف القضايا المتشعبة والمعقدة، كما أنهم في نفس الوقت دائمي البحث عن أفكار جديدة كبيرة تساعدهم على صنع أسمائهم بين الساسة العظماء الذين صنعوا التاريخ، لذا لا يجد هؤلاء الساسة مفرا من الاعتماد على خبراء وكتابات وأفكار مراكز الأبحاث الأمريكية خاصة لو تمتعت هذه المراكز بنفوذ كبير

ولو حاولنا سريعا أن نرصد مدى تأثير مراكز الأبحاث اليمينية على إدارة بوش لاكتفينا بالحديث عن بعض كبار مسئولي إدارة بوش المرتبطين بتلك المراكز، ولوجدنا – على سبيل المثال وليس الحصر – أن نائب الرئيس ديك تشيني، وبول أونيل وزير الخزانة الأمريكي السابق سبق وأن عملا كباحثين بمركز أبحاث أمريكان انتربرايز اليميني المعروف، والذي يعمل به الآن ريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس سياسات الدفاع بالبنتاجون وأبرز الوجوه المعبرة عن تيار المحافظين الجدد ودايفيد فروم كاتب الخطابات السابق للرئيس بوش ونوت جينجريتش الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، كما أن زوجة تشيني هي عضو حالي في مجلس إدارة أمريكان انتربرايز

ويرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن مركز أبحاث أمريكان انتربرايز يعد أحد أهم حلقات شبكة مصادر الأفكار اليمينية بواشنطن والتي تضم أيضا مجلة ذا ويكلي ستاندار والتي يرأس تحريرها ويليام كريستول أبرز المتحدثين باسم المحافظين الجدد في وسائل الإعلام الأمريكية ونجل إيرفينج كريستول الأب الروحي للمحافظين الجدد، ومعهد هيرتيج فويندايشين والذي يعد أعرق مراكز الأبحاث اليمينية وتبلغ ميزانيته السنوية 30 مليون دولار ويعمل به أكثر من 200 باحث ويتبرع له أكثر من 200 ألف متبرع يميني أمريكي

هذا إضافة إلى مركز أبحاث كاتو المعبر عن توجهات التيار التحرري والذي ينادي بالحد من دور الدولة، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ومركز أبحاث الأمن الذي يرأسه فرانك جافني، ومركز الأمريكيين من أجل إصلاح الضرائب والذي يرأسه جروفر نوركويست، ومركز هدسون للأبحاث، ومركز هوفر، هذا إضافة إلى عشرات مراكز الأبحاث اليمينية الأصغر حجما والمنتشرة عبر الولايات الأمريكية المختلفة، مثل مركز أبحاث منهاتين بنيويورك، ومركز أبحاث ميلكين بلوس أنجلوس، ومركز أبحاث ديسكفوري بولاية واشنطن والذي يعارض نظرية التطور لداروين

ويحاول الكتاب تلخيص حجم ونفوذ مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية في أرقام، فيشير إلى أن عدد مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية المعروفة في واشنطن وخارجها تبلغ حوالي 50 مركزا، كما يقول أن مركز أبحاث هيرتيج فويندايشين يرصد أكثر من 2200 خبير يميني موزعين على أكثر من 420 مركز أبحاث ومنظمة معنية بالقضايا العامة

أما عن مدى انتشار دائرة قراء ومستقبلي أبحاث هذه المراكز فيشير الكتاب إلى أن عدد قراء مجلة ذا ويكلي ستاندرد الأسبوعية لا يتعدى 58 ألف قارئ فقط وهو عدد قليل مقارنة بقراء المجلات اليسارية الموازية مثل مجلة ذا نايشين اليسارية التي يبلغ عدد قراءها 127 ألف شخص

وهنا يحاول مؤلفا الكتاب البحث في أسباب قوة نفوذ مراكز الأبحاث اليمينية مقارنة بقلة عدد قراءها، وهو أمر يقودنا بشكل مباشر لتحليل أسرار قوة اليمين بالولايات المتحدة

حيث يرى الكتاب أن أسباب قوة هذه المراكز يكمن - إضافة إلى علاقتها القوية بالإدارة وإلى كونها جزء من شبكة أكبر من المنظمات اليمينية الجماهيرية - في خمسة أسباب رئيسية

أهمها هو تركيز هذه المراكز القوي على دائرة صغيرة نسبيا من صناع القرار الأمريكيين فهدف هذه الجماعات هو التأثير على الكونجرس والإدارة الأمريكية وكبار صناع القرار بينما تترك التأثير على الجماهير للمؤسسات الجماهيرية اليمينية مما يسهل من مهمة مراكز الأبحاث

السبب الثاني هو تمتع هذه المراكز لدعم مالي مستقر من هيئات خيرية يمينية معروفة، هذا إضافة إلى شبكة متنامية من المتبرعين اليمينيين والذين يصل عددهم إلى 200 ألف متبرع في حالة هيرتيج فويندايشين

السبب الثالث هو صعود نفوذ وسائل الإعلام اليمينية وعلى رأسها قناة تلفزيون فوكس نيوز الأمريكية والتي تفوقت على قناة سي إن إن الأمريكية في عام 2002 وأصبحت أكثر قنوات الأخبار مشاهدة في أمريكا، مما يسهل على مراكز الأبحاث اليمينية مهمة نشر أفكارها في أوساط الشعب الأمريكي

السبب الرابع هو تركيز مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام اليمنية القوى على رسالتها وهدفها مقارنة بمراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الليبرالية التي تهتم بقضايا الحياد والموضوعية وتحاول أن تقدم نفسها على أنها وسائل تخدم الصالح العام، وهنا يرى مؤلفا كتاب "أمة اليمين" أن الهيئات الخيرية الليبرالية الأمريكية تبدو أقل تركيزا من نظيرتها على اليسار، فالكتاب يشير إلى مؤسسة فورد الأمريكية الليبرالية ويقول أن فورد فتحت حوالي 16 فرعا حول العالم لخدمة عشرات من القضايا الخيرية العالمية مما شتت جهودها ومواردها ودعمها لمراكز الأبحاث الليبرالية مقارنة بتركيز الهيئات الخيرية اليمينية على خدمة قضايا الداخل بشكل رئيسي

السبب الخامس هو أن مراكز الأبحاث اليمينة بنت خلال العقود الأربعة الأخيرة والتي شهدت صعود اليمين الأمريكي تدريجيا شبكة متنامية وقوية من مراكز الأبحاث والمنابر الفكرية والإعلامية المختلفة المساندة لها، ويقول مؤلفا الكتاب أنه أصبح من الممكن لبعض الباحثين المحافظين الشباب أن يمضوا حياتهم كلها داخل شبكة مراكز الأبحاث اليمينية دون أن يشعروا بحاجة للبحث عن أية أفكار أو مساندة خارجها

أما فيما يتعلق بمستقبل مراكز الأبحاث اليمينية ودوام سيطرتها فيرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن النفوذ الكبير الذي وصلت إليه مراكز الأبحاث اليمنية في الفترة الحالية ربما يعد أحد أسباب بداية تراجعها، فهما يعتقدان بأن نفوذ هذه المراكز الكبير بشكل خاص وهيمنة اليمين الأمريكي بشكل عام منحت مراكز الأبحاث اليمنية ثقة زائدة بنفسها وجعلتها تنشغل عن وظيفتها الأساسية وهي البحث عن أفكار جديدة إلى الانشغال بترويج سياساتها وأفكارها الأيدلوجية وتبرير مواقف وسياسات الرئيس جورج دبليو بوش

كما أن نفوذ وانتشار شبكة مراكز الأبحاث اليمنية أعطت الباحثين المحافظين شعورا بالاكتفاء الذاتي وعدم الرغبة في قراءة الأخر والتعرف عليه وهو شعور خطير مكلف قد يؤدي للتقوقع على الذات والخروج مبكرا من الصراع على السيطرة على الجدل العام الفكري والسياسي بالولايات المتحدة