Friday, August 25, 2006

إيران: المخاوف والردود السياسية الأميركية
عرض بقلم: علاء بيومي

الناشر: الجزيرة نت، 26 أغسطس 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

التقرير الحالي يتكون من قسمين رئيسيين، أولهما يتناول تاريخ العلاقات الأميركية-الإيرانية ومخاوف الولايات المتحدة من سياسات إيران منذ وقوع الثورة الإيرانية في عام 1979، وثانيهما يدرس الوسائل المتاحة أمام صانع القرار الأميركي للرد على التهديدات التي تمثلها السياسات الإيرانية للولايات المتحدة

وقبل أن نفصل في أهم مضامين التقرير يجب الإشارة إلى أن التقرير صادر عن خدمة أبحاث الكونجرس وهي مركز أبحاث تابع للكونجرس الأمريكي تتميز تقاريره بالموضوعية والشمولية وبالنفوذ في دوائر صنع السياسة بواشنطن

وقد صدر التقرير الراهن في أواخر شهر يوليو الماضي وهو من إعداد كينيث كاتزمان، وهو أحد كبار الباحثين المتخصصين في قضايا الشرق الأوسط بخدمة أبحاث الكونجرس

المخاوف الأميركية

يقول التقرير في خاتمته أن "عدم الثقة بين الولايات المتحدة ونظام إيران الإسلامي ذات عمق يفوق عقدين من الزمان، حتى قبل ظهور الخلاف حول برنامج إيران النووي"، كما يبرز التقرير في مقدمته أن إستراتيجية الأمن القومي الأميركية تعتبر أن أميركا "لا توجه تهديد أعظم من بلد واحد أكثر من (تهديد) إيران

المقتطفات السابقة قد تنقل للقارئ الشعور بالأزمة التي يشعر بها صانع القرار الأميركي تجاه إيران كما يظهر عبر صفحات التقرير، فالتقرير يكاد يصور إيران كصداع قوي ومتعدد الجوانب داخل عقل صانع القرار الأميركي، وذلك بسبب العدد الكبير من ملفات الخلاف بين أميركا وحكومات إيران الإسلامية، حيث ترتبط هذه الملفات بأكثر من قضية هامة كعملية السلام العربية-الإسرائيلية، وعلاقة إيران بالعراق وبدول الخليج، وعلاقتها بدول وسط أسيا الإسلامية وأفغانستان، وملف الأسلحة النووية، وموقف أمريكا من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل إيران، وهي قضايا سوف نتناول أهم مضامينها - كما عرضها التقرير - في الفقرات التالية

ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان

بالنسبة لقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان فهي تبدو ثانوية على أجندة صانع القرار الأميركي في الفترة الراهنة، حيث يؤكد التقرير في أكثر من موضع أن "الحكومات الأميركية المتعاقبة لم تعتبر بشكل عام أن سجل إيران في مجال حقوق الإنسان (يمثل) تهديدا إستراتيجيا لمصالح أمريكا

وإن كان التقرير يؤكد في أماكن متفرقة على عدم رضا الحكومات الأميركية عن طبيعة النظام الإيراني منذ وقوع الثورة الإسلامية، لذا يتمنى الأميركيون أن يتغير النظام الإيراني يوما ما بشكل أو بأخر، كما تبنى الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش منذ أوائل عام 2002 سياسة تهدف لتغيير النظام الإيراني باعتباره جزءا من محور الشر الذي تحدث عن بوش في خطاباته، ووفقا لهذا التوجه زادت أميركا من مساعداتها للجماعات المعارضة للنظام الإيراني والساعية لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان بإيران إلى 75 مليون دولار في عام 2006، وهو بدون شك مبلغ كبير مقارنة بالأموال التي رصدتها الحكومة الأميركية للغرض نفسه في الماضي

ولكن المبلغ نفسه ضئيل جدا إذا قورن بحجم الهدف الأميركي في بلد بحجم إيران الجغرافي والسكاني، هذا إضافة إلى حديث التقرير عن "ضعف الجماعات المعارضة الحريصة على تغيير النظام كلية"، وعن أن الدعم الأميركي لهذه الجماعات يضعف من شعبيتها داخل إيران

العوامل السابقة لا تعني أن الحكومة الأميركية سوف تتراجع عن نقدها للديمقراطية الإيرانية ولكنها تعني أن الولايات المتحدة لا ترى أن سجل إيران في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان هو أكبر تهديد موجه لها حاليا، وأن أميركا سوف تحرص في الغالب عل زيادة نقدها لإيران في هذا المجال كأداة لحشد الدعم الأميركي الداخلي والدولي الخارجي لمواجهة تهديدات إيرانية أخرى أكثر خطورة في نظر صانع القرار الأميركي

سياسات إيران الإقليمية

يعطي التقرير في مقدمته وخلال صفحاته أهمية أكبر لسياسات إيران الإقليمية باعتبارها مصدر إزعاج أكبر لأمير، ويأتي على رأس هذه السياسات "الدعم المادي" لجماعات مثل "حزب الله اللبناني، وحماس وجهاد الفلسطينيين"، وهنا يذكر التقرير أن حماس كانت تتلقى 10% من ميزانيتها من إيران خلال في أوائل التسعينات، ولكنه يعود ليقول أن حماس نوعت من مصادر المساعدات التي تحصل عليها فيما بعد، وأن صعود حماس للسلطة سوف يجعلها أقل استعدادا لقبول نصائح طهران في حالة تعارض هذه النصائح مع المصالح الفلسطينية

كما يتحدث التقرير عن إيران كداعم رئيسي لحزب الله، وخاصة من خلال دعم حزب الله بأسلحة تعتقد مصادر أميركية أن حزب الله استخدمها في الهجوم على إسرائيل خلال الأزمة الأخيرة، كما يتحدث التقرير عن تردي صورة حزب الله لدى صانع القرار الأميركي نتاجا للأزمة الأخيرة

فيما يتعلق بالعراق، يتحدث التقرير - في عجالة سريعة - عن الدور الإيراني مؤكدا على أن جوهر سياسة إيران تجاه العراق بعد سقوط نظام صدام حسين هو "إقناع جميع الجماعات الشيعية بالعراق بالعمل معا للتأكد من السيطرة السياسية والانتخابية للشيعة في عراق ما بعد صدام"، ولكن التقرير يعود ويشتكي من أن إيران سعت لدعم بعض الميلشيات الشيعية المسلحة كميليشيات مقتدى الصدر، كما يتحدث التقرير يتحدث على مساعي أميركية للحوار مع إيران بخصوص الوضع في العراق كما ظهر في طلب السفير الأميركي ببغداد زالماي خليلزاد من الرئيس بوش في أواخر عام 2005 السماح له بالدخول في حوار دبلوماسي مباشر مع إيران بخصوص الوضع في العراق، وقد فعلت أميركا الشيء نفسه بخصوص أفغانستان وذلك على الرغم من التردد الأميركي في الدخول في مشاورات دبلوماسية مع إيران بخصوص قضايا أخرى هامة

بالنسبة لدول الخليج، يتحدث التقرير عن دخول إيران في مشاكل إقليمية مع عدد كبير من جيرانها بالخليج، فلإيران مشاكل مع السعودية والبحرين تتعلق بدعم الجماعات المعارضة داخل البلدين، كما أن لديها مشاكل مع الإمارات بخصوص جزر أبو موسى، ولديها مشاكل مع قطر بخصوص السيطرة على حقل هام للغاز الطبيعي

ويزيد من أزمة العلاقات الإيرانية الأميركية حديث إيران عن حقوق لها في بحر قزوين وخلافتها مع جمهورية أذربيجان، هذا إضافة إلى ما يراه التقرير على أنه نفوذ متزايد لإيران في أفغانستان، كما يتحدث التقرير عن وجود عدد من كبار المسئولين بالقاعدة في حوزة إيران سواء بالسجون أو تحت حماية إيران، حيث يرى البعض أن إيران قد تستخدم هؤلاء كأدوات للتفاوض مع الولايات المتحدة في المستقبل

في المقابل يتحدث التقرير عن بعض مصادر تحسن العلاقات الإيرانية الأميركية، حيث يشير إلى دعم إيران لأميركا في حربها ضد الطالبان نظرا لموقف الحركة المعادي لإيران، كما يتحدث عن أن إسقاط أميركا لنظام صدام حسين ساعد إيران على التخلص من أحد ألد أعدائها مما قد يدفعها لفتح صفحة جديدة للتعاون مع أميركا في جو خالي نسبيا من الضغوط، ولكن التقرير يحذر من أن سقوط صدام حسين قد يعطي إيران فرصة للتوسع والبحث عن نفوذ أكبر

كما يشير التقرير في فقرات متفرقة إلى جهود الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي باعتبارها جهودا إصلاحية ساعدت على تحسين علاقات إيران بجيرانها وبالمجتمع الدولي

القدرات العسكرية الإيرانية

يصف التقرير جيش إيران التقليدي بأنه "كبير وقوي سياسيا"، ولكنه يرى أن قدرات الجيش الإيراني تكفي لحماية إيران داخل حدودها ولا تمكنها من مواجهة قوة كأميركا أو القيام بدور هجومي كبير خارج الحدود، أما خطورة القوات الإيرانية فتكمن في قوتها البحرية والتي يرى التقرير أنها مدربة على غلق مضيق هرمز في حالة التعرض إيران لهجوم، كما تكمن في قوات إيران غير التقليدية خاصة في يتعلق بالصواريخ بعيد المدى، حيث يعبر التقرير أن اعتقاد خبراء ومصادر مخابراتية وصحفية أميركية وغربية أن إيران تمكنت مؤخرا من إنتاج صواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى إسرائيل، وأن إيران تسعى لتطوير صواريخ تصل إلى ما أبعد من ذلك وقادرة على حمل رؤوس نووية أو كيماوية

كما يقول التقرير أن إيران تسعى لبناء بنية تحتية تضمن تزويدها بما تحتاجه من أسلحة كيماوية، وأن إيران تمتلك مخزونا من الأسلحة الكمياوية الهجومية

أما فيما يتعلق بالأسلحة النووية فيشير التقرير – والذي يتعامل مها بالتفصيل – إلى اعتقاد مصادر أميركية مختلفة بأن إيران غير قادرة على إنتاج أسلحة نووية في الوقت الراهن، وأنها تحتاج إلى فترة من 6-10 سنوات لإنتاج هذه الأسلحة، ولكنهم يخشون من أن تصل إيران قريبا إلى "نقطة اللاعودة"، وهي نقطة تشعر فيها إيران بأنها تمتلك المعرفة والخبرة الكافية لإنتاج الأسلحة النووية

الخيارات السياسية الأميركية

يقول التقرير في جزءه الأول أن الحكومة الإيرانية الراهنة – تحت قيادة الرئيس أحمدي نجاد – تبدو مستقرة سياسيا، كما أنها تبدو مستقرة اقتصاديا بحكم ارتفاع أسعار النفط، وبحكم سياسات نجاد التي وجهت نحو مساعدة الفقراء كإلغاء بعض ديون الفلاحين

يقول التقرير أن سياسة تغيير النظام الإيراني التي تبناها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في عام 2002 تبدو بعيدة المنال على المدى القصير نظر لضعف جماعات المعارضة الإيرانية، ولأن الدعم الأميركي لهذه الجماعات يضعف من الدعم الشعب الإيراني لها، ولكن ذلك لن يمنع الإدارة والكونجرس من الاستمرار في دعم ومساندة الجماعات الساعية لتغيير النظام الإيراني

كما رأى التقرير أن القيام بهجوم عسكري شامل لتغيير النظام بإيران هو أمر لا تضعه الإدارة الأمريكية "محل اعتبار جاد" في الوقت الراهن نظرا لانشغال القوات الأميركية في العراق، ولقوة المقاومة الإيرانية الداخلية المحتملة، وللمعارضة الدولية الشديدة لمثل هذا العمل، خاصة من قبل روسيا والصين وآخرين لم يسميهم التقرير

ولكن التقرير رأي أن فكرة القيام بهجوم عسكري محدود تبدو فكرة قابلة للاختبار من قبل بعض الخبراء، ولكنه حذر من صعوبة استهداف جميع الأهداف الإيرانية الواجب استهدافها في مثل هذا الهجوم والتي قدرها أحد الخبراء بحوالي 400 هدف من بينها 75 هدفا تحت الأرض، كما حذر من رد الفعل إيران الانتقامي في حالة تعرضها لمثل هذا الهجوم، كما أشار التقرير لمطالبة بعض أعضاء الكونجرس الرئيس الأميركي بالرجوع للكونجرس للحصول على موافقته قبل القيام بمثل هذا الهجوم

وفي ظل غياب البديلين السابقين في الوقت الراهن يبقى أمام الإدارة عدد من الخيارات التي أشار إليها التقرير مثل الاحتواء عن طريق منع صادرات الأسلحة لإيران، والدبلوماسية عن طريق دخول أميركا كطرف في المباحثات الدولية مع إيران بشأن برنامجها النووي، حيث يرى التقرير أن مثل هذا التحرك سوف يساعد على حشد الدعم الدولي لسياسة أميركا تجاه إيران

كما درس التقرير عدد من العقوبات الدولية التي يمكن فرضها على إيران في حالة امتناعها عن وقف برامج تخصيب اليورانيوم، ومن بينه هذه العقوبات الحد من التبادل الدبلوماسي، ومنع الطيران الدولي لإيران، وتجميد الأموال الإيرانية بالخارج، ومنع بيع الأسلحة لإيران، مؤكدا على أن روسيا والصين قد تعارضان الفكرة الأخيرة

-----

مقالات ذات صلة

إسرائيل-حماس-حزب الله: الصراع الراهن

سياسة أميركا لنشر الديمقراطية بالشرق الأوسط: معضلة الإسلاميين

Tuesday, August 22, 2006

الإنجليكيون وإعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية

مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر: جريدة الإتحاد، 23 أغسطس 2006

نص المقال

صعود نفوذ المسيحيين المتدينين داخل أروقة صنع السياسة الخارجية الأمريكية خلال عهد إدارة الأمريكي الرئيس جورج دبليو بوش جعلهم محل اهتمام صحفي وأكاديمي داخل أمريكا وخارجها، ومع ذلك يمكن القول أن هناك ندرة نسبية في الدراسات التي تتعامل معهم وتقدم أفكار تحليلية جديدة تمكن من فهمهم وفهم نظرتهم لأنفسهم وللعالم وحجم تأثيرهم على السياسة الخارجية الأمريكية وكيفية التعامل مع هذا التأثير

من هذا المنطلق يركز المقال الراهن على عرض وتحليل مقال مطول نشرته مجلة فورين أفاريز "شئون خارجية" الأمريكية، والتي تعد أكثر مجلات العلاقات الدولية الأمريكية نفوذا، والصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وهو بدوره أحد أهم مراكز الأبحاث الأمريكية المعنية بالسياسة الخارجية

المقال المذكور منشور في عدد سبتمبر / أكتوبر 2006 من المجلة، وهو من تأليف الكاتب الأمريكي المعروف والتر راسل ميد الباحث بمجلس العلاقات الخارجية والذي يتولى في نفس الوقت الإشراف على عدد من برامج الدراسات والأبحاث بمراكز بحثية أمريكية مختلفة تركز في غالبيتها على تحليل السياسة الخارجية الأمريكية وتأثرها بالأوضاع داخل أمريكا بما في ذلك صعود الجماعات الأمريكية المتدينة

ميزة المقال الراهن تكمن في عدة أسباب على رأسها سعي مؤلف لشرح معتقدات التيارات المسيحية البروتستانتينية المختلفة وتأثير تلك المعتقدات على نظرة كل تيار للأخر ولمستقبل العالم ولسياسة أمريكا الخارجية، كما يسعى المقال إلى أبرز أسباب صعود التيار الإنجليكي في العقود الأخيرة وحجم النفوذ والثقل الذي يتمتع به هذا التيار في دوائر صنع السياسة الأمريكية، كما يرصد المقال أهم قضايا التيار الإنجليكي الخارجية وكيف تمكن من إعادة صياغة بعض جوانب السياسة الخارجية الأمريكية بالفعل، وفي النهاية يقدم المقال تصورا للمستقبل ولكيفية التعامل مع نفوذ التيار الإنجليكي والذي يتوقع له المؤلف أن يستمر قويا في المستقبل المنظور

ولهذه الأسباب مجتمعة والتي تضفي مسحة من الشمولية والاستيعابية على المقال المتميز رأينا أن نتناوله بالعرض والتحليل على أمل تلخيص أهم مضامينه للقارئ العربي

تقسيم التيارات المسيحية البروتستانتينية

في بداية المقال يعبر والتر رسل ميد عن اعتقاده بأن أحد أسباب عجز محللي السياسة الخارجية الأمريكية عن فهم تأثير صعود نفوذ التيارات الدينية على السياسة الخارجية الأمريكية يعود إلى عدم فهم هؤلاء المحللين للتيارات الدينية الأمريكية وعقائدها ونظرتها نحو الأخر وتصورها لدور أمريكا في العالم

لذا سعى ميد - في النصف الأول من مقال - إلى تقديم تعريفات مختصرة للتيارات البروتستاتينية الرئيسية بالمجتمع الأمريكي والتي قسمها ميد إلى ثلاثة تيارات كبرى، وهي التيار الأصولي والتيار الليبرالي والتيار الإنجليكي

بالنسبة للتيار البروتستاني الأصولي يقول ميد أنه يمثل أكثر التيارات البروتستانينية انغلاقا وعزلة بسبب تمسك أتباعه بالتفسير الحرفي لنصوص الديانة المسيحية بغض النظر عن مدى تطابق هذه النصوص مع الحقائق العلمية، هذا إضافة إلى موقفهم المعادي للطوائف الدينية الأخرى بما في ذلك الطوائف المسيحية المختلفة عنهم كالكاثوليكيين، وإلى رغبتهم الانعزالية الناتجة عن شعورهم بالاغتراب وبالعزلة وبكون الأغلبية المحيطة بها أغلبية غير مؤمنة ولن تؤمن بأفكارهم الدينية التي تشجعهم على النظر إلى المؤمنين كمجموعة أقلية تعيش في وسط أغلبية غير مؤمنة عبر التاريخ

ويقول ميد أن المعتقدات السابقة تدفع الأصوليين إلى العزلة على الصعيد الداخلي لإيمانهم بأن أمريكا لن تصبح يوما ما دولة دينية تتبع تعاليم المسيحية، وللعزلة على المستوى الخارجي لشعورهم بأن النظام الدولي والمؤسسات الدولية تحمي دول ونخب علمانية وأخرى معادية للمسيحية

وبالنسبة للتيار البروتستانتي الليبرالي، يقول ميد أنه التيار الأكثر انفتاحا على الأخر من بين تيارات البروتستاتينية الأمريكية بسبب تعلميه التي تفضل النظر للمسيحية على أنها نظام أخلاقي وليس كنصوص تطبق حرفيا على الواقع، حيث يرى أتباع هذا التيار أن الأديان المختلفة تحض على الأخلاق بشكل أو بأخر كما يتبنون نظرة أكثر قبولا بفكرة أن الرب سوف يتقبل الطوائف غير المسيحية ويغفر لهم في الآخرة

وينظر أصحاب هذا التيار بشكل عام نظرة متسامحة تجاه الأديان الأخرى مع الحرص على التعاون معهم، كما ينظرون نظرة إيجابية لمستقبل العالم وإلى قدرة بلدان العالم على التعاون مع بعضها بعضا وبناء نظام دولي يحقق العدالة والسلام

ويقول ميد أن التيار البروتستاني الليبرالي كان التيار السائد بالولايات المتحدة خلال معظم التاريخ الأمريكي، وخاصة أن الحركات الفكرية العلمانية التي مرت بها أمريكا ساندت هذا التيار ودعمته، وقد حقق هذا التيار انتشارا واسعة في عقد الستينات بصفة خاصة والذي شهد انتشار للحركات الليبرالية بالمجتمع الأمريكي، ولكن التيار نفسه بدأ في التراجع منذ ذلك الحين لعدة أسباب على رأسها طبيعته المتسامحة مع الفكر العلماني مما يجعله يفقد الكثير من أبتاعه للفكر العلماني ذاته، هذا إضافة إلى ميل أتباع هذا التيار إلى عدم التركيز على القضايا الدينية في أجندتهم العامة مما أفقدهم تدريجيا مساندة المتدينين بالمجتمع الأمريكي، هذا إضافة إلى موقف أصحاب التيار الليبرالي المتسامحة مع قضايا مثل حقوق الشواذ والتي تفقدهم مساندة التيارات الدينية المحافظة داخل الديانات الأمريكية المختلفة كالطوائف الكاثوليكية واليهودية المحافظة

أما بالنسبة للتيار الإنجليكي فيصفه ميد بأنه التيار الوسط بين التيارين السابقين فهو يجمع بين عقائد التيار الأصولي المنغلقة ونظرة التيار الليبرالي للعالم المنفتحة، حيث يؤمن الإنجليكيون بأن الإيمان بالمسيح هو الطريق الوحيد للخلاص في الآخرة، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن الإيمان بالمسيح ليس مغلقا على أقلية صغيرة من المؤمنين كما هو الحال في معتقدات الأصوليين، حيث يرى الإنجليكيون على النقيض أن باب الإيمان بالمسيح والولادة من جديد مفتوح أمام الجميع

لذا يركز الأنجليكيون في أنشطتهم إلى التبشير الديني والعمل الخيري كأسلوب لجذب قلوب غير المسيحيين للمسيحية، وهي أفكار تجعل الإنجليكيون منفتحون على التعاون مع التيارات الأخرى داخل وخارج أمريكا بعكس الأصوليين الذين يميلون للانغلاق على أنفسهم والعزلة، كما يتميز الأنجليكيون بتفاؤلهم بخصوص إمكانية إحداث تغيير أمريكا والعالم بشكل يخدم أهدافهم في نشر المسيحية

توازن القوى بين التيارات المسيحية

يقول ميد أن العقود الأربعة الأخيرة شهدت حدوث تغيير ملحوظ في خريطة الأديان بأمريكا، وذلك لسببين رئيسيين، أولهما تراجع إعداد المسيحيين الليبراليين منذ السينات، وثانيهما زيادة أعداد المسيحيين الإنجليكيين خلال الفترة ذاتها، حتى أصبحت الكنيسة المعمدانية الجنوبية والتي يبلغ عدد أعضائها 7 ملايين شخص هي أكبر الطوائف الإنجليكية والبروتستانتينية الأمريكية على حد سواء، كما أصبح الإنجليكيون يمثلون حولي 40% من الأصوات التي حصل عليها الرئيس جورج دبليو بوش في انتخابات عام 2004

كما استفاد الإنجليكيون من عدم نشاط المسيحيين البروتستانت الأصوليين في الحياة العامة، مما جعل الإنجليكيون الصوت الأقوى بين الطوائف البروتساتنينة الأمريكية في الفترة الحالية، حيث تبلغ نسبهم حاليا 54% من المسيحيين البروتستانت

بصمات الإنجليكيين على السياسة الخارجية

يرى والتر راسل ميد أن المسيحيين الإنجليكيين نجحوا في العقد الأخير في ترك بصمة واضحة على السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بمجالين، أولهما مجال حقوق الإنسان والمساعدات الخارجية، وثانيهما مجال السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط

فيما يتعلق بمجلس حقوق الإنسان والمساعدات الخارجية يقول ميد أن نشاط الجماعات الإنجليكية على هذا الصعيد يعود إلى القرن التاسع عشر حين ساند الإنجليكيون الأمريكيون حركات انفصال الأقليات المسيحية عن الإمبراطورية العثمانية

وبالنسبة للفترة الحالية يشير ميد إلى نجاح الإنجليكيين في أواخر القرن العشرين في تمرير قوانين خاصة بالحريات الدينية عبر العالم والتي تهدف إلى حماية حرية التبشير ونشر المسيحية، كما نشط الإنجليكيون في مطالبة الحكومة الأمريكية بزيادة المساعدات الخارجية خاصة تجاه المناطق الفقيرة من العالم

أما فيما يتعلق بسياسة أمريكا الخارجية تجاه الشرق الأوسط فيرى ميد أن إيمان الإنجليكيين القوي بفكرة عودة المسيح وبأن قيام دولة إسرائيل وعودة اليهود إليها هي أجزاء أساسية من نبوءة عودة المسيح إلى الأرض لمحاربة قوى الشر ونشر السلام جعلهم يشعرون بأن دعم إسرائيل هو واجب ديني، حيث يؤمن الإنجليكيون بأن "الله سوف يبارك أمريكا لو باركت أمريكا إسرائيل

ويقول ميد أن المعتقدات السابقة تجعل الإنجليكيين لا يبالون بأي نقد تتعرض له إسرائيل أو تتعرض له أمريكا بسبب مساندتها لإسرائيل، لأن هذا النقد يصبح في وجهة نظرهم هو جزء من نبوءة عودة المسيح والتي ترى أن المؤمنين سوف يكونون أقلية في مواجهة الأغلبية الشريرة

ويشير ميد أن مساندة الإنجليكيين المتصاعدة لإسرائيل تأتي في وقت تتراجع فيه مساندة الطوائف البروتسانتينية الليبرالية لإسرائيل، حيث بدأت أعداد متزايدة من المسيحيين الليبراليين الأمريكيين في التعاطف مع الفلسطينيين ومع حقهم في الحرية والاستقلال

كيفية التعامل معهم

بالنسبة للمستقبل يرى ميد أن نفوذ المسيحيين الإنجليكيين سوف يبقى قويا في المستقبل المنظور، ولكنه يرى أن الإنجليكيين لن يصبحوا القوة الوحيدة أو المطلقة المؤثرة على السياسة الخارجية الأمريكية بحكم تعدد الأديان الأمريكية وصعود الأديان غير المسيحية بأمريكا مثل اليهود والمسلمين والهندوس والبوذيين وغيرهم هذا إضافة إلى انتشار التيارات العلمانية والليبرالية

ولكن هذا لن يمنع التيارات المسيحية الإنجليكية من امتلاك نفوذا متزايدا على أروقة صنع السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات المقبلة، ويرى ميد أن ما يميز الإنجليكيون في هذا الأمر هو قدرتهم على الفوز بثقة قواعد جماهيرية أمريكية واسعة وافتقارهم للخبرة العملية في مجال العمل السياسي في آن واحد

كما يتميز الإنجليكيون أيضا بانفتاحهم على الأخر وسجل تعاونهم مع الطوائف الدينية الأخرى، لذا ينصح ميد الإنجليكيين والمسلمين في آن واحد بمحاولة العمل مع بعضهم البعض والتعاون في إيجاد حلول للقضايا المشتركة مثل قضايا الحقوق الإنسان والتنمية على المستوى الدولي، وقضايا الأسرة والثقافة المحافظة على مستوى أمريكا الداخلي، وهنا يأمل ميد أن يساعد مثل هذا الحوار على توعية الإنجليكيين متزايدي القوة والنفوذ وقليلي الخبرة بحقيقة ما يجري حولهم أملا في تغيير رؤاهم السياسية

----

مقالات ذات صلة

أزمات بوش ومستقبل علمية السلام


أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا



Monday, August 14, 2006

امنعوهم: لماذا تستمر أميركا في عدم فهم الهجرة
عرض بقلم: علاء بيومي

الناشر: الجزيرة نت، 14 أغسطس 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص العرض

هذا الكتاب سهل الأسلوب خطير المضمون موجه بالأساس للشعب الأميركي ولكنه في ذات الوقت يحتوي على أفكار ومعلومات عديدة وهامة تتعلق بالمهاجرين المسلمين والعرب بأميركا وموقف الأميركيين منهم

الكتاب من تأليف ميشيل واكر وهي باحثة وصحفية أمريكية متعاطفة مع المهاجرين وهو صادر عن مطابع بابليك أفاريز وهي مطبعة أميركية مقرها نيويورك تتميز بنشر كتب جادة سهلة الأسلوب تمس أهم القضايا المثارة لدى الرأي العام الأميركي من منظور متوازن بين اليسار واليمين مما يجعل ما تنشره المطبعة من كتب يستحق المتابعة خاصة وأن المطبعة لا تصدر سوى عدد محدود من الكتب الجديدة كل عام مقارنة بالمطابع الأمريكية الكبرى

أسطورة الخلفيات الأوربية

خطورة مضمون الكتاب تكمن في أنه يثبت عبر صفحاته أن كثير من الأفكار الرئيسية المنتشرة لدى الأميركيين - بما في ذلك المثقفين منهم - عن الهجرة هي أساطير كبرى خطيرة، وعلى رأس هذه الأساطير الأسطورة القائلة بأن موجات الهجرة الأوربية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عسر وأوائل القرن العشرين كانت أكثر قابلية للاندماج في المجتمع الأميركي مقارنة بالهجرات الحالية بحكم الخلفية الأوربية لمهاجري أوائل القرن العشرين

إذ تذكر مؤلفة الكتاب - في فصله الثاني - أن 63% من الإيطاليين الذين هاجروا لأمريكا في الفترة ما بين عامي 1902 و1923 عادوا لبلادهم، هذا إضافة إلى نسبة 46.5% من النمساويين، ونسبة 48% من الفرنسيين، ونسبة 46% من اليونانيين

وتتحدث المؤلفة بإسهاب في الفصول من الأول وحتى الثالث من الكتاب عن حياة المهاجرين الأوربيين لأميركا في أوائل القرن العشرين وكيف أنها لم تكن حياة سهلة بأي مقياس من المقاييس وكيف تعرض هؤلاء المهاجرين لتمييز مستمر بحكم أنه قادمين من بلاد جنوب وشرق ووسط أوربا والتي كان ينظر إليها في أميركا من قبل الطبقات الأمريكية الإنجليزية والألمانية المسيطرة على أنها شعوب أقل ذكاء وكفاءة، وهي نظرة عبر عنها كبار القادة الأمريكيين بما في ذلك رؤساء أميركا أنفسهم كويدرو ويلسون الذي ذكر في أحد المناسبات أن "المهاجرين من جنوب إيطاليا والنمسا وبولندا هم أقل الطبقات البشرية بما يفتقروا إليه من ذكاء ومبادرة

إضافة للتمييز عانى هؤلاء المهاجرون من البعد عن بلادهم والشوق لشعوبهم وأوطانهم في ظل بعد المسافة وبطء وسائل الاتصال والمواصلات، لذا عاد 36% من المهاجرين الذين هاجروا إلى أميركا بين عامي 1901 و1920 إلى أوطانهم، كما عمدت أعداد كبيرة من المهاجرين إلى البقاء في أمريكا فترة قصيرة لجمع الثروة لكي يرسلوها لأوطانهم الأم، ففي الفترة من 1900 إلى 1906 أرسل المهاجرون حوالات بريدية تقدر بحوالي 12.3 مليون دولار من نيويورك إلى أوطانهم الأم، وهي كمية هائلة من الأموال في ذلك الوقت

في المقابل توضح المؤلفة - في الفصل الثالث من الكتاب - أن نسبة المهاجرين الذين عادوا إلى أوطانهم من بين المهاجرين الذين دخلوا أميركا بين عامي 1971 و1990 لم تتعدى 23% وهي نسبة أقل بـ 13% من مهاجري أوائل القرن العشرين، أضف إلى ذلك أن مهاجري الفترة الحالية أعلى من حيث المستوى التعليمي وأكثر رغبة على الاندماج والتأقلم بالحياة الأميركية بحكم قدرتهم على تعلم اللغة الإنجليزية وبحكم قدرتهم على التواصل مع شعوبهم الأهم من خلال وسائل الاتصال والمواصلات الحديثة مما يقلل شعورهم بالغربة

معاناة الأميركيين الألمان

الأسطورة الثانية التي يتحداها الكتاب هي الأسطورة القائلة بأن الثقافة الأمريكية هي في جذورها ثقافة أنجلوساكسونية، وهنا تقول المؤلفة ميشيل واكر أن الأميركيين نسوا ما حدث خلال الحرب العالمية الأولي، فأميركا تتذكر حاليا معاناة الأجانب كاليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية ولكنهم نسوا معاناة الألمان خلال الحرب العالمية الأولى

حيث تذكر المؤلفة في مقدمة الكتاب أن المطابع الألمانية في أمريكا كانت أكثر عددا من نظيرتها الإنجليزية حتى الحرب العالمية الأولى، وتقول في الفصل الثاني أن سبب تردد أميركا في دخول الحرب العالمية الأولى هو مواطنيها الألمان الذين فضلوا الحياد حتى لا تحارب أمريكا بلدهم الأم في مقابل الأميركان الإنجليز الذي طالبوا دخول الحرب مساندة لبريطانيا

وعندما مالت الكافة لصالح الأميركان الإنجليز كان ذلك نتاجا لدخول أميركا لمرحلة عرقية وإثنية جديدة شهدت تضييقا شديدا على حقوق أصحاب الأصول الألمانية – من مواطنين وأجانب – داخل أميركا، إذ انتشرت جرائم الكراهية التي يشنها الغوغاء والمتحيزين ضد الألمان ومنعت بعض الولايات الأميركية الألمان من التجمع ومن الحديث بلغة غير الإنجليزية، كما انتشرت الشائعات عن الألمان – بدعم من الحكومة الأميركية أحيانا لمواجهة الدعاية الألمانية – والتي ادعى بعضها أن الألمان يحولون الجثث إلى صابون ويقتلون الأطفال الرضع، حتى وصل الأمر إلى صدور قوانين تحد من حركة وحريات البالغين الألمان وتفرض تسجيل المئات منهم لدى السلطات الأمريكية، وانتهى الأمر باعتقال أكثر من ستة آلاف ألماني بمعسكرات اعتقال تتفشى فيها الأوبئة والأمراض حتى نهاية الحرب العالمية الأولى

وهنا تظهر أحد أهم مزايا الكتاب الراهن، إذ تستخدم المؤلفة منهج المقارنة التاريخية لكشف معاناة المهاجرين لأميركا خلال الفترة الحالية من خلال مقارنتها بمعاناة المهاجرين في أوائل القرن العشرين، وتوضح المؤلفة في أكثر من موضع بالكتاب التشابه في المرحلتين خاصة على مستوى الظروف العالمية، ففي أوائل القرن العشرين – كما هو الحال حاليا – مر العالم بدرجة غير مسبوقة من درجات العولمة تمثلت في تغير أدوات الإنتاج وانتشار التصنيع في أميركا وهجرة ملايين المهاجرين إليها للعمل في اقتصادها العملاق في وقت مرت فيه أمريكا بتغيرات اقتصادية واجتماعية ضخمة بسبب تغير نمط الإنتاج، ولما طغت الدعاوى الثقافية على الحقائق الاقتصادية ورفض الأميركيون التعامل مع الحقائق والتحديات الاقتصادية والإنتاجية التي تواجههم مفضلين الانخراط في دعاوى الفروق الثقافية والعرقية والتمييز ضد الأجانب، كان ذلك إيذانا بدخول أمريكا والعالم مرحلة كساد ضخمة ومدمرة، فلما أغلق الأميركيون أبوابهم تجاه العمال والبضائع الأجنبية عاملتهم دول العالم بالمثل مما قاد تدريجيا إلى الكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد الأميركي بشدة في أواخر العشرينات من القرن العشرين، كما ساعدت العزلة الأمريكية الدولية على صعود النازية والفاشية والتحضير تدريجيا للحرب العالمية الثانية

من هو الأميركي

تتحدث المؤلفة باستفاضة في الفصل الرابع عن ثقافة العداء للمهاجرين التي انتشرت في أميركا خلال النصف الأول من القرن العشرين والتي قادت إلى اعتقال أكثر من ستة آلاف ألماني خلال الحرب العالمية الأولى وإلى اعتقال أكثر من مائة ألف ياباني خلال الحرب العالمية الثانية وإلى غلق أبواب أميركا أمام المهاجرين للعمل واللاجئين هربا من الاضطهاد على حد سواء

وتقول المؤلفة أن هذه الثقافة ناقضت المعني الحقيقي لأمريكا كفكرة، فأمريكا كفكرة تقوم على مبدأ قدرة المجتمع الأميركي كمجتمع جديد من تمكين المهاجرين المشكلين له – وجميع الأميركيين فيما عدا الهنود الحمر مهاجرون – من العيش في مجتمع يحترم خصوصياتهم ويمكنهم من تحقيق ذاتهم واستغلال أفضل طاقاتهم في مجتمع حر

وهنا تذكر المؤلفة عبارة محورية تكررها على مدى الكتاب في مواضع عديدة وهي أن الأميركيين يجيدون الحديث عن قيمهم وفعل عكسها، فالأميركيون يحرصون على النظر لأنفسهم على أنهم شعب مفتوح متسامح مرحب بالآخرين ويحترم الخصوصيات، ولكنهم في نفس الوقت – وخاصة في أوقات الأزمات – تتناقض تصرفاتهم من تلك القيم تناقضا واضحا صريحا دون الانتباه لذلك

وتقول ميشيل واكر أن معاناة المهاجرين في فترة ما بين الحربين العالمتين وقبلهما كانت تجسيدا لذلك التناقض، إذ هاجم الأميركيين الفكرة الأميركية ذاتها عندما سعوا لأمركة المهاجرين وفرض الانصهار عليهم من خلال حركات ثقافية معادية للمهاجرين بشكل واضح وقوانين تأثرت بتلك الحركات، إذ هاجمت تلك الحركات المنظمات العرقية والإثنية التي أنشئها المهاجرون لكي تساعدهم على تسريع الاندماج في المجتمع الأمريكي بشكل يحمي خلفياتهم الثقافية، وكان المفترض أن هذه المنظمات هي تجسيد للفكرة الأميركية ذاتها ولكن الحركات المعادية للمهاجرين هاجمتها

كما تم إغلاق الباب أمام الهجرة من خلال وضع سقف سنوي عليها، كما رفع شعار "الوحدة الوطنية" كمبدأ للاندماج بدلا من شعار "التسامح" الذي تقوم عليه الفكرة الأميركية، كما تم التضييق على حقوق وحريات المهاجرين، وترك الحبل على الغارب للسلطات الحكومية للتجسس على المهاجرين وإحصائهم واعتقالهم

طغيان الثقافة على الاقتصاد والسياسة

الأسطورة الثالثة التي تتحداها ميشيل واكر تتكون من عدد كبير من الأفكار النمطية السلبية المنتشرة عن المهاجرين داخل المجتمع الأميركي والمتعلقة بشكل أساسي بدورهم الاقتصادي داخل المجتمع، حيث ترى المؤلفة أن كثير من الأفكار الشائعة عن المهاجرين بأميركا حاليا ليست مبنية على حقائق علمية ولكنها مبنية على انطباعات قائمة على دوافع ثقافية وموقف معادي من المهاجرين أكثر من اعتمادها على دراسات علمية رصينة ترصد أثر الهجرة على الاقتصاد والمجتمع الأميركيين

ولإثبات كذب تلك النظريات تفرد المؤلفة مساحات واسعة من الفصول من الخامس وحتى الحادي عشر من كتابها تذكر فيها - على سبيل المثال لا الحصر - أن الأفكار الشائعة عن المهاجرين بأميركا تتجاهل أن 50% من العاملين في مجالات البحث العلمي والتطوير في أميركا هم من المهاجرين وأن ربع الأطباء والممرضين هم من المهاجرين، وأن 60% من أرباح صناعة تكنولوجيا المعلومات الأميركية هي من التجارة مع دول خارجية، وأن أميركا تجني أرباح من اندماج الاقتصاد العالمي يقدرها البعض بحوالي ترليون دولار سنويا، هذا إضافة إلى القوة الشرائية للمهاجرين بالسوق الأميركي وإلى إن وجود المهاجرين بأمريكا يساعد الاقتصاد الأمريكي على النمو ويوفر الكفاءات المطلوبة حتى لا يتم تصدير الوظائف خارج أمريكا

في المقابل ترى المؤلفة أن المهاجرين في أميركا يتعرضون اليوم لمثلث تحديات يعيد للذاكرة أزمة المهاجرين في أوائل القرن العشرين، الضلع الأول لهذا المثلث هو بيروقراطية إدارة الهجرة الأميركية العقيمة التي تعاقب المهاجرين بأساليب مختلفة وتحمي رجال الأعمال، والضلع الثالث هو قوى العولمة التي تمثل تحدي للمواطن الأميركي وتهدد وظيفته إذا ما لم يطور نفسه وترسل 1.2 مليون مهاجر لأميركا سنويا، أما الضلع الثالث فهو أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أحيت مشاعر التمييز ضد المهاجرين بأميركا بصفة عامة وضد المهاجرين المسلمين والعرب بصفة خاصة

خاتمة

في مقابل ما سبق تنصح الكاتبة الأميركيين بالعودة إلى النقاش العقلاني حول قضية الهجرة، وتنادي بإصلاح سياسات الهجرة بشكل يحد قليلا من مستويات الهجرة - خاصة غير الشرعية منها - ويحترم الثقافة الأنجلوساكسونية كجوهر للهوية الأميركية مع تجديد الثقة في العقيدة المدنية الأميركية التي تؤكد على الحرية وعلى احترام حقوق وخصوصيات الجماعات المكونة لأميركا

------

مقالات ذات صلة

العرب وتحديات الهوية الوطنية الأمريكية بعد 11/9

أمريكي 50%: الهجرة والهوية الوطنية في عصر الإرهاب

الأمريكي المتوسط: البحث غير العادي عن أكثر مواطن عادي بالأمة

دور الإسلام في تشكيل الهوية الأمريكية من وجهة نظر صموئيل هنتينجتون

حاضر الهوية المسلمة الأمريكية

Tuesday, August 08, 2006

تناول الإعلام الأمريكي لدور لوبي إسرائيل في الأزمة الراهنة


مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 8 أغسطس 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

منذ اندلاع الهجمات الإسرائيلية على لبنان سعت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة لمحاولة الوقوف على حجم الدور الذي يلعبه اللوبي الموالي لإسرائيل في حشد الدعم الرسمي والشعبي الأمريكي لإسرائيل، وتثير القراءة المتأنية لتناول الإعلام الأمريكي لهذه القضية الهامة بعض الملاحظات الأساسية حول دور اللوبي المذكور في حشد الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال الأزمة الراهنة وحول قدرة وسائل الإعلام الأمريكية على كشف حجم ونفوذ لوبي إسرائيل خاصة في أوقات الأزمات

وسائل الإعلام اليهودية كمصدر للمعلومات

الملاحظة الأولى في هذا الصدد تتعلق بقدرة بعض وسائل الإعلام اليهودية الأمريكية على كشف ما يقوم به لوبي إسرائيل أكثر من وسائل الإعلام الأمريكية الليبرالية أو المحايدة، وقد يعود ذلك إلى حجم العلاقات والاتصالات التي تمتلكها وسائل الإعلام اليهودية داخل المنظمات المساندة لإسرائيل نفسها بما يمكنها من الحصول على معلومات مباشرة منها، في حين تفتقر وسائل الإعلام المحايدة لمثل تلك المصادر خاصة ولو كانت تلك الوسائل معروفة بتعاطفها مع الجانب العربي مما سيفقدها بالطبع تعاون مسئولي لوبي إسرائيل

ويحضرنا هنا التقرير الذي أصدرته وكالة "جيوش تلغراف" اليهودية في الثالث عشر من يونيو لصحفي يدعى تشانان تيجاي حول تحركات المنظمات الموالية لإسرائيل بشكل فوري لدعم إسرائيل بعد ساعات قليلة من إقدام حزب الله على خطف الجنود الإسرائيليين، حيث أشار بيان الوكالة إلى أن "سيل من البيانات الصحفية صدر في وقت متزامن تقريبا عن المنظمات اليهودية الأمريكية لدعم إسرائيل" خلال ساعات قليلة من توارد أنباء اختطاف الجنود الإسرائيليين

كما أشار بيان الوكالة إلى حديث دايفيد هاريس المدير التنفيذي للجنة اليهودية الأمريكية – وهي أحد أكبر المنظمات السياسية اليهودية الأمريكية – عن قيام منظمته بالاتصال بعدد من رؤساء الدول السفراء لضمان دعمهم لإسرائيل، كما قامت اللجنة بحث أعضائها على الاتصال بممثليهم في الكونجرس لضمان دعمهم لإسرائيل.

أما عصبة مكافحة التشويه فقد أسرعت لشراء أربع إعلانات بصحفية إنترناشيونال هيرالد تربيون واسعة الانتشار في أوربا لترويج وجهة النظر المساندة لإسرائيل في الأوساط الأوربية، هذا إضافة إلى الإعلانات التي تنوي العصبة نشرها في الصحف الأمريكية

كما تحدث البيان نفسه عن دور أعضاء الكونجرس اليهود وأعضاء الكونجرس المساندين لإسرائيل في إصدار عدد من البيانات الفورية الداعمة لإسرائيل

المثال الثاني هو مقال نشرته مجلة فوروارد اليهودية الأسبوعية في الثامن والعشرين من يوليو لصحفية تدعى جينيفر سيجل يتحدث عن استهداف المنظمات الموالية لإسرائيل للنائبة الأمريكية سينثيا ماكيني (ديمقراطية من ولاية جورجيا) في الانتخابات التشريعية الحالية لإسقاطها بسبب مواقفها الناقد لإسرائيل، حيث أشار المقال إلى سعي لجان العمل السياسية المساندة لإسرائيل للتبرع لخصم ماكيني بما يمكنه من شراء دعاية انتخابية أكبر للفوز على ماكيني، كما تحدث المقال بتفصيل عن مساعي اللوبي المتكررة لإسقاط ماكيني خلال السنوات الأخيرة

وسائل الإعلام المتعاطفة مع الموقف العربي

الملاحظة الثانية تتعلق بوسائل الإعلام الأمريكية ذات المواقف المتعاطفة نسبيا مع الموقف العربي، وهنا يلاحظ أن هذه الوسائل في العادة أقل نفوذا وانتشارا، ولكن بعضها يحاول بكفاءة وانتظام بيان ما يتعرض له الطرف العربي من ظلم على الرغم من الضغوط التي يتعرض لها أي طرف ينتقد إسرائيل بأمريكا

كما يلاحظ أيضا أن تلك الوسائل – كما ذكرنا من قبل – تفتقر أحيانا للمصادر المباشرة داخل لوبي إسرائيل مما يجعلها تجتهد في تحليل ما يتوافر عن اللوبي من أخبار من مصادر ثانوية

ويجب هنا الإشارة إلى سلسلة تحليلات صدرت عن وكالة أنباء إنتر برس سيرفيس الأمريكية، أولها لصحفي أمريكي يدعى جيم لوب والذي نشر في الثامن عشر من يوليو مقالا يتحدث فيه عن دور المحافظين الجدد وبعض قيادات اليمين الأمريكية المتشدد في دعم وجهة النظر المساندة لإسرائيل، حيث تحدث لوب عن ويليام كريستول رئيس تحرير مجلة ذا ويكلي ستاندارد وهي أكثر مجلات المحافظين الجدد شهرة والذي سعى لتصوير هجمات إسرائيل على لبنان على أنها حرب أمريكية، كما دعا في المقال نفسه إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا من إيران وسوريا

كما تحدث لوب عن تصريحات أدلى بها نوت جينجريتش الزعيم السابق للجمهوريين بمجلس النواب الأمريكي حيث وصف الهجمات الإسرائيلية على لبنان بأنها "مراحل أولية" للحرب العالمية الثالثة

حيث رأى لوب أن مقالات كريستول وتصريحات جينجريتش وأشباههم هي "جزء من حملة مقصودة من قبل المحافظين الجدد وبعض اليمينيين الداعمين لهم لتصوير الصراع الراهن على أنه جزء من صراع عالمي يضع إسرائيل كقاعدة متقدمة للحضارة الغربية، في مواجهة التطرف الإسلامي المنظم والموجه من قبل إيران وشريكها الأصغر سوريا"

المقال الثاني – وليس الأخير - الذي نشرته الوكالة حول القضية ذاتها صدر في السادس والعشرين من يوليو لصحفي يدعى بيل لبركويتز والذي سعى لإبراز ما تقوم به بعض المنظمات المسيحية المتدينة في دعم إسرائيل خلال الفترة الحالية، حيث أشار المقال إلى مؤتمر حاشد نظمته منظمة "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل" في التاسع عشر من يوليو بواشنطن وبحضور السفير الإسرائيلي لدى واشنطن دانيال آيلون ورئيس الحزب الجمهوري كين ماكميلان للتعبير عن مساندة إسرائيل

حيث أشار المقال إلى أن المنظمة المذكورة أسست منذ ستة أشهر برئاسة أحد قادة التيار الإنجليكي بالجنوب الأمريكي يدعى جون هيج، وأن 3400 مدعو حضروا حفل تأسيس المنظمة المذكورة من شتى أنحاء الولايات المتحدة

كما أشار التقرير إلى أن المنظمة السابقة حثت أعضائها على التوجه إلى الكونجرس لمطالبة ممثليهم بمساندة إسرائيل، كما حرصت على ربط أعضائها بشبكة اتصالات عبر البريد الإلكتروني والفاكس والهاتف لتسهيل عمليه التواصل فيما بينهم بخصوص تطورات الوضع الجاري وما تحتاجه إسرائيل من دعم

دور الإعلام الليبرالي والمحايد

النوع الثالث من الكتابات التي حاولت الوقوف على دور لوبي إسرائيل في حشد الدعم الأمريكي للهجمات الإسرائيلية على لبنان جاء من وسائل الإعلام الأمريكية الليبرالية والتي اتخذت مواقف مختلفة سعى بعضها - انطلاقا من أهداف متنوعة - لتسليط الضوء على لوبي إسرائيل

المقال الأول الذي يحضرنا في هذا الصدد صدر عن جريدة نيويورك تايمز الأمريكية في الثامن والعشرين من يوليو لصحفية تدعى لوري جودستين والتي قارنت سريعا بين اللوبي الإسرائيلي وجهود المنظمات المسلمة والعربية للضغط السياسي لموازنة تأثير لوبي إسرائيل

المقال ذكر أن جهود المنظمات المسلمة والعربية الأمريكية كانت أكثر تنظيما من أي وقت مضى إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من ترك تأثير على السياسة الخارجية الأمريكية، في حين أن لوبي إسرائيل يكاد يكون مسيطرا على صناع القرار الذين رفضوا اللقاء بمسئولي المنظمات المسلمة والعربية الأمريكية خلال الأزمة الراهنة خوفا من إغضاب لوبي إسرائيل

كما أشار المقال إلى إجماع قادة الحزبين الأمريكيين الرئيسيين حول مساندة إسرائيل، وإلى ضعف صوت المنظمات اليهودية الليبرالية المعارضة لموقف اللوبي المتشدد في مساندته لإسرائيل، كما أشار المقال إلى إمكانيات لوبي إسرائيل المادية الضخمة والذي نجح في جمع تبرعات تقدر بعشرات الملايين من الدولارات الأمريكية لدعم إسرائيل في حين يخشى المسلمون والعرب التبرع لمنظماتهم الخيرية لإغاثة الشعبين اللبناني والفلسطيني خلال أزمتيهما الراهنة بعض التضييق الأمني الذي تعرضت له المنظمات الخيرية المسلمة والعربية الأمريكية والمتبرعين لها خلال السنوات الأخيرة

ولكن المقال عاد وأكد في نهايته على تصريحات أحد المتحدثين باسم مسلمي أمريكا والذي عبر عن اعتقاده بأن أيام المساندة المطلقة من قبل الساسة الأمريكيين لإسرائيل قد انتهت نظر لوجود أعداد متزايدة من المسلمين الأمريكيين القادرين على وضع ممثليهم موضع المسائلة

المقال الثاني - الواجب الإشارة إليه هنا - صدر عن مجلة ذا نايشن الليبرالية الأمريكية في التاسع والعشرين من يوليو لكاتب يدعى آري برمان بعنوان "قبضة إيباك"، والذي بدأ بالإشارة إلى أن المدير التنفيذي لمنظمة الإيباك وهي أكبر جماعات الضغط السياسي المساندة لإسرائيل أمضي 27 دقيقة في قراءة قائمة بأسماء الشخصيات العامة والتي حضرت حفل الإيباك السنوي الأخير بما في ذلك غالبية أعضاء مجلس الشيوخ وربع أعضاء مجلس النواب وعشرات المسئولين بالإدارة الأمريكية

كما ذكر المقال أن تأثير إيباك على مواقف المسئولين الأمريكيين في الفترة الحالية لا يقتصر على الضغط عليهم سياسيا بل يتعدى ذلك إلى كتابة مشاريع القوانين والقرارات التي يمررونها وعلى رأسها مشروع القرار غير الملزم الذي مرره مجلس الشيوخ الأمريكي في الثامن عشر من يوليو تأييدا لإسرائيل

كما أكد المقال أن قبضة الأيباك القوية باتت تستدعي سخط ومقاومة عدد من أعضاء الكونجرس الراغبين في اتخاذ مواقف متوازنة تجاه الشرق الأوسط والذين باتوا يشعرون بأن الإيباك تهمين بشكل غير سليم على صناعة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، ولكن المقال عاد وأكد على أن معارضة هؤلاء النواب والخبراء للإيباك عاجزة حتى الآن على الإتيان بمفعول نظرا لتنافس القيادات السياسية الأمريكية على إرضاء الأيباك، ونظرا لقدرة لوبي إسرائيل على تشويه سمعة كل من يعارضهم أو يعارض إسرائيل

خاتمة وتقييم

ختاما يمكن القول أن تغطية الإعلام الأمريكي السيارة لدور لوبي إسرائيل في حشد الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال فترات الأزمات – كالفترة الحالية – تتميز بالضعف والعجز عن تحديد الدور الكامل للوبي نظرا لعدة أسباب على رأسها الهجوم الشرس الذي يتعرض له كل من يحاول نقد إسرائيل أو تسليط الضوء على دور اللوبي المساند لها داخل أمريكا

ولعل عاصفة النقد التي تعرض لها تقرير "لوبي إسرائيل" الصادر مؤخرا للأكاديميين الأمريكيين البارزين ستيفن والت وجون مارشيمير دليلا على ذلك، وهي فكرة أبرزها مقال نشرته جريدة سياتل بوست إنتليجنسير في السابع والعشرين من يوليو الماضي لكاتب يدعى روبرت جاميسون تحت عنوان "الباب يغلق بقوة في وجه من ينتقد إسرائيل"، حيث عبر جاميسون عن ضيقه الشديد بسعي لوبي إسرائيل للحد من النقاش والجدل حول سياسات إسرائيل بشكل يضر بقدرة الأمريكيين على فهم الصراع الجاري ووضع حل له

كما يفسر الأمر السابق كيف توفر وسائل الإعلام اليهودية الأمريكية أحيانا معلومات عن لوبي إسرائيل وأنشطته أكبر من المعلومات التي توفرها المصادر المحايدة والتي تخشى من أن توصم بالعداء للسامية أو لإسرائيل، هذا إضافة إلى توغل مسئولي لوبي إسرائيل في العديد من المؤسسات السياسية والمدنية مما يمثل تحديا إحصائيا أمام أي وسيلة إعلام موضوعية، ناهيك عن السرية التي يفرضها لوبي إسرائيل على عمله

ولكن هذا لا يجب أن يمنعنا من تقدير جهود وسائل الإعلام الأمريكية السابقة - على الرغم من محدوديتها - نظرا لدورها في توعية المواطن الأمريكي بما يجري من حوله ولو بشكل تدريجي

-----

مقالات ذات صلة

إسرائيل-حماس-حزب الله: الصراع الراهن

لوبي إسرائيل وسياسة أمريكا الخارجية

أزمات بوش ومستقبل علمية السلام

صناعة اللوبي الأمريكية: حقائق وأرقام

تأثير المال على الانتخابات الأمريكية

أقدم لوبي ضد الدول الإسلامية في أمريكا

Wednesday, August 02, 2006

ملامح الجيل الأميركي الحاكم
بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 2 أغسطس 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

هل يمكن رسم صورة لملامح الجيل الأميركي الحاكم تساعدنا على فهم نظرته لنفسه ولأميركا وللعالم ومن ثم سياساته؟ سؤال صعب يجب الاقتراب منه بحرص حتى لا يقع الكاتب في مغبة التعميم أو تغليب الانطباعات الشخصية على التحليل الموضوعي، لذا رأينا أن نعتمد في هذا المقال منهجا يتتبع أراء عدد من الكتابات الأميركية المعنية بالقضية الهامة على أمل أن تقودنا تدريجيا إلى ملامح الصورة المنشودة

جيل ولد ليحكم العالم

الدراسة الأولى الواجب الإشارة إليها هي كتاب "عقيدة جورج دبليو بوش" للكاتب الأميركي ستيفين مانسفيلد والصادر في عام 2004، وهو كتاب يسعى إلى تحديد معالم شخصية الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش نفسه والأحداث الفارقة في حياته، لذا يتحدث مانسفيلد عن جيل بوش وهو الجيل الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يرى مانسفيلد أن لحظة ولادة هذا الجيل ميزته إذ جعلته جيلا ولد ليجد بلده تقود العالم، جيلا لم يمر بتحديات موجعة كالكساد الكبير الذي ضرب أميركا والعالم في نهاية العشرينات أو الحروب العالمية التي هزت أوربا والعالم، جيلا مرفها ولد وسط وفرة هائلة من الموارد، ووسط أفكار لا تضع حدودا على طموحاته

لذا يتعجب الكاتب البريطاني أناتول ليفين - مؤلف كتاب "تشريح القومية الأمريكية" الصادر في عام 2005 - من مشاعر الأميركيين الوطنية والتي تتميز بدرجة عالية من الثقة في النفس ورفض مراجعة الذات والمبالغة في الوطنية مقارنة بشعوب الدول الغربية والمتقدمة، وهي ظاهرة أدهشت ليفين البريطاني ودفعته للبحث عن أسبابها، ومن بين الأسباب التي رصدها صغر عمر أميركا وعدم مرورها بحروب أو أزمات كبرى دفعت شعبها لمراجعة نظرته لذاته ولبلده وللعالم

ضعف مراجعة الذات

ويقول البعض أن الستينات مثلت لحظة اضطر فيها الشعب الأميركي لإعادة التفكير في ذاته وفي مؤسساته الكبرى بسبب فيتنام وبسبب انتشار الحركات الليبرالية، وهي فكرة يركز عليها كتاب "النزعة العسكرية الأميركية الجديدة" الصادر في عام 2005 لآندرو باسفيتش - أستاذ العلاقات الدولية الأميركي - والذي يسعى لتتبع أسباب تراجع عقدة فيتنام وتلاشيها تدريجيا من عقل المواطن وصانع القرار الأميركي مما أوصل أميركا تدريجيا لغزو العراق

المثير هنا أن باسيفيتش لا يتهم مجموعة أو مؤسسة أو فئة معينة بالمجتمع الأميركي فهو يرى أن عودة النزعة العسكرية الأميركية هي نتاج لجهود جماعات عديدة بداية من السينما الأميركية التي مجدت الجنود والعنف، ومرورا بقادة الجيش وسياستهم التي ركزت على مفهوم الحروب السريعة النظيفة وحولت الحرب لعمليات جراحية تشاهد عبر شاشات التلفاز، ورؤساء أميركيين ليبراليين مثل بيل كلينتون وجمهوريين مثل رونالد ريجان والذين مجدوا الجيش، وانتهاء بالجماعات الدينية التي جعلت من الجيش مصدرا للوطنية ونموذجا للأخلاق داخل المجتمع الأميركي

كما يشير باسيفيتش إلى دور بعض النخب المسيطرة على تشكيل وصناعة السياسة الخارجية الأميركية في الفترة الحالية وعلى رأسها المحافظون الجدد، حيث يخصص باسيفيتش الفصل الثالث من كتابه للحديث عنهم وعن خصائصهم الفكرية والحركية

إعادة تشكيل العالم

وهنا يظهر مفهوم الجيل من جديد، حيث يرى باسيفيتش أن فهم أفكار وسياسات المحافظين الجدد يتطلب النظر إليهم على أنهم جيلان وليسوا جيلا واحدا، الجيل الأول هو الجيل المؤسس ويضم أشخاص مثل إيرفينج كريستول الملقب بالأب الروحي للمحافظين الجدد ونورمان بودهورتز المحرر السابق لمجلة كومنتاري، وهو جيل تبلور في ستينات القرن العشرين وجاءت أفكاره كرد فعل للظروف التي مر بها العالم في النصف الأول من القرن العشرين، لذا ظل هذا الجيل يؤمن دائما بأن للقوة حدود، أما الجيل الثاني فقد ترعرع في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين وهو يضم أولاد الجيل الأول ومن هم في أعمارهم، وهو جيل صعد للسلطة في فترة أصبحت فيها أمريكا القطب الأوحد بالعالم مما جعل هذا الجيل مشغولا بفكرة استخدام القوة الأمريكية لإعادة تشكيل العالم على صورة ترضيه، ونسو تحذير آبائهم من المبالغة في استخدام القوة

الفكرة السابقة ترد بشكل مشابه في كتاب "ثورة المحافظين الجدد" الصادر في العام الماضي للمؤرخ اليهودي الأمريكي موري فريدمان، والذي يشير إلى أن الجيل الأول من المحافظين الجدد نشأ في أحياء نيويورك الفقيرة لآباء مهاجرين يشعرون بالغربة في أمريكا بعد أن هاجروا إليها هاربين من التمييز الذي تعرضوا له في أوربا

لذا أمن أبناء هذا الجيل بأن لأميركا دور في حماية العالم من شرور النازية والشيوعية والأيدلوجيات المتطرفة، ولكنهم ظلوا جيلا محافظا يخشى الإفراط في استخدام القوة كما يخشى المشاريع الكبرى والأهداف البعيدة التي يصعب تحقيقها

أما أبناء الجيل الثاني فقد ولدوا بعد أن أصبح آبائهم جزءا من النخبة السياسية الأميركية المسيطرة، وأصبحوا هم تباعا الأبناء المدللين لتلك النخبة واسعة النفوذ، واقتصرت مهامهم على البحث في سبل استخدام الثروة والقوة والنفوذ التي بناها الجيل الأول

ولعل هذا السبب هو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت أحد أنبغ تلاميذ الجيل الأول من المحافظين الجدد - وهو الكاتب الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما - إلى الخروج عن الجيل الثاني وإعلان نقده لهم في كتابه الصادر أوائل في العام الحالي بعنوان "أميركا على مفترق طرق" والذي خصص فوكوياما أجزءا كبيرة منه للحديث عن أفكار المحافظين الجدد ومعانيها الحقيقية ولإعلان أسباب نقده لأفكار وسياسات الجيل الراهن من المحافظين الجدد باعتبارها انحرافا عن أفكار آبائهم الأصلية

وعلى رأس الأفكار المنسية فكرة "الهندسة الاجتماعية" والتي رفضها الجيل الأول وتبناها الجيل الثاني، حيث يرى فوكوياما أن الجيل الأول من المحافظين الجدد والذي رفض النظم الشمولية ظل دائما يخشى من تدخل الدولة في مشاريع كبرى لإعادة بناء المجتمعات في الداخل أو الخارج، أما الجيل الثاني فلم يدرك هذه الحقيقة كما ظهر في حرب العراق التي شنها الجيل الثاني معتقدا أنه قادر على إعادة تشكيل العراق – بل والشرق الأوسط – على صورة ترضيه

فئات الجيل الحاكم

يجب هنا الإشارة إلى أن المحافظين الجدد ليسوا الفئة الأمريكية الوحيدة التي تحكم أمريكا حاليا، إذ تتسع النخبة الأمريكية الحاكمة لثلاثة فئات أخرى إضافية على الأقل يحددها كتاب "حكم أمريكا" تاريخ القوة والثروة في بلد ديمقراطي" والصادر في العام الماضي عن مطابع جامعة هارفرد الأميركية لعدة مؤلفين، حيث يرى مايكل ليند الباحث في معهد نيو أمريكان فاوندايشين الأمريكي – في الفصل قبل الأخير من الكتاب - أن النخبة الأمريكية الحاكمة في أمريكا حاليا تتكون من أربعة فئات رئيسية تضم أثرياء الجنوب الأمريكي، وقيادات اليمين الأميركي المتدين، وقيادات الحزب الجمهوري، والمحافظين الجدد

ويقول ليند أن التحالف بين الجماعات الأربعة بدأ في التبلور منذ السبعينات كرد فعل على انتشار الحركات الليبرالية الجماهيرية في المجتمع الأمريكي خاصة في أوساط الشباب خلال الخمسينات والستينات، وهي حركات شنت هجوما واسعا على مختلف فئات المجتمع الأمريكي التقليدية كالدين والأسرة والثقافة الأمريكية الغربية، مما اشعر الجماعات الأمريكية المحافظة بخطر كبير يهددها جعلها تشن ما يسميه الكتاب بالثورة المضادة لاستعادة مقاليد السيطرة داخل المجتمع الأميركي ومؤسساته الحاكمة

حيث عارض أثرياء الجنوب مطالبة الليبرالية بالحقوق والحريات المدنية، ورفض رجال الدين هجوم الليبراليين على الدين، وعارض المحافظون الجدد موقف الليبرالية "المتسامح" تجاه الاشتراكية وهجومهم على القيم والمؤسسات السياسية الأميركية، أما الحزب الجمهوري فكان بمثابة الوعاء السياسي لالتقاء تلك الجماعات لإعادة رسم الخريطة السياسية لأميركا

كما يذكر ليند أن المحافظين الجدد تميزوا بكونهم جزءا من نخب مساندة لإسرائيل صعدت في دوائر صنع السياسة الخارجية الأميركية بشكل ملحوظ خلال النصف الثاني من القرن العشرين مما جعلها تحول نظر أميركا ومصالحها الإستراتيجية إلى أجزاء مختلفة من العالم يأتي على رأسها الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، في حين أن النخب الأميركية الأنجلوساكسونية التي سيطرت على السياسة الخارجية الأميركية في الفترات السابقة كانت ترى أن أوربا وأمريكا اللاتينية هي الساحات الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية

الإفراط في استخدام القوة وتآكل الديمقراطية الأميركية

تقودنا الأفكار السابقة إلى طرح سؤال هام حول ما إذا كانت ملامح الجيل الأميركي الحاكم السابق شرحها تنطبق على موقفه من العالم ومن السياسة الخارجية الأمريكية فقط؟ أم أنها تنطبق أيضا على نظرته للسياسة الداخلية الأميركية

وقد نجد الإجابة على السؤال السابق في دراستين هامتين، أولهما كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أميركا" الصادر في عام 2004 للصحفيين البريطانيين إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت، والذي يعد بمثابة موسوعة متميزة عن أسباب صعود ونمو اليمين الأميركي

المثير هنا هو أن الكتاب يشرح أسباب قوة اليمين وجماعاته المختلفة وكيف أصبح اليمين يتمتع بالسيطرة على الكونجرس بمجلسيه وبالسيطرة على البيت الأبيض وعلى عدد كبير من مراكز الأبحاث الأميركية بواشنطن وعلى عدد متزايد من وسائل الإعلام، حيث يطرح المؤلفان سؤالا هاما حول حدود هذه القوة والعوامل التي قد تقود إلى تقويضها، ويجيبان على السؤال السابق إجابة مفاجئة، حيث يريان أن القوة ذاتها قد تمثل عاملا رئيسيا لتراجع اليمين في أمريكا إذا أفرطت النخبة الحاكمة في تقدير واستخدام قوتها

الكتاب الثاني - هو كتاب "الثورة الديمقراطية وتآكل الديمقراطية الأمريكية" والصادر في العام الماضي لأكاديميين أمريكيين هما جاكوب هاكر وبول بيرسون - يكاد يؤكد أن النخبة الأميركية الحاكمة وقعت في الخطأ السابق في تعاملها مع الداخل قبل الخارج

إذ يركز المؤلفان على الداخل بالأساس ويؤكدان على أن الجيل المسيطر على مؤسسات اليمين الأمريكية والحزب الجمهوري بالغ في استخدام قوته بشكل أضر بالديمقراطية الأميركية ذاتها، حيث بالغ هذا الجيل في الاعتماد على قواعده الجماهيرية المتشددة دينيا وأيدلوجيا، كما بالغ في إسكات الأصوات المعارضة له داخل الحزب الجمهوري ذاته قبل الحزب الديمقراطي، كما بالغ في إضعاف رقابة المؤسسات السياسية الأميركية على سياساته الجديدة كخفض الضرائب لمصلحة الأثرياء، كما بالغ في إهمال المهادنة والتفاوض، بل بالغ أحيانا في إهمال القانون الأمريكي ذاته كما ظهر في فضائح الإدارة وبعض رموز الجمهوريين في الكونجرس والتي تكررت في الشهور الأخيرة

خاتمة

أخيرا بقى لنا أن نوضح أن الرسم الموضوعي لملامح الجيل الأميركي الحاكم يتطلب الإشارة إلى وجود أصوات معارضة داخل الحزب الجمهوري واليمين الأمريكي لسلطة وتصرفات هذا الجيل وهي أصوات في ازدياد خاصة بعد أخطاء الإدارة الأميركية في العراق، كما يجب الإشارة إلى أن المقال الراهن ركز بالأساس على النخب اليمينية الحاكمة ولم يتناول النخب اليسارية والتي تستحق دورها من الاهتمام على الرغم من أنها لا تحكم في الفترة الحالية وإن كانت تمتلك قدرا كبيرا من النفوذ والسيطرة على الرأي العام والسياسة بأمريكا يستحق الاهتمام والدراسة المتعمقة

-----

مقالات ذات صلة

حكم أميركا: تاريخ الثروة والقوة في دولة ديمقراطية

الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأمريكية

ثورة المحافظين الجدد: المثقفون اليهود وتشكيل السياسة العامة

أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا

النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة

تشريح القومية الأمريكية

عقيدة جورج دبليو بوش