Friday, July 11, 2008

ريتشارد هاس وأزمة المثقف العربي
مقال بقلم: علاء بيومي

يمكن نشر المقال مع الإشارة لمصدره
www.alaabayoumi.com

نص المقال

ريشارد هاس هو رئيس "مجلس العلاقات الخارجية الأميركي" وهو أحد أكبر مراكز الأبحاث الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية، وعنه تصدر مجلة "شؤون خارجية" أهم مجلات العلاقات الدولية الأميركية والتي عرفت بنشر مقالات محورية في توصيف التطورات التي يمر بها العالم والعلاقات الدولية كدراسة "صدام الحضارات" لصموئيل هنتينجتون و"نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما وغيرها

أهمية هاس بالنسبة لي وبالنسبة للقارئ العربي هو طبيعة النموذج الذي يقدمه للمثقف والكاتب والسياسي والذي نحتاج إليه بشدة في عالمنا العربي خلال الحالية الفترة الانتقالية الهامة

ولتقريب الفكرة وجعلها واضحة جلية أمام القارئ يمكن الإشارة إلى كتاب هاس الأخير والذي يدعى "الفرصة" والمنشور في عام 2005 في 250 صفحة من القطع الصغير لينتقد إدارة بوش على إهدارها "فرصة" قيادة وتشكيل العالم في فترة القطبية الأحادية ويحذرها من أن الفرصة لن تدوم

الكتاب جذاب من عنوانه، صغير الحجم، مكتوب بلغة سهلة وسلسلة ومشوقة تجذب القارئ العادي قبل المتخصص، كما يتناول موضوع حديث وآني يشغل بال القارئ المستهدف (وهو المواطن الأميركي في هذه الحالة)، وبالفعل لغة الكتاب السهلة وموضوعه الهام وصغر حجمه يجعلاه قراءة مسلية للقارئ العادي غير المتخصص في العلاقات الدولية، وفي نفس الوقت يتميز الكتاب بعمق شديد نابع من خبرة صاحبه الواسعة في مجالي البحث الأكاديمي والعمل السياسي على حد سواء، مما يجعل الكتاب قابل للتدريس بأكبر الجامعات ولأن يكون نصيحة هامة ومختصرة تقدم للسياسي المثقف

كتاب مثل هذا يدفعك للتوقف كثيرا، خاصة وأن كاتبه هو رئيس أحد أهم مراكز الأبحاث الأميركية إن لم يكن أهمها في الوقت الراهن وسبق وأن عمل مديرا للسياسات بالخارجية الأميركية في ولاية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الأولي، هذا إضافة إلى عمله كباحث في مراكز أبحاث أميركية مختلفة وكمدرس ببعض الجامعات الأميركية وإلى خلفيته الأكاديمية

كل ما سبق يفرض علينا سؤال ضروري، وهو: هل يمتلك عالمنا العربي مثقفين كريتشارد هاس؟ وكم منهم نمتلك؟ وكيف يمكن أن نصنع مثقفين عرب كهاس قادرين على النهضة بالقارئ والكتاب والثقافة والسياسة في آن واحد

بمعني أخر القراءة لكاتب كهاس - وغيره من الكتاب الأميركيين على شاكلته - تشعرك بأن أزمة المثقف في العالم العربي أو في أي مكان آخر تكمن في غياب الدورة الكاملة للثقافة والمثقف

ونعني بذلك أن بناء مثقف مثل هاس يعتمد على توافر دورة كاملة من الحياة الثقافية التي تثري المثقف وتجعله قادرا على الكتابة الشاملة السهلة الممتنعة التي تحدثنا عنها في وصف كتابات هاس

هذه الدورة تبدأ منذ نعومة أظافر المثقف وهو طفل صغير حيث يتم ربطه بالمكتبات ويتم ربط الكتاب بحياة الإنسان اليومية في علاقة صداقة وليس علاقة فرض وإجبار، حيث يتعلم الطفل منذ نعومة أظافره أن الكتاب كصديق تذهب إليه لتسمع منه أفكار جديدة بطريقة مسلية وحلول لمشاكل حياتية متجددة وأسئلة تطرأ على الطفل في مراحل عمرية مختلفة، لذا تجد أن الطفل يقرأ عن كيفية اللعب والتعرف على الأصدقاء ودخول المدرسة والسفر والتعامل مع مشاكل الطفولة والمراهقة والشباب والخلافات الأسرية وغيرها من الأسئلة الحياتية المباشرة والتي تعلم الطفل أن المعرفة جزء من الحياة وليست مجموعة من الكتب الصماء المفروضة عليه

وعندما يدخل الطالب الجامعة ويشتد عوده ويكون قادرا على العمل يشجعه المجتمع على الدراسة والعمل في آن واحد، وبذلك يتعلم المرء أنه يدرس ليعمل وأن يعمل ليدرس وأن العلم والكتب والدراسة هم أدوات لحل مشاكله ومشاكل مجتمعه اليومية وأن يمكنه التوقف عن الدراسة ليعمل ويكتسب خبرة وأن يذهب إلى الجامعة لكي يثقل خبرته العملية، وأن الأفكار التي يقرأ عنها في الكتب هي حلول توصل إليها طلاب معرفة مثله سبقوه في العمر وواجهتم مشاكل في الحياة - كالمشاكل التي تواجهه وستواجهه - فتعلموا وبحثوا عن حلول لها ووضعوا تلك الحلول في كتب لكي يستفيد منها غيرهم

حلول وضعت بأسلوب بسهل واضح وبمرونة تسمح بالتنقل بين الكتب والمعارف والمؤلفين بحثا عن الحل الأسهل والأمثل، فجودة الحل والكتاب في سهولته وواقعيته وأصالته الفكرية لا في تعقيده وغموضه أو إغراقه في الواقعية أو التنظير

لذا تشجع الجامعات طلابها على التدرب بالمؤسسات المختلفة خلال العطلة الصيفية أو كجزء من المواد الدراسية المفروضة على الطلاب والتي يجازون عليها بدرجات تحسب ضمن برنامجهم الدراسي

هذا إضافة إلى أن الجامعات تسمح للطلاب بحرية كبيرة في اختيار المواد التي يدرسونها والتنقل بينها بما يتماشي مع تطورهم وحاجتهم الفكرية التي تتغير مع تغير إدراكهم وخبراتهم خلال سنوات دراستهم الجامعية

وبعد التخرج يتنقل طالب السياسة مثل هاس بين الجامعة والمؤسسات الحكومية ومراكز الأبحاث وربما وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وبذلك يشاهد المثقف بعينيه مجالات مختلفة ويشعر بما يحتاجه الصحفي والسياسي والناشط الجماهيري والباحث الأكاديمي من معرفة سياسية

فيتعلم المثقف أن لكل مجال قيمه ومهاراته ومعارفه وأبحاثه واحتياجاته وأسلوب الكتابة الخاصة به، وبسبب هذه الدورة الثقافية أو الحياتية الكاملة والمتنوعة يتعلم المثقف كيف يكتب الكتابة السهلة الممتنعة، الكتابة التي تخاطب أوسع جمهور وتجذب القارئ العادي وتهزم غرور المتخصصين من السياسيين والأكاديميين

ولكن إذا حبسنا المثقف بين جدران الجامعة خلال سنوات الدراسة وبعد تخرجه ودفعناه من فصل دراسي لأخر ومن كتاب لأخر وحبسناه وسط بين مجموعة من الأكاديميين المشابهين له حتى ولو كانوا على درجة عالية من التخصص والحرص على القراءة والإنتاج المعرفي، فلن ننتج سوى مثقفين يكتبون لأنفسهم أو لأساتذتهم أو لأهداف الترقي والانتقال من درجة وظيفية لأخرى والتي تفرض على الأكاديمي إنتاج عدد معين من الكتب والأبحاث لكي يتمكن من زيادة راتبه ومنصبه الأكاديمي

وبهذا تصبح الثقافة والفكر والعلم والمعرفة مجرد وسيلة لترقية المثقف المعزول والذي لا يجب أن يسمى مثقفا في تلك الحالة، فحاله حينئذ أشبه بموظف بيروقراطي يحرك الأوراق التي تأتيه من ملف لأخر ومن رف لغيره ليغلق عليها الباب والضوء إذا ما انتهت ساعات العمل وهو يعلم أن تأثيرها لن يتعدى جدران مكتبه

وللأسف يحرم القارئ من كتاب مفيد يقرأه ويشعره بأن الثقافة في متناول يده، ويترك بين خيارين إما الإطلاع على كتب سهلة لا تحمل أي زاد فكري، كتب سطحية تشعره بأنه يعرف ما يكفي وأن الكتب لا تأتي بجديد، أو أن يقف مشدوها متحسرا أمام كتب لا يفهم عناوينها فما بالك بمحتواها

وبعد ذلك نتعجب لماذا لا يحرص المواطن العربي على القراءة ولماذا لا تتقدم الثقافة العربية ولا يشهد العالم العربي حركات فكرية تحرك جوانبه الراكدة، وللأسف جزء كبير من المشكلة يكمن في الأسلوب الذي نربي به المثقف والذي يحرمه من أن يطوره معرفته النظرية من خلال اختبارها واقعيا وحياتيا بشكل يومي، ويحوله بمرور الوقت لموظف بيروقراطي يمرر كتب إلى كتب وأفكار السابقين للتابعين دون أن يترك فيها أثر

مواجهة الخلل السابق صعبة تتطلب توفير دورة كاملة وصحية للمثقف وهي مهمة حكومات ومجتمعات وأجيال، أما على المستوى المنظور فقد يكمن الحل في أن تكسر بعض المؤسسات العربية التي تجد في نفسها المرونة والهمة حاجز الفصل بين المثقف والواقع بأن تجمع بين جدرانها الباحث مع السياسي والإعلامي والناشط الجماهيري، والمؤسسات المؤهلة لذلك هي المؤسسات العاملة في مجالات الإعلام والسياسة والبحث في عالمنا العربي، وقد تجد بعض مراكز الأبحاث العربية حديثة النشأة في نفسها الهمة لأن تجمع بين جدرانها متخصصين في المجالات السابقة في فرق عمل بحثية من نوع جديد

أهم من ذلك يأتي دور المثقف نفسه القادر على تحدي الظروف المحيطة به من خلال العلو بقامته خلف أسوار الجامعة والبحث عن خبرة أو خبرات أخرى تثريه وتثري فكره وتساعده على إكمال دورة حياته الثقافية الطبيعية كريتشارد هاس