Saturday, April 30, 2005

صناعة اللوبي الأمريكية: حقائق وأرقام
بقلم: علاء بيومي

الناشر: تقرير واشنطن، 30 أبريل 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر


نص المقال

مركز الاستقامة العامة (Center for Public Integrity) هو مركز أبحاث أمريكي معروف باهتمامه بتتبع تأثير المال على العملية السياسية الأمريكية، ويمثل موقع المركز على الشبكة الإنترنت (
www.publicintegrity) وجهة أساسية للباحثين والصحفيين المعنيين بتتبع تأثير المالي على النظام السياسي الأمريكي خاصة خلال الحملات الانتخابية الفيدرالية

المركز أصدر في شهر أبريل 2005 دراسة عن حجم الإنفاق على أنشطة الضغط السياسي (اللوبي) على المؤسسات الفيدرالية (الكونجرس والبيت الأبيض والمؤسسات الفيدرالية الأمريكية) خلال السنوات الستة الممتدة من أوائل عام 1998 وحتى نهاية عام 2003، وقد كشفت الدراسة الهامة عدد من الحقائق المثيرة حول حجم صناعة اللوبي والقائمين عليها بواشنطن

أول هذه الحقائق هو أن صناعة اللوبي توظف حوالي 14 ألف خبير، وقد أنفقت هذه الصناعة 13 بليون دولار خلال السنوات الست التي شملتها الدراسة من بينها 2.4 بليون دولار خلال عام 2003 وحده، وتعني هذه الحقيقة – كما أبرز التقرير – أن ما ينفق على أنشطة اللوبي يبلغ تقريبا ضعف ما ينفق الحملات الانتخابية الفيدرالية حتى في السنوات التي تشهد انتخابات رئاسية، ففي عام 2000 على سبيل المثال - وهو أخر عام شهد انتخابات رئاسية غطاه التقرير - بلغت تكاليف الانتخابات الفيدرالية 2.3 بليون دولار في حين بلغت تكاليف أنشطة الضغط السياسي على المؤسسات الفيدرالية 3.5 بليون دولار في العام نفسه

وقد دفعت الحقيقة السابقة إلكس نات مدير المشروع البحثي الذي أشرف على إعداد التقرير إلى مطالبة وسائل الإعلام الأمريكية بتسليط مزيد من الضوء على صناعة اللوبي لتحديد حجمها وتأثيرها على السياسة الأمريكية مشيرا إلى أن عدد المقالات التي نشرتها وسائل الإعلام الأمريكية عن أنشطة اللوبي في عام 2004 لا يتعدى عشر المقالات التي نشرتها عن التبرعات الموجهة لتمويل الحملات الانتخابية الفيدرالية

ثانيا كشف التقرير عن ضعف الرقابة الحكومية على أنشطة اللوبي، فوثائق اللجنة التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي المعنية بمتابعة أنشطة اللوبي توضح أن هناك أكثر من 30 ألف خبيرا نشطين في مجال اللوبي ومع ذلك لم يقدم سوى 14 ألف خبيرا فقط تقارير عن أنشطتهم في العام الماضي، أضف إلى ذلك تأخر عدد كبير من الخبراء والشركات العاملة في مجال الضغط السياسي في تقديم تقاريرها النصف سنوية للجان المعنية بالكونجرس، فخلال سنوات الدراسة الستة قدم خبراء وجماعات اللوبي 183 ألف تقرير عن أنشطتها، من بينها 38 ألف تقرير متأخرة عن موعدها، بعضها (9 آلاف تقرير تقريبا) متأخرة ثلاثة أشهر عن مواعيد تقديمها

كما أن 1200 شركة من الشركات المسجلة كشركات ضغط سياسي والتي يبلغ عددها 6400 شركة فشلت في تقديم استمارة أو أكثر من الاستمارات الرسمية التي كان ينبغي عليها تعبئتها

أكثر من ذلك كشف التقرير عن الفقر الشديد في موارد الهيئات الحكومية المعنية بمراقبة عمل جماعات وخبراء الضغط السياسي، فأحدث القوانين المنظمة لعمل جماعات اللوبي الأمريكية والذي مرر في عام 1995 وضع مهمة مراقبة أعمال الهيئات التي تمارس الضغط السياسي على المؤسسات الفيدرالية في يد مكتبين أحدهما بمجلس النواب الأمريكي يعمل به 35 شخصا والأخر في مجلس الشيوخ الأمريكي ويوظف 11 شخصا فقط، في حين أن اللجنة الحكومية المعنية بمراقبة التبرعات الموجهة للتأثير على الحملات الانتخابية الفيدرالية وهي لجنة الانتخابات الفيدرالية يعمل بها حوالي 400 موظفا بميزانية قدرها 52 مليون دولار حتى تتمكن من متابعة سير وتأثير التبرعات على الانتخابات الفيدرالية والتي تقل في مجموعها عن نصف ما ينفق على أنشطة اللوبي

كما أن قانون عام 1995 لم يعطي لجنتي الكونجرس المعنيتين بمراقبة عمل جماعات اللوبي أي سلطات في مجال التحقيق في تلاعبات جماعات وخبراء اللوبي، فمهمة اللجنتين الرئيسية تتلخص في استلام تقارير هذه الجماعات كل ستة أشهر ومطالبة جماعات اللوبي بملء الاستمارات المطلوبة، وفي حالة فشل شركات اللوبي في تقديم المعلومات والتقارير المطلوبة يمكن للجنتي الكونجرس رفع تقارير عنها إلى مكتب المدعي العام بالعاصمة الأمريكية واشنطن المتخم بآلاف القضايا الخاصة بعمل ومشاكل المؤسسات الفيدرالية الأمريكية، نتيجة لما سبق يندر رفع شكاوى من قبل لجنتي الكونجرس للمكتب المدعي العام بواشنطن والذي لا يعتبر التحقيق في هذه الشكاوى أمرا ذا أولوية كبيرة كما يرى عاصف إسماعيل الباحث بمركز الاستقامة العامة

الحقيقة الرئيسية الثالثة التي يكشفها التقرير ترتبط بعلاقة ودور بعض كبار أعضاء الكونجرس ومسئولي الحكومة الأمريكية السابقين بمنظمات اللوبي وأنشطتها، وهي حقيقة تفسر جزئيا بعض أسباب التراخي في تتبع عمل هذه الجماعات ومحاسبتها عندما يتطلب الأمر ذلك

إذ يشير التقرير إلى أن خبراء الضغط على الهيئات الفيدرالية والذين يبلغ عددهم 14 ألف خبير يوجد بينهم 2200 مسئولا سابقا بالحكومية الفيدرالية ومن بين هؤلاء 175 عضوا سابقا بمجلس النواب الأمريكي و34 عضوا سابقا بمجلس الشيوخ و42 رئيسا سابقا لمؤسسات فيدرالية كبرى

التقرير أشار إلى أن المسئولين الفيدراليين عادة ما يعملون مع شركات لوبي تضغط على هيئاتهم ولجانهم السابقة، فأعضاء الكونجرس الذين كانوا أعضاء بلجان الإعتمادات بالكونجرس خلال فترة خدمتهم عادة ما تجذبهم شركات اللوبي العاملة في مجال الضغط على اللجان نفسها بعد تركهم الخدمة في الكونجرس

لذا وصفت إليزابيث براون وهي إحدى الباحثات بالمركز العمل في شركات اللوبي بأنه سلك وظيفي بديل لموظفي الحكومة الفيدرالية والكونجرس بعد تركتهم الخدمة الرسمية، إذا عادة ما يرى هؤلاء في العمل في شركات اللوبي فرصة لاكتساب بعض الأموال بعد عملهم لسنوات طويلة في السلك الوظيفي الحكومي ضعيف العائد المادي، كما أن شركات اللوبي ترحب بهم لأنهم يعرفون أسلوب عمل الهيئات الحكومية من الداخل كما أنهم يمتلكون شبكات علاقات واسعة مع المسئولين عن تلك المؤسسات بحكم زمالتهم لهم في السابق

وينظر التقرير للعلاقات المتنامية بين أعضاء الكونجرس ومسئولي الحكومة السابقين وشركات الضغط السياسي نظرة شك، إذ يرى أن هذه العلاقات قد تؤدي إلى الحد من قدرة المشرعين على مراقبة نشاط جماعات اللوبي وتقنينه والحد من نفوذها المتنامي

عموما يتنافس خبراء وشركات اللوبي كل عام على كسب ود المسئولين الحكوميين للفوز بنصيب من الميزانية الفيدرالية الأمريكية والتي تبلغ 2.5 ترليون دولار، ويوضح التقرير أن مجلس النواب الأمريكي وأعضاءه الذين يبلغ عددهم 435 عضوا يتعرضون لضغط أكبر عدد من شركات اللوبي يليهم مجلس الشيوخ الأمريكي بفارق بسيط ثم وزارة الدفاع الأمريكية ثم وزارات الصحة والتجارة والمالية والمواصلات ثم البيت الأبيض، أما أهم القضايا التي تجذب اهتمام شركات اللوبي فهي الميزانية والاعتمادات الفيدرالية تليها قضايا الصحة ثم الدفاع ثم الضرائب ثم المواصلات

وبدون شك يعد الإنفاق على أنشطة اللوبي أمرا مربحا تحرص الشركات الأمريكية على القيام به، فعلى سبيل المثال أنفقت شركة لوكيد مارتين للصناعات العسكرية 89 مليون دولار أمريكي على أنشطة اللوبي خلال الأعوام الستة التي شملتها الدراسة حيث قامت باستئجار جهود 699 خبيرا في مجال اللوبي من بينهم 268 موظفا سابقا بالكونجرس والمؤسسات الحكومية الفيدرالية وفي المقابل تمكنت الشركة من الحصول على عقود إنتاج معدات عسكرية بلغت قيمتها 94 بليون دولار خلال الفترة ذاتها

لذلك لا يقتصر نشاط اللوبي على الشركات الاقتصادية فقط، فحتى المؤسسات التعليمية والهيئات الحكومية الأمريكية المحلية تنشط في الاستعانة بخدمات شركات اللوبي والضغط السياسي، ففي خلال الفترة التي شملتها الدراسة أنفقت 300 جامعة فيدرالية 141.7 مليون دولار على أنشطة اللوبي كما أنفقت 1400 حكومة أمريكية محلية 357 مليون دولار على الأنشطة ذاتها

Tuesday, April 26, 2005

عام على أبو غريب: أين المحاسبة؟
بقلم: علاء بيومي
26 أبريل 2005
نص المقال

تحل في أواخر شهر أبريل الحالي الذكرى السنوية الأولى لفضيحة تعذيب المعتقلين العراقيين بسجن "أبو غريب" القريب من العاصمة العراقية بغداد، والتي فجرتها شبكة تلفزيون CBS الأمريكية في الثامن والعشرين من أبريل 2004 بعد أن نشرت صورا تكشف عما يتعرض له المعتقلون العراقيون من تعذيب على أيدي القوات الأمريكية بسجن "أبو غريب"

وفي هذه المناسبة رأينا أن نتناول أبعاد الفضيحة التي هزت أمريكا والعالم بعد مرور عام عليها والتي نلخصها في أبعاد ثلاثة رئيسية تبلورت خلال العام الفائت

أولا: ما صدر خلال العام الماضي من وثائق رسمية ومعلومات صحفية عن فضائح التعذيب بالمعتقلات الأمريكية كشف أن الفضيحة هي أكبر بكثير مما كان متوقعا بسبب انتشار التعذيب في المعتقلات الأمريكية عبر العالم والتنوع الخطير للانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون

ثانيا: نتائج التحقيقات كشفت عن ارتكاب القيادة الأمريكية - على أعلى المستويات - أخطاء عديدة ومتكررة أوجدت بيئة سمحت بوقوع التعذيب وبانتشاره

ثالثا: على الرغم من مرور عام على تفجر الفضيحة لم يتم حتى الآن الكشف عن كافة أبعادها أو محاسبة كبار المسئولين عنها.
وفيما يلي عرض أكثر تفصيلا لأبعاد الفضيحة السابق تحديدها

فضيحة متجددة

أحد أخطر أبعاد فضيحة أبو غريب هو أنها لم تتوقف منذ تفجرها في أواخر شهر أبريل 2004 حتى الآن، فكل أسبوع تقريبا تصدر تقارير رسمية أو صحفية تكشف عن أبعاد جديدة خطيرة لفضائح التعذيب بالمعتقلات الأمريكية لم يكن ليصدقها أحد قبل أبو غريب، وذلك للأسباب التالية

أولا: تعذيب السجناء بالمعتقلات الأمريكية لم يقتصر على أبو غريب بل أنه امتد للمعتقلات الأمريكية عبر العراق وفي أفغانستان وفي جوانتانامو

ثانيا: بات من الواضح أن كثير من المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب بالمعتقلات الأمريكية لم يكونوا على أي صلة بأية عمليات أو جماعات سياسية أو مسلحة، فقد أشارت تقارير وكالات مدنية كالصليب الأحمر وهيئات تحقيق أمريكية رسمية إلى أن 70-90% من المعتقلين بالسجون الأمريكية بالعراق هم من الأبرياء

كما قدر تقرير لجنة مستقلة - شكلها البنتاجون في مايو 2004 برئاسة وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس شليزينجر للتحقيق في أوضاع المعتقلات الأمريكية - عدد المعتقلين بالسجون الأمريكية في العراق وأفغانستان بحوالي خمسين ألف معتقل، والغريب أن التقرير توصل إلى أن كثير من المعتقلين تعرضوا للتعذيب والإهانة بدون داع وليس لأهداف تتعلق بالتحقيق معهم، مما يشير إلى انتشار التعذيب بسبب وبدون سبب

ثالثا: أساليب التعذيب والانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون على أيدي القوات الأمريكية فاقت كل تصور من حيث انحرافها النفسي والأخلاقي، وفيما يلي بعض الأمثلة المختصرة

أولا: توفي أكثر من معتقل بالسجون الأمريكية في العراق وأفغانستان على أثر التعذيب، وتشير تقارير صحفية ورسمية إلى أن القوات الأمريكية تسترت على بعض هذه الحالات وحاولت عدم إدراج المعتقلين المقتولين في سجلاتها تجنبا للمسائلة

ثانيا: تعرض المعتقلون بشكل متكرر للتعذيب الجنسي من خلال حبسهم وتصويرهم وهم عراة، والاعتداء جنسيا على بعضهم

ثالثا: اشتكى خبراء بوكالة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في شهر فبراير الماضي من أن التعذيب الذي تعرض له المعتقلون في جوانتانامو أدى لإصابة بعضهم بأمراض نفسية وعصيبة قد لا يشفون منها، كما أشارت تقارير إلى أن التعذيب دفع بعض المعتقلين بجوانتانامو لمحاولة الانتحار

رابعا: أشارت تقارير لوجود عشرات الأطفال بين المعتقلين في العراق وأفغانستان

خامسا: قامت المخابرات الأمريكية بترحيل بعض المعتقلين بشكل سري لبعض دول العالم الثالث لكي يعذبوا فيها دون قيود تحول دون ذلك

الطريق إلى أبو غريب

"الطريق إلى أبو غريب" هو مصطلح استخدمه كتاب أمريكيون مثل سيمور هيرش ومنظمات حقوقية كمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" لتلخيص بعد خطير من أبعاد فضيحة التعذيب بالمعتقلات الأمريكية، وهو البعد الخاص بمسئولية كبار القادة السياسيين والعسكريين الأمريكيين عن هذه الفضيحة والتي تكشفت تدريجيا خلال العام الماضي، إذ بات واضحا أن الإدارة الأمريكية ارتكبت سلسلة من الأخطاء المتكررة التي سمحت بوقوع التعذيب وانتشاره حتى ولو لم تشجعه بشكل مباشر، ويكمن تلخيص هذه الأخطاء في نوعين رئيسيين

النوع الأول بات يعرف باسم "المذكرات" أو سلسلة من المذكرات الحكومية السرية التي وقعها كبار المسئولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وكتبها مستشاريهم القانونيين للتشاور حول كيفية التعامل مع المعتقلين في أفغانستان والعراق، وهي مذكرات - كما سنوضح في الفقرات التالية - أوجدت بيئة من عدم الوضوح والتخبط والتساهل القانوني بخصوص استخدام التعذيب مما ساعد على وقوعه وانتشاره

وتعود أولى هذه المذكرات إلى أوائل عام 2002 حين أرسل مساعد وزير العدل الأمريكي جاي بايبي – والذي أصبح قاضيا فيدراليا فيما بعد - رسالة إلى مستشار البيت الأبيض القانوني – ألبرتو جونزاليس – وزير العدل الأمريكي حاليا – يروج فيها لفكرة أن الدستور الأمريكي يجعل من حق الرئيس إعلان عدم التزامه بتطبيق القوانين الدولية في تعامله مع أسرى حرب أفغانستان بحكم أن أفغانستان هي دولة منهارة، وذلك بهدف حماية الجنود الأمريكيين من مغبة الوقوع تحت طائلة القانون الدولي

وقد قابلت وزارة الخارجية الأمريكية هذه المذكرة بانزعاج شديد حيث أرسل وزير الخارجية الأمريكي السابق كولين باول رسالة إلى جونزاليس يندد فيه بالمنطق الملتوي الذي حاول جونزاليس ومستشارو وزارة العدل ترويجه لأنه يفتح الباب أمام دول أخرى لإعلان عدم التزامها بالقوانين الدولية

وفضا لهذا النزاع أرسل بوش في أبريل 2002 مذكرة لفريق الأمن القومي المساعد له أكد فيها على أنه يمتلك سلطة إعلان عدم انطباق اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب على أسرى الصراع في أفغانستان ولكنه لن يستخدم هذه السلطة

وفي أغسطس 2002 أرسل بايبي مذكرة أخرى أكثر خطورة إلى جونزاليس سعى فيها لإعادة تعريف التعذيب مستخدما تعريفا ضيقا جدا يساوي بين ألم التعذيب والألم الناتج عن فشل عضو من أعضاء الجسد، كما روجت المذكرة ذاتها لفكرة إمكانية إيجاد تبريرات قانونية للتعذيب

وفي مثال ثالث أصدر وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد مذكرة في ديسمبر 2002 تسمح باستخدام 16 أسلوبا من أساليب التعذيب، وقد قام رامسفيلد في يناير 2003 بسحب موافقته على غالبية الأساليب التي سمح بها في مذكرة ديسمبر، ولكنه عاد وأكد في مذكرة يناير على أنه يمكن استخدام أساليب تعذيب أشد قسوة مع بعض المتهمين بشرط الحصول على موافقة مباشرة منه وفقا لكل حالة

وبدون شك أسهمت هذه المذكرات ومذكرات وسياسات أخرى اتخذت – لا يتسع لها هذا المقال- في إيجاد بيئة من الضبابية والتخبط السياسي والقانوني بخصوص السماح بالتعذيب من عدمه مما صعب من مهمة صغار الجنود والضباط في الحيلولة دون وقوع التعذيب

أما النوع الثاني من الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة فيتعلق بحقيقة أن كبار مسئولي البنتاجون والإدارة الأمريكية كانوا على علم بوجود انتهاكات لحقوق المعتقلين في السجون الأمريكية ولم يتحركوا سريعا للتحقيق في هذه الانتهاكات أو لوقفها، وهنا ترى منظمات حقوقية مثل إتحاد "الحريات المدنية الأمريكي" ومنظمة "حقوق الإنسان أولا" أن كبار مسئولي الإدارة كانوا على علم بوقوع حوادث التعذيب منذ أواخر عام 2001، كما أن منظمات حقوق الإنسان كمنظمة العفو الدولية كتبت عدة رسائل لرامسفيلد بداية في يناير 2002 تعبر فيها عن قلقها بخصوص أسلوب معاملة المعتقلين في أفغانستان، هذا إضافة إلى العديد من التقارير الصحفية التي كشفت عن وقوع التعذيب، ومع ذلك لم تتحرك الإدارة سريعا للتحقيق في الأمر ووقف الانتهاكات

أين المحاسبة؟

في الحادي والعشرين من مارس الماضي كتب دايفيد كول داعية الحقوق المدنية الأمريكي المعروف وأستاذ القانون بجامعة جورج تاون الأمريكية مقالا في مجلة ذا نايشين الأمريكية يتساءل فيه عن أسباب فشل الإدارة الأمريكية والكونجرس في تشكيل لجنة مستقلة ذات إمكانيات وسلطات كافية للتحقيق في أبعاد فضائح التعذيب والوقوف على أسبابها خاصة وأن المسئولين الأمريكيين سبق وأنفقوا 73 مليون دولار للتحقيق في علاقة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بإحدى المتدربات بالبيت الأبيض

فقد طالبت العديد من منظمات حقوق الإنسان والحريات المدينة الأمريكية الكونجرس الأمريكي تكرارا بتشكيل لجنة تحقيق على غرار اللجنة التي شكلت للتحقيق في أسباب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 للتحقيق في فضائح التعذيب بالمعتقلات الأمريكية والكشف عن كافة أبعادها وعن المسئولين عنها على أن تمتلك هذه اللجنة موارد كافية وسلطة استدعاء الشهود الضروريين للشهود أمامها

في المقابل اكتفى المسئولون الأمريكيون بإجراء تحقيقات داخلية في بعض المؤسسات كوزارتي العدل والدفاع والاستخبارات الأمريكية للكشف عن أبعاد الفضيحة وهي نفس الهيئات التي تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية وقوع التعذيب وانتشاره، هذا إضافة إلى مقاضاة بعض صغار الجنود الذين شاركوا في التعذيب، ووقف بعض المسئولين مثل جانيس كاربينسكي المسئولة السابقة عن معتقلات الجيش الأمريكي بالعراق، وعقد سلسلة من جلسات الاستماع قصيرة العمر بالكونجرس في صيف عام 2004 تزامنت مع اشتعال موسم انتخابات الرئاسة الأمريكية

ولكن بعد انتهاء الانتخابات بفوز الرئيس جورج دبليو بوش بالبيت الأبيض وفوز حزبه الجمهوري بمزيد من السيطرة على الكونجرس بمجلسيه ودخول الحزب الديمقراطي نوع من الأزمة الناجمة عن تراجع مكانته السياسية ونفوذ ممثليه تلاشت تدريجيا المساعي السياسية الرامية للحد من التعذيب وانتشاره فيما عدا عدد من مشاريع القوانين التي قدمها أعضاء الكونجرس في عام 2005 للحد من التعذيب وانتشاره والتي مازالت في حيز التقديم والسعي لجذب تأييد أعضاء الكونجرس

ولكن هذه الظروف لم تضعف إرادة العديد من منظمات حقوق الإنسان والحريات الأمريكية التي لجأت إلى رفع العديد من القضايا في محاولة لاستخدام القضاء للضغط على الإدارة الأمريكية للإفراج عن مزيد من وثائقها وسياساتها وتحقيقاتها الخاصة بالتعذيب، وكذلك للوقوف عن مسئولية كبار المسئولين الأمريكيين في الفضيحة التي هزت أمريكا والعالم، وفي أحد أحدث هذه القضايا رفع اتحاد الحريات المدنية الأمريكي ومنظمة حقوق الإنسان أولا قضية في أوائل مارس 2005 تنادي بمسئولية وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد نفسه عن التعذيب الذي تعرض له سبعة من المعتقلين بأفغانستان والعراق

ومازالت جهود منظمات الحريات المدنية الأمريكية - والعديد من قطاعات الشعب الأمريكي المساندة لها - للمطالبة بالتحقيق في أبعاد فضائح التعذيب والكشف عن المسئولين عنها ومحاسبتهم مستمرة حتى يومنا هذا