العقل المدبر لليمين الأمريكي
بقلم: علاء بيومي
الناشر: جريدة الشرق الأوسط، 2 سبتمبر 2005
نص المقال
كتاب "أمة اليمين" الصادر في العام الماضي لمراسلي مجلة ذا أكونوميست البريطانية في الولايات المتحدة إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت يعد حتى الآن أبرز الكتب الحديثة الساعية لشرح أسباب صعود وقوة التيار المحافظ بالولايات المتحدة
فالكتاب يعد بمثابة قاموس أو مرجع شامل يتناول تاريخ اليمين الأمريكي ومدى قوته وأسباب تراجع اليسار الأمريكي ومستقبل أمريكا والعالم في ظل سيطرة اليمين خلال السنوات الأخيرة وسنوات عديدة مقبلة على مقاليد الحكم والإعلام والرأي العام بالولايات المتحدة
لذا يتضمن الكتاب عشرات الأفكار المحورية والمثيرة عن مدى سيطرة اليمين وأسباب هذه السيطرة ورؤية اليمين لمستقبل أمريكا والعالم
ويركز هذا المقال على أحد أفكار الكتاب المتميزة – والتي وردت في فصله الثاني - والمتعلقة ببنية اليمين الأمريكي نفسه ومن ثم أسباب صعوده وسيطرته، وهنا يتضح مدى التعقد الإيجابي الذي يتميز به الكتاب ومؤلفاه، فمؤلفا الكتاب يرفضان النظر إلى اليمين الأمريكي على أنه كتلة واحدة أو جماعة موحدة أو مجموعة بعينها كالمحافظين الجدد أو اليمين المتدين أو معارضي رفع الضرائب أو الأثرياء أو غيرها من القوى المعروفة بتأثيرها داخل التيار المحافظ والحزب الجمهوري بالولايات المتحدة
في المقابل يقسم الكتاب اليمين الأمريكي لجماعيتين أولها العقل المدبر وثانيها العضلات، وعقل اليمين كما يرى مؤلفو الكتاب يقع في مراكز أبحاثه، وعضلاته تكمن في منظماته الجماهيرية
دور المنظمات الجماهيرية - كما يرى الكتاب - يكمن في حشد قوى مساندي اليمين وتعبئتهم من خلال عقد المؤتمرات الجماهيرية وبناء التحالفات بين الكنائس والقيادات والقوى اليمينية المختلفة عبر الولايات المتحدة، فدور المؤسسات الجماهيرية الأساسي يكمن في التواصل مع الجماهير وحشدها، ومن أبرز هذه المنظمات الإتحاد الأمريكي المحافظ برئاسة دايفيد كين والذي يعقد مؤتمرا سنويا بواشنطن - في أوائل كل عام – يحضره حوالي 4 آلاف من النشطاء اليمينيين ليستمعوا ويشاهدوا عن قرب أكبر مناصري اليمين بدوائر الإعلام والفكر والسياسة بالولايات المتحدة الذين يحرصون على المشاركة في المؤتمر والحديث فيه، وعلى رأسهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الذي كان المتحدث الرئيس بمؤتمر الإتحاد خلال السنوات الثلاثة الأخيرة مما يعد علامة على مدى نفوذ الإتحاد وأهميته للجمهوريين
أما العقل المدبر لليمين ومركز قوته الفكرية والسياسية فيكمن في مراكز الأبحاث الأمريكية، وهنا يقدم الكتاب تشبيها بليغا لأهمية مراكز الأبحاث بالولايات المتحدة، إذ يقول أن مراكز الأبحاث في أمريكا تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب في دول العالم الأخرى
بمعنى أخر أن الأحزاب في الولايات المتحدة تبدو ضعيفة مقارنة بمرشحيها، فدور الأحزاب يكاد يقتصر على كونها ساحة عامة لتجميع الناخبين والناشطين المساندين لها وتنظيم الاقتراع بين مرشحيها لاختيار أفضلهم لخوض الانتخابات العامة ضد مرشحي الأحزاب الأخرى ودعم مرشحيها بقدر من الأموال، لذا يصعب على الأمريكيين أحيانا كثيرة تذكر أسماء المسئولين الكبار بالهيئات الحزبية بما في ذلك رؤساء اللجان المركزية للأحزاب بواشنطن، فشهرة قيادات الأحزاب الأمريكية بالكونجرس والبيت الأبيض وحتى بوسائل الإعلام ودوائر الأبحاث تفوق بشكل عام وبدرجة ملحوظة شهرة مسئولي هيئات الحزب المحلية أو الوطنية
أما وظيفة الحزب الأهم والخاصة بالتفكير في السياسات والتخطيط للمستقبل فقد تنازلت عنها الأحزاب الأمريكية طواعية لمراكز الأبحاث والتي تمتلئ بها واشنطن وتمتلئ الإدارات الأمريكية المتعاقبة بباحثيها، فإذا أتت إدارة جمهورية – على سبيل المثال – للبيت الأبيض قامت بتعيين عدد كبير من الباحثين بمراكز الأبحاث اليمينية، في حين تبقى مراكز الأبحاث اليسارية بمثابة حكومة ظل معارضة مستعدة لتولي الحكم وإدارة مقاليد السلطة لصالح سياساتها إذا ما أتى رئيس ديمقراطي للحكم، وعندما تغادر الإدارة الجمهورية السلطة يعود مسئوليها إلى مراكز الأبحاث في انتظار عودتهم للسلطة، والعكس صحيح في حالة الإدارات الديمقراطية وعلاقتها بمراكز الأبحاث
والمعروف عن الساسة في أمريكا وفي بقية دول العالم انشغالهم الشديد بسبب تعاملهم مع آلاف القضايا المتشعبة والمعقدة، كما أنهم في نفس الوقت دائمي البحث عن أفكار جديدة كبيرة تساعدهم على صنع أسمائهم بين الساسة العظماء الذين صنعوا التاريخ، لذا لا يجد هؤلاء الساسة مفرا من الاعتماد على خبراء وكتابات وأفكار مراكز الأبحاث الأمريكية خاصة لو تمتعت هذه المراكز بنفوذ كبير
ولو حاولنا سريعا أن نرصد مدى تأثير مراكز الأبحاث اليمينية على إدارة بوش لاكتفينا بالحديث عن بعض كبار مسئولي إدارة بوش المرتبطين بتلك المراكز، ولوجدنا – على سبيل المثال وليس الحصر – أن نائب الرئيس ديك تشيني، وبول أونيل وزير الخزانة الأمريكي السابق سبق وأن عملا كباحثين بمركز أبحاث أمريكان انتربرايز اليميني المعروف، والذي يعمل به الآن ريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس سياسات الدفاع بالبنتاجون وأبرز الوجوه المعبرة عن تيار المحافظين الجدد ودايفيد فروم كاتب الخطابات السابق للرئيس بوش ونوت جينجريتش الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، كما أن زوجة تشيني هي عضو حالي في مجلس إدارة أمريكان انتربرايز
ويرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن مركز أبحاث أمريكان انتربرايز يعد أحد أهم حلقات شبكة مصادر الأفكار اليمينية بواشنطن والتي تضم أيضا مجلة ذا ويكلي ستاندار والتي يرأس تحريرها ويليام كريستول أبرز المتحدثين باسم المحافظين الجدد في وسائل الإعلام الأمريكية ونجل إيرفينج كريستول الأب الروحي للمحافظين الجدد، ومعهد هيرتيج فويندايشين والذي يعد أعرق مراكز الأبحاث اليمينية وتبلغ ميزانيته السنوية 30 مليون دولار ويعمل به أكثر من 200 باحث ويتبرع له أكثر من 200 ألف متبرع يميني أمريكي
هذا إضافة إلى مركز أبحاث كاتو المعبر عن توجهات التيار التحرري والذي ينادي بالحد من دور الدولة، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ومركز أبحاث الأمن الذي يرأسه فرانك جافني، ومركز الأمريكيين من أجل إصلاح الضرائب والذي يرأسه جروفر نوركويست، ومركز هدسون للأبحاث، ومركز هوفر، هذا إضافة إلى عشرات مراكز الأبحاث اليمينية الأصغر حجما والمنتشرة عبر الولايات الأمريكية المختلفة، مثل مركز أبحاث منهاتين بنيويورك، ومركز أبحاث ميلكين بلوس أنجلوس، ومركز أبحاث ديسكفوري بولاية واشنطن والذي يعارض نظرية التطور لداروين
ويحاول الكتاب تلخيص حجم ونفوذ مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية في أرقام، فيشير إلى أن عدد مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية المعروفة في واشنطن وخارجها تبلغ حوالي 50 مركزا، كما يقول أن مركز أبحاث هيرتيج فويندايشين يرصد أكثر من 2200 خبير يميني موزعين على أكثر من 420 مركز أبحاث ومنظمة معنية بالقضايا العامة
أما عن مدى انتشار دائرة قراء ومستقبلي أبحاث هذه المراكز فيشير الكتاب إلى أن عدد قراء مجلة ذا ويكلي ستاندرد الأسبوعية لا يتعدى 58 ألف قارئ فقط وهو عدد قليل مقارنة بقراء المجلات اليسارية الموازية مثل مجلة ذا نايشين اليسارية التي يبلغ عدد قراءها 127 ألف شخص
وهنا يحاول مؤلفا الكتاب البحث في أسباب قوة نفوذ مراكز الأبحاث اليمينية مقارنة بقلة عدد قراءها، وهو أمر يقودنا بشكل مباشر لتحليل أسرار قوة اليمين بالولايات المتحدة
حيث يرى الكتاب أن أسباب قوة هذه المراكز يكمن - إضافة إلى علاقتها القوية بالإدارة وإلى كونها جزء من شبكة أكبر من المنظمات اليمينية الجماهيرية - في خمسة أسباب رئيسية
أهمها هو تركيز هذه المراكز القوي على دائرة صغيرة نسبيا من صناع القرار الأمريكيين فهدف هذه الجماعات هو التأثير على الكونجرس والإدارة الأمريكية وكبار صناع القرار بينما تترك التأثير على الجماهير للمؤسسات الجماهيرية اليمينية مما يسهل من مهمة مراكز الأبحاث
السبب الثاني هو تمتع هذه المراكز لدعم مالي مستقر من هيئات خيرية يمينية معروفة، هذا إضافة إلى شبكة متنامية من المتبرعين اليمينيين والذين يصل عددهم إلى 200 ألف متبرع في حالة هيرتيج فويندايشين
السبب الثالث هو صعود نفوذ وسائل الإعلام اليمينية وعلى رأسها قناة تلفزيون فوكس نيوز الأمريكية والتي تفوقت على قناة سي إن إن الأمريكية في عام 2002 وأصبحت أكثر قنوات الأخبار مشاهدة في أمريكا، مما يسهل على مراكز الأبحاث اليمينية مهمة نشر أفكارها في أوساط الشعب الأمريكي
السبب الرابع هو تركيز مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام اليمنية القوى على رسالتها وهدفها مقارنة بمراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الليبرالية التي تهتم بقضايا الحياد والموضوعية وتحاول أن تقدم نفسها على أنها وسائل تخدم الصالح العام، وهنا يرى مؤلفا كتاب "أمة اليمين" أن الهيئات الخيرية الليبرالية الأمريكية تبدو أقل تركيزا من نظيرتها على اليسار، فالكتاب يشير إلى مؤسسة فورد الأمريكية الليبرالية ويقول أن فورد فتحت حوالي 16 فرعا حول العالم لخدمة عشرات من القضايا الخيرية العالمية مما شتت جهودها ومواردها ودعمها لمراكز الأبحاث الليبرالية مقارنة بتركيز الهيئات الخيرية اليمينية على خدمة قضايا الداخل بشكل رئيسي
السبب الخامس هو أن مراكز الأبحاث اليمينة بنت خلال العقود الأربعة الأخيرة والتي شهدت صعود اليمين الأمريكي تدريجيا شبكة متنامية وقوية من مراكز الأبحاث والمنابر الفكرية والإعلامية المختلفة المساندة لها، ويقول مؤلفا الكتاب أنه أصبح من الممكن لبعض الباحثين المحافظين الشباب أن يمضوا حياتهم كلها داخل شبكة مراكز الأبحاث اليمينية دون أن يشعروا بحاجة للبحث عن أية أفكار أو مساندة خارجها
أما فيما يتعلق بمستقبل مراكز الأبحاث اليمينية ودوام سيطرتها فيرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن النفوذ الكبير الذي وصلت إليه مراكز الأبحاث اليمنية في الفترة الحالية ربما يعد أحد أسباب بداية تراجعها، فهما يعتقدان بأن نفوذ هذه المراكز الكبير بشكل خاص وهيمنة اليمين الأمريكي بشكل عام منحت مراكز الأبحاث اليمنية ثقة زائدة بنفسها وجعلتها تنشغل عن وظيفتها الأساسية وهي البحث عن أفكار جديدة إلى الانشغال بترويج سياساتها وأفكارها الأيدلوجية وتبرير مواقف وسياسات الرئيس جورج دبليو بوش
كما أن نفوذ وانتشار شبكة مراكز الأبحاث اليمنية أعطت الباحثين المحافظين شعورا بالاكتفاء الذاتي وعدم الرغبة في قراءة الأخر والتعرف عليه وهو شعور خطير مكلف قد يؤدي للتقوقع على الذات والخروج مبكرا من الصراع على السيطرة على الجدل العام الفكري والسياسي بالولايات المتحدة
الناشر: جريدة الشرق الأوسط، 2 سبتمبر 2005
نص المقال
كتاب "أمة اليمين" الصادر في العام الماضي لمراسلي مجلة ذا أكونوميست البريطانية في الولايات المتحدة إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت يعد حتى الآن أبرز الكتب الحديثة الساعية لشرح أسباب صعود وقوة التيار المحافظ بالولايات المتحدة
فالكتاب يعد بمثابة قاموس أو مرجع شامل يتناول تاريخ اليمين الأمريكي ومدى قوته وأسباب تراجع اليسار الأمريكي ومستقبل أمريكا والعالم في ظل سيطرة اليمين خلال السنوات الأخيرة وسنوات عديدة مقبلة على مقاليد الحكم والإعلام والرأي العام بالولايات المتحدة
لذا يتضمن الكتاب عشرات الأفكار المحورية والمثيرة عن مدى سيطرة اليمين وأسباب هذه السيطرة ورؤية اليمين لمستقبل أمريكا والعالم
ويركز هذا المقال على أحد أفكار الكتاب المتميزة – والتي وردت في فصله الثاني - والمتعلقة ببنية اليمين الأمريكي نفسه ومن ثم أسباب صعوده وسيطرته، وهنا يتضح مدى التعقد الإيجابي الذي يتميز به الكتاب ومؤلفاه، فمؤلفا الكتاب يرفضان النظر إلى اليمين الأمريكي على أنه كتلة واحدة أو جماعة موحدة أو مجموعة بعينها كالمحافظين الجدد أو اليمين المتدين أو معارضي رفع الضرائب أو الأثرياء أو غيرها من القوى المعروفة بتأثيرها داخل التيار المحافظ والحزب الجمهوري بالولايات المتحدة
في المقابل يقسم الكتاب اليمين الأمريكي لجماعيتين أولها العقل المدبر وثانيها العضلات، وعقل اليمين كما يرى مؤلفو الكتاب يقع في مراكز أبحاثه، وعضلاته تكمن في منظماته الجماهيرية
دور المنظمات الجماهيرية - كما يرى الكتاب - يكمن في حشد قوى مساندي اليمين وتعبئتهم من خلال عقد المؤتمرات الجماهيرية وبناء التحالفات بين الكنائس والقيادات والقوى اليمينية المختلفة عبر الولايات المتحدة، فدور المؤسسات الجماهيرية الأساسي يكمن في التواصل مع الجماهير وحشدها، ومن أبرز هذه المنظمات الإتحاد الأمريكي المحافظ برئاسة دايفيد كين والذي يعقد مؤتمرا سنويا بواشنطن - في أوائل كل عام – يحضره حوالي 4 آلاف من النشطاء اليمينيين ليستمعوا ويشاهدوا عن قرب أكبر مناصري اليمين بدوائر الإعلام والفكر والسياسة بالولايات المتحدة الذين يحرصون على المشاركة في المؤتمر والحديث فيه، وعلى رأسهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الذي كان المتحدث الرئيس بمؤتمر الإتحاد خلال السنوات الثلاثة الأخيرة مما يعد علامة على مدى نفوذ الإتحاد وأهميته للجمهوريين
أما العقل المدبر لليمين ومركز قوته الفكرية والسياسية فيكمن في مراكز الأبحاث الأمريكية، وهنا يقدم الكتاب تشبيها بليغا لأهمية مراكز الأبحاث بالولايات المتحدة، إذ يقول أن مراكز الأبحاث في أمريكا تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب في دول العالم الأخرى
بمعنى أخر أن الأحزاب في الولايات المتحدة تبدو ضعيفة مقارنة بمرشحيها، فدور الأحزاب يكاد يقتصر على كونها ساحة عامة لتجميع الناخبين والناشطين المساندين لها وتنظيم الاقتراع بين مرشحيها لاختيار أفضلهم لخوض الانتخابات العامة ضد مرشحي الأحزاب الأخرى ودعم مرشحيها بقدر من الأموال، لذا يصعب على الأمريكيين أحيانا كثيرة تذكر أسماء المسئولين الكبار بالهيئات الحزبية بما في ذلك رؤساء اللجان المركزية للأحزاب بواشنطن، فشهرة قيادات الأحزاب الأمريكية بالكونجرس والبيت الأبيض وحتى بوسائل الإعلام ودوائر الأبحاث تفوق بشكل عام وبدرجة ملحوظة شهرة مسئولي هيئات الحزب المحلية أو الوطنية
أما وظيفة الحزب الأهم والخاصة بالتفكير في السياسات والتخطيط للمستقبل فقد تنازلت عنها الأحزاب الأمريكية طواعية لمراكز الأبحاث والتي تمتلئ بها واشنطن وتمتلئ الإدارات الأمريكية المتعاقبة بباحثيها، فإذا أتت إدارة جمهورية – على سبيل المثال – للبيت الأبيض قامت بتعيين عدد كبير من الباحثين بمراكز الأبحاث اليمينية، في حين تبقى مراكز الأبحاث اليسارية بمثابة حكومة ظل معارضة مستعدة لتولي الحكم وإدارة مقاليد السلطة لصالح سياساتها إذا ما أتى رئيس ديمقراطي للحكم، وعندما تغادر الإدارة الجمهورية السلطة يعود مسئوليها إلى مراكز الأبحاث في انتظار عودتهم للسلطة، والعكس صحيح في حالة الإدارات الديمقراطية وعلاقتها بمراكز الأبحاث
والمعروف عن الساسة في أمريكا وفي بقية دول العالم انشغالهم الشديد بسبب تعاملهم مع آلاف القضايا المتشعبة والمعقدة، كما أنهم في نفس الوقت دائمي البحث عن أفكار جديدة كبيرة تساعدهم على صنع أسمائهم بين الساسة العظماء الذين صنعوا التاريخ، لذا لا يجد هؤلاء الساسة مفرا من الاعتماد على خبراء وكتابات وأفكار مراكز الأبحاث الأمريكية خاصة لو تمتعت هذه المراكز بنفوذ كبير
ولو حاولنا سريعا أن نرصد مدى تأثير مراكز الأبحاث اليمينية على إدارة بوش لاكتفينا بالحديث عن بعض كبار مسئولي إدارة بوش المرتبطين بتلك المراكز، ولوجدنا – على سبيل المثال وليس الحصر – أن نائب الرئيس ديك تشيني، وبول أونيل وزير الخزانة الأمريكي السابق سبق وأن عملا كباحثين بمركز أبحاث أمريكان انتربرايز اليميني المعروف، والذي يعمل به الآن ريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس سياسات الدفاع بالبنتاجون وأبرز الوجوه المعبرة عن تيار المحافظين الجدد ودايفيد فروم كاتب الخطابات السابق للرئيس بوش ونوت جينجريتش الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، كما أن زوجة تشيني هي عضو حالي في مجلس إدارة أمريكان انتربرايز
ويرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن مركز أبحاث أمريكان انتربرايز يعد أحد أهم حلقات شبكة مصادر الأفكار اليمينية بواشنطن والتي تضم أيضا مجلة ذا ويكلي ستاندار والتي يرأس تحريرها ويليام كريستول أبرز المتحدثين باسم المحافظين الجدد في وسائل الإعلام الأمريكية ونجل إيرفينج كريستول الأب الروحي للمحافظين الجدد، ومعهد هيرتيج فويندايشين والذي يعد أعرق مراكز الأبحاث اليمينية وتبلغ ميزانيته السنوية 30 مليون دولار ويعمل به أكثر من 200 باحث ويتبرع له أكثر من 200 ألف متبرع يميني أمريكي
هذا إضافة إلى مركز أبحاث كاتو المعبر عن توجهات التيار التحرري والذي ينادي بالحد من دور الدولة، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ومركز أبحاث الأمن الذي يرأسه فرانك جافني، ومركز الأمريكيين من أجل إصلاح الضرائب والذي يرأسه جروفر نوركويست، ومركز هدسون للأبحاث، ومركز هوفر، هذا إضافة إلى عشرات مراكز الأبحاث اليمينية الأصغر حجما والمنتشرة عبر الولايات الأمريكية المختلفة، مثل مركز أبحاث منهاتين بنيويورك، ومركز أبحاث ميلكين بلوس أنجلوس، ومركز أبحاث ديسكفوري بولاية واشنطن والذي يعارض نظرية التطور لداروين
ويحاول الكتاب تلخيص حجم ونفوذ مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية في أرقام، فيشير إلى أن عدد مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية المعروفة في واشنطن وخارجها تبلغ حوالي 50 مركزا، كما يقول أن مركز أبحاث هيرتيج فويندايشين يرصد أكثر من 2200 خبير يميني موزعين على أكثر من 420 مركز أبحاث ومنظمة معنية بالقضايا العامة
أما عن مدى انتشار دائرة قراء ومستقبلي أبحاث هذه المراكز فيشير الكتاب إلى أن عدد قراء مجلة ذا ويكلي ستاندرد الأسبوعية لا يتعدى 58 ألف قارئ فقط وهو عدد قليل مقارنة بقراء المجلات اليسارية الموازية مثل مجلة ذا نايشين اليسارية التي يبلغ عدد قراءها 127 ألف شخص
وهنا يحاول مؤلفا الكتاب البحث في أسباب قوة نفوذ مراكز الأبحاث اليمينية مقارنة بقلة عدد قراءها، وهو أمر يقودنا بشكل مباشر لتحليل أسرار قوة اليمين بالولايات المتحدة
حيث يرى الكتاب أن أسباب قوة هذه المراكز يكمن - إضافة إلى علاقتها القوية بالإدارة وإلى كونها جزء من شبكة أكبر من المنظمات اليمينية الجماهيرية - في خمسة أسباب رئيسية
أهمها هو تركيز هذه المراكز القوي على دائرة صغيرة نسبيا من صناع القرار الأمريكيين فهدف هذه الجماعات هو التأثير على الكونجرس والإدارة الأمريكية وكبار صناع القرار بينما تترك التأثير على الجماهير للمؤسسات الجماهيرية اليمينية مما يسهل من مهمة مراكز الأبحاث
السبب الثاني هو تمتع هذه المراكز لدعم مالي مستقر من هيئات خيرية يمينية معروفة، هذا إضافة إلى شبكة متنامية من المتبرعين اليمينيين والذين يصل عددهم إلى 200 ألف متبرع في حالة هيرتيج فويندايشين
السبب الثالث هو صعود نفوذ وسائل الإعلام اليمينية وعلى رأسها قناة تلفزيون فوكس نيوز الأمريكية والتي تفوقت على قناة سي إن إن الأمريكية في عام 2002 وأصبحت أكثر قنوات الأخبار مشاهدة في أمريكا، مما يسهل على مراكز الأبحاث اليمينية مهمة نشر أفكارها في أوساط الشعب الأمريكي
السبب الرابع هو تركيز مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام اليمنية القوى على رسالتها وهدفها مقارنة بمراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الليبرالية التي تهتم بقضايا الحياد والموضوعية وتحاول أن تقدم نفسها على أنها وسائل تخدم الصالح العام، وهنا يرى مؤلفا كتاب "أمة اليمين" أن الهيئات الخيرية الليبرالية الأمريكية تبدو أقل تركيزا من نظيرتها على اليسار، فالكتاب يشير إلى مؤسسة فورد الأمريكية الليبرالية ويقول أن فورد فتحت حوالي 16 فرعا حول العالم لخدمة عشرات من القضايا الخيرية العالمية مما شتت جهودها ومواردها ودعمها لمراكز الأبحاث الليبرالية مقارنة بتركيز الهيئات الخيرية اليمينية على خدمة قضايا الداخل بشكل رئيسي
السبب الخامس هو أن مراكز الأبحاث اليمينة بنت خلال العقود الأربعة الأخيرة والتي شهدت صعود اليمين الأمريكي تدريجيا شبكة متنامية وقوية من مراكز الأبحاث والمنابر الفكرية والإعلامية المختلفة المساندة لها، ويقول مؤلفا الكتاب أنه أصبح من الممكن لبعض الباحثين المحافظين الشباب أن يمضوا حياتهم كلها داخل شبكة مراكز الأبحاث اليمينية دون أن يشعروا بحاجة للبحث عن أية أفكار أو مساندة خارجها
أما فيما يتعلق بمستقبل مراكز الأبحاث اليمينية ودوام سيطرتها فيرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن النفوذ الكبير الذي وصلت إليه مراكز الأبحاث اليمنية في الفترة الحالية ربما يعد أحد أسباب بداية تراجعها، فهما يعتقدان بأن نفوذ هذه المراكز الكبير بشكل خاص وهيمنة اليمين الأمريكي بشكل عام منحت مراكز الأبحاث اليمنية ثقة زائدة بنفسها وجعلتها تنشغل عن وظيفتها الأساسية وهي البحث عن أفكار جديدة إلى الانشغال بترويج سياساتها وأفكارها الأيدلوجية وتبرير مواقف وسياسات الرئيس جورج دبليو بوش
كما أن نفوذ وانتشار شبكة مراكز الأبحاث اليمنية أعطت الباحثين المحافظين شعورا بالاكتفاء الذاتي وعدم الرغبة في قراءة الأخر والتعرف عليه وهو شعور خطير مكلف قد يؤدي للتقوقع على الذات والخروج مبكرا من الصراع على السيطرة على الجدل العام الفكري والسياسي بالولايات المتحدة
1 comment:
Good Article
Post a Comment