أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا
عرض بقلم: علاء بيومي
الناشر: جريدة الرياض، 2 أكتوبر 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
يحتوي كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا" لمراسلي مجلة ذا أكونوميست البريطانية في الولايات المتحدة إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت على عدد يصعب حصره من الأفكار المثيرة عن مدى وأسباب قوة التيار المحافظ في الولايات المتحدة خلال الفترة الحالية، فالكتاب أشبه بموسوعة شاملة تتضمن مختلف القضايا المثارة حول اليمين الأمريكي في الفترة الحالية، وإن كان يفتقد لسهولة وترتيب الموسوعات
عموما يمكن القول أن الكتاب الصادر في عام 2004 يعد الأكثر شمولا إن لم يكن الأفضل بين الكتب الحديثة التي تتناول اليمين الأمريكي بالشرح والتحليل بشكل عام، خاصة وأن الكتاب يتميز بقدر من السهولة يرشحه لأن يكون مقدمة مفيدة - وإن كانت طويلة بعض الشيء عن اليمين الأمريكي - للقارئ الأجنبي (غير الأمريكي)
فكرة الكتاب الأساسية تدور حول إيمان مؤلفي الكتاب بأن أمريكا أمة محافظة أو يمينية بطبعها لأسباب عديدة يشرحها المؤلفان في مناسبات عديدة ومتفرقة عبر أجزاء الكتاب الأربعة وفصوله السبعة عشر
إذ يرى المؤلفان أن أمريكا لم تتحول نحو اليمين ولكن اليمين هو الذي عثر على أمريكا – أكثر دول العالم نفوذا في الفترة الحالية – محافظة بطبعها، كما يتنبئان باستمرار صعود اليمين وهيمنته على السياسة الأمريكية خلال السنوات المقبلة بغض النظر عن شخصية الرئيس، لذا يدعوان العالم وخاصة أوربا – في خاتمة الكتاب - للاستعداد للتعايش في السنوات المقبلة مع أمريكا يهيمن عليها اليمين
كما يعبران عن اعتقادهما بأن الرأي العام الأمريكي يغفل حقيقة مدى انتشار ونفوذ اليمين في أمريكا لأن شعوب العالم لا تعرف عن أمريكا سوى رموزها الليبرالية على مستويات عدة، فالعالم لا يعرف عن أمريكا سوى مدنها الكبرى الليبرالية مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، ولكنه لا يعرف كثيرا عن ولايات الوسط الأمريكي الزراعية المحافظة، كما أن العالم يعرف عن أمريكا جرائدها الليبرالية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ولكنه لا يعرف كثيرا عن مراكز الأبحاث اليمينية، هذا إضافة إلى أن صورة أمريكا في العالم مرتبطة أكثر بهوليود والأفكار الليبرالية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي ولكن العالم لا يدرك أن أمريكا أن أكثر بلدان العالم المتقدم محافظة على مستويات مختلفة كانتشار المشاعر الدينية والقومية
أمريكا أمة محافظة بطبعها
يرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت – في الجزء الرابع من الكتاب - أن أمريكا كدولة وتجربة تاريخية مثلت دائما تربة خصبة لصعود قوي التيار المحافظ، وذلك لعدة أسباب، فلوعدنا للتاريخ – كما يرى مؤلفا الكتاب – لوجدنا أن أمريكا دولة حديثة لم تشهد ثورات أو معاناة الدول القديمة وخاصة الأوربية منها، فأمريكا ورثت التقاليد السياسية الأوربية ولكنها إلى حد كبير لم ترث المعاناة التاريخية والثورات الدامية التي مرت بها بعض الشعوب الأوربية لكي تصل إلى دساتيرها ونظمها السياسية الديمقراطية
فعندما هرب الآباء المؤسسون للولايات المتحدة من أوربا سعيا نحو الحرية الدينية وجدوا أمامهم بلد شاسع مليء بالثورات يتسع للجميع دون وجود ضرورة تحتم الصدام بين المهاجرين الجدد، وإن لم يمنع هذا وجود التفرقة والتمييز ضد فئات عديدة كأهل البلاد الأصليين والأقليات الدينية كالمورمان والعرقية كالأفارقة الأمريكيين - لذا لم تمر المؤسسات التي وضعها الآباء المؤسسات للولايات المتحدة بعد حرب الاستقلال بتحديات سياسية كبيرة، كما أن الثورة الأمريكية نفسها لم تكن دامية، ولم يسعى الأمريكيون لوضع قيود مبالغ فيها على الدولة أو على الطبقات الغنية، لذا ظلت أمريكا - التي عرفت في العالم بأنها دولة الحرية – معتدلة أو محافظة سياسيا، فهي لم تمر بثورات راديكالية ولم تواجه تحديات كبرى، لذا يشعر الأمريكي بمستوى كبير من الرضا والفخر بتراثه السياسي كما يظهر في احتفال الأمريكيين الدائم بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة هذا على عكس شعوب أخرى كاليابانيين والألمان والتي مرت بتجارب تاريخية مريرة جعلتها تعيد التفكير في تراثها القومي بشكل عام
هذا إضافة إلى أن الدستور الأمريكي بطبيعته أضعف من سلطة الدولة لحساب الولايات، كما أنه أعطى سلطة كبيرة للولايات الزراعية قليلة عدد السكان لأنه أعطى جميع الولايات نفس عدد المقاعد بمجلس الشيوخ الأمريكي، مما أعطى الريف الأمريكي المحافظ بطبيعته نفوذا كبيرا مازال مستمرا حتى الآن مما ساعده على جذب أمريكا دوما نحو اليمين
كما أن علمانية أمريكا – والتي أقرها الدستور بفصله الدين عن الدولة – أدى إلى تقوية المؤسسات الدينية الأمريكية ولم يضعفها، إذ أصبح البقاء الديني في أمريكا للمؤسسات الدينية الأقوى والأصلح، وهنا يشير مؤلفا الكتاب إلى أن 16% من الشعب الأمريكي اعتنقوا تاريخيا ديانات غير ديانتهم الأصلية
أما الجغرافيا فقد أعطت أمريكا فرص استثنائية عديدة، فقد أعطت الأمريكيين شعورا دائما بالثراء والوفرة والتفاؤل ورفض تدخل الدولة في الاقتصاد، وتأييد رجال الأعمال والرأسمالية، والأمل في زيادة ثرائهم واستهلاكهم بشكل مستمر في المستقبل
كما أعطت الجغرافيا – كما يوضح مؤلفا الكتاب في خاتمته – أمريكا خاصية استثنائية أخرى وهي مساحة واسعة للجميع، فمؤلفا الكتاب يعتقدان بأن الشعب الأمريكي مازال منقسما على نفسه أيدلوجيا على الرغم من سيطرة اليمين سياسيا، فهناك فئات واسعة – قد تصل لنصف الشعب الأمريكي – ترى نفسها كفئات ليبرالية التوجه، هذا في مقابل سيطرة اليمين سياسيا بحكم سيطرته على مؤسسات الحكم في واشنطن وعلى الجدل السياسي العام في الفترة الحالية وافتقار اليسار الأمريكي – كما يرى مؤلفا الكتاب – لأية بدائل سياسية حقيقة في الوقت الراهن، وهنا يرى مؤلفا الكتاب أن مساحة أمريكا الشاسعة جعلت هناك دائما وفرة في المكان تكفي لأن تعيش جميع الجماعات بغض النظر عن توجهاتها الأيدلوجية، فمن لا يعجبه العيش في المدن الشمالية الأمريكية المزدحمة يمكنه الانتقال للعيش على أطراف المدينة الأكثر هدوءا أو في بعض مدن الجنوب أو الوسط أو الغرب أو أي مكان أمريكي أخر يرديه، فيمكن لكل أمريكي أن يعثر على المدينة التي يفضلها ويعيش فيها
صعود اليمين الأمريكي
أما قصة صعود اليمين الأمريكي خلال العقود الأخيرة فتعود – كما يشرح إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت - في الجزء الأول من الكتاب - لعام 1964، وتحديدا لحملة الانتخابات الرئاسية التي شهدت التنافس بين مرشح الحزب الجمهوري باري جولدواتر والمرشح الديمقراطي ليندون جونسون وانتهت بفوز ساحق للأخير، ويقول المؤلفان أن ما ميز باري جولدواتر وحملته الرئاسية هي أنها مثلت مواقف اليمين في صورتها المتطرفة وليست المعتدلة أو المتخفية، فباري جولدواتر لم يسعى لتقديم نفسه كمنافس معتدل أو مرضي لجميع الأطراف، بل سعى لتقديم نفسه على أنه بديل واضح وقوى للسياسات الليبرالية التي قادها الديمقراطيون منذ ثلاثينات القرن العشرين والتي تركزت حول الدفاع بحركة حقوق الإنسان وزيادة دور الدولة في مساعدة الفقراء وتقديم الخدمات الاجتماعية
في المقابل عارض جولدواتر حركة الحقوق المدنية ونادي بخفض دور الدولة ومؤسساتها لأقصى حد، وشن هجوما مرضيا ضد اليسار ومؤسساته، مما أدى إلى هزيمته هزيمة ساحقة ولكنه ترك من خلفه حركة محافظة جديدة، ويقول الكاتبان أن الهزيمة المدوية لجولدواتر مثلت نقطة بداية العودة لليمين الأمريكي، والتي امتدت خلال السبعينات والثمانينات لتظهر واضحة في عام 1994 حين تمكن الحزب الجمهوري من استعادة سيطرته على مجلس النواب الأمريكي وهي المؤسسة الأكثر تعبيرا عن إرادة الجماهير المباشرة من بين المؤسسات الفيدرالية الأمريكية
أما أسباب قوة اليمين الأمريكي في الفترة الحالية فيشرحها إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت في الجزء الثاني من الكتاب، وهنا يشر المؤلفان لثلاثة أسباب رئيسية أولها وأقلها أهمية هي وجود الرئيس الأمريكي في الحكم ونجاحه هو ومساعده كارل روف في بناء توازن محكم وصعب بين قوي اليمين الأمريكي المختلفة
أما السببين الأهم هما عقل وعضلات اليمين الأمريكي، وهنا يرى مؤلفا الكتاب أن سر صعود اليمين الأمريكي خلال السنوات الأخيرة يكمن في نجاح اليمين في بناء شبكة مهولة من المؤسسات الداعمة لأهدافه بشكل يفوق الليبراليين بدرجة كبيرة في الوقت الراهن
الجزء الأول من هذه المؤسسات يطلق عليه المؤلفان اسم عقل اليمين وهو يتمثل في مراكز أبحاثة ووسائل الإعلام المعبرة عنه، وهدف هذه المؤسسات الأساسي يكمن في البحث في حلول وأفكار سياسية جديدة وإقناع واشنطن بتبنيها، وهنا يستعرض المؤلفان عدد كبير من مراكز الأبحاث اليمينية من حيث حجمها وحجم نفوذها السياسي وطبيعة المؤسسات التي تمولها
أما الجزء الثاني فيتمثل في المؤسسات الجماهيرية التي تركز على حشد قوى اليمين الأمريكي الجماهيرية عبر الولايات المتحدة، ويقسم الكتاب هذا الفريق إلى مجموعتين أساسيتين، حيث تضم المجموعة الأولى الجماعات الأمريكية التي تنادي بالحد من دور الدولة عن طريق الحد من الضرائب ورفض تدخل الدولة لفرض قيود على استخدام الأسلحة الخاصة
أما الجماعة الثانية فهي تضم المحافظين المعنيين بالقضايا الأخلاقية والدينية، وهنا يعبر المؤلفان عن اعتقاديهما بأن اليمين المسيحي الأمريكي على الرغم من نفوذه الكبير خلال السنوات الأخيرة بدأ يعاني من مشاكل سياسية متزايدة مؤخرا بسبب سيطرة قيادات كبيرة في السن غير محبوبة جماهيريا عليه مثل بات روبرتسون وفرانكلين جرام وغيرهم مما دفع بعض الوجود الجديدة والذكية سياسيا إلى ترك التيار والانخراط في مؤسسات يمينية أخرى كما حدث في حالة رالف ريد الذي قاد التحالف المسيحي – والذي يرأسه بات روبتسون - لانتصارات سياسية كبيرة، ولكنه قرر ترك الإتحاد للعمل كرئيس للحزب الجمهوري بجورجيا
اليمين الأمريكي هو التهديد الرئيسي لنفسه
فيما يتعلق بمستقبل اليمين الأمريكي يرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن اليمين الأمريكي يمثل التهديد الرئيسي لنفسه خلال الفترة الحالية، وذلك لعدة أسباب فهما يريان أولا أن اليسار الأمريكي في حاجة لمراجعة أفكاره وسياساته بعد أن أصبح يعيش حالة إفلاس سياسي راهنة، وبعد أن أصبحت مواقفه السياسية لا تختلف كثيرا عن سياسات اليمين، كما أنه يفتقد للوحدة والحماس الذي يشعر به أنصار اليمين في الفترة الحالية
أما السبب الثاني فهو كون اليمين الأمريكي يضم جماعات متناقضة عديدة، فاليمين الأمريكي يضم الأثرياء والذين يتبنون أجندات ثقافية ليبرالية، كما يضم اليمين المسيحي الذي يرفض أخلاق الأثرياء، كما يضم اليمين الأمريكي المنادين بالحد من تضخم الدولة ولكن بوش قاد أكبر تضخم لمشاريع ومؤسسات الدولة منذ عقود، كما يضم اليمين بين جوانبه جماعات معادية للأقليات وللمهاجرين مما يمثل خطرا على قدرة الحزب على اجتذاب المهاجرين الجدد إليه خاصة الأمريكيين اللاتينيين
أخيرا يعتقد المؤلفان أن سيطرة الحزب الجمهوري على البيت الأبيض قد تستمر أو تختفي خلال السنوات المقبلة، ولكن ذلك لن يضعف سيطرة اليمين داخل الولايات المتحدة، لأن أمريكا كما يرى مؤلفا الكتاب سوف تبقى بلدا محافظا لسنوات أو ربما عقود عديدة قادمة
الناشر: جريدة الرياض، 2 أكتوبر 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
يحتوي كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا" لمراسلي مجلة ذا أكونوميست البريطانية في الولايات المتحدة إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت على عدد يصعب حصره من الأفكار المثيرة عن مدى وأسباب قوة التيار المحافظ في الولايات المتحدة خلال الفترة الحالية، فالكتاب أشبه بموسوعة شاملة تتضمن مختلف القضايا المثارة حول اليمين الأمريكي في الفترة الحالية، وإن كان يفتقد لسهولة وترتيب الموسوعات
عموما يمكن القول أن الكتاب الصادر في عام 2004 يعد الأكثر شمولا إن لم يكن الأفضل بين الكتب الحديثة التي تتناول اليمين الأمريكي بالشرح والتحليل بشكل عام، خاصة وأن الكتاب يتميز بقدر من السهولة يرشحه لأن يكون مقدمة مفيدة - وإن كانت طويلة بعض الشيء عن اليمين الأمريكي - للقارئ الأجنبي (غير الأمريكي)
فكرة الكتاب الأساسية تدور حول إيمان مؤلفي الكتاب بأن أمريكا أمة محافظة أو يمينية بطبعها لأسباب عديدة يشرحها المؤلفان في مناسبات عديدة ومتفرقة عبر أجزاء الكتاب الأربعة وفصوله السبعة عشر
إذ يرى المؤلفان أن أمريكا لم تتحول نحو اليمين ولكن اليمين هو الذي عثر على أمريكا – أكثر دول العالم نفوذا في الفترة الحالية – محافظة بطبعها، كما يتنبئان باستمرار صعود اليمين وهيمنته على السياسة الأمريكية خلال السنوات المقبلة بغض النظر عن شخصية الرئيس، لذا يدعوان العالم وخاصة أوربا – في خاتمة الكتاب - للاستعداد للتعايش في السنوات المقبلة مع أمريكا يهيمن عليها اليمين
كما يعبران عن اعتقادهما بأن الرأي العام الأمريكي يغفل حقيقة مدى انتشار ونفوذ اليمين في أمريكا لأن شعوب العالم لا تعرف عن أمريكا سوى رموزها الليبرالية على مستويات عدة، فالعالم لا يعرف عن أمريكا سوى مدنها الكبرى الليبرالية مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، ولكنه لا يعرف كثيرا عن ولايات الوسط الأمريكي الزراعية المحافظة، كما أن العالم يعرف عن أمريكا جرائدها الليبرالية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ولكنه لا يعرف كثيرا عن مراكز الأبحاث اليمينية، هذا إضافة إلى أن صورة أمريكا في العالم مرتبطة أكثر بهوليود والأفكار الليبرالية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي ولكن العالم لا يدرك أن أمريكا أن أكثر بلدان العالم المتقدم محافظة على مستويات مختلفة كانتشار المشاعر الدينية والقومية
أمريكا أمة محافظة بطبعها
يرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت – في الجزء الرابع من الكتاب - أن أمريكا كدولة وتجربة تاريخية مثلت دائما تربة خصبة لصعود قوي التيار المحافظ، وذلك لعدة أسباب، فلوعدنا للتاريخ – كما يرى مؤلفا الكتاب – لوجدنا أن أمريكا دولة حديثة لم تشهد ثورات أو معاناة الدول القديمة وخاصة الأوربية منها، فأمريكا ورثت التقاليد السياسية الأوربية ولكنها إلى حد كبير لم ترث المعاناة التاريخية والثورات الدامية التي مرت بها بعض الشعوب الأوربية لكي تصل إلى دساتيرها ونظمها السياسية الديمقراطية
فعندما هرب الآباء المؤسسون للولايات المتحدة من أوربا سعيا نحو الحرية الدينية وجدوا أمامهم بلد شاسع مليء بالثورات يتسع للجميع دون وجود ضرورة تحتم الصدام بين المهاجرين الجدد، وإن لم يمنع هذا وجود التفرقة والتمييز ضد فئات عديدة كأهل البلاد الأصليين والأقليات الدينية كالمورمان والعرقية كالأفارقة الأمريكيين - لذا لم تمر المؤسسات التي وضعها الآباء المؤسسات للولايات المتحدة بعد حرب الاستقلال بتحديات سياسية كبيرة، كما أن الثورة الأمريكية نفسها لم تكن دامية، ولم يسعى الأمريكيون لوضع قيود مبالغ فيها على الدولة أو على الطبقات الغنية، لذا ظلت أمريكا - التي عرفت في العالم بأنها دولة الحرية – معتدلة أو محافظة سياسيا، فهي لم تمر بثورات راديكالية ولم تواجه تحديات كبرى، لذا يشعر الأمريكي بمستوى كبير من الرضا والفخر بتراثه السياسي كما يظهر في احتفال الأمريكيين الدائم بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة هذا على عكس شعوب أخرى كاليابانيين والألمان والتي مرت بتجارب تاريخية مريرة جعلتها تعيد التفكير في تراثها القومي بشكل عام
هذا إضافة إلى أن الدستور الأمريكي بطبيعته أضعف من سلطة الدولة لحساب الولايات، كما أنه أعطى سلطة كبيرة للولايات الزراعية قليلة عدد السكان لأنه أعطى جميع الولايات نفس عدد المقاعد بمجلس الشيوخ الأمريكي، مما أعطى الريف الأمريكي المحافظ بطبيعته نفوذا كبيرا مازال مستمرا حتى الآن مما ساعده على جذب أمريكا دوما نحو اليمين
كما أن علمانية أمريكا – والتي أقرها الدستور بفصله الدين عن الدولة – أدى إلى تقوية المؤسسات الدينية الأمريكية ولم يضعفها، إذ أصبح البقاء الديني في أمريكا للمؤسسات الدينية الأقوى والأصلح، وهنا يشير مؤلفا الكتاب إلى أن 16% من الشعب الأمريكي اعتنقوا تاريخيا ديانات غير ديانتهم الأصلية
أما الجغرافيا فقد أعطت أمريكا فرص استثنائية عديدة، فقد أعطت الأمريكيين شعورا دائما بالثراء والوفرة والتفاؤل ورفض تدخل الدولة في الاقتصاد، وتأييد رجال الأعمال والرأسمالية، والأمل في زيادة ثرائهم واستهلاكهم بشكل مستمر في المستقبل
كما أعطت الجغرافيا – كما يوضح مؤلفا الكتاب في خاتمته – أمريكا خاصية استثنائية أخرى وهي مساحة واسعة للجميع، فمؤلفا الكتاب يعتقدان بأن الشعب الأمريكي مازال منقسما على نفسه أيدلوجيا على الرغم من سيطرة اليمين سياسيا، فهناك فئات واسعة – قد تصل لنصف الشعب الأمريكي – ترى نفسها كفئات ليبرالية التوجه، هذا في مقابل سيطرة اليمين سياسيا بحكم سيطرته على مؤسسات الحكم في واشنطن وعلى الجدل السياسي العام في الفترة الحالية وافتقار اليسار الأمريكي – كما يرى مؤلفا الكتاب – لأية بدائل سياسية حقيقة في الوقت الراهن، وهنا يرى مؤلفا الكتاب أن مساحة أمريكا الشاسعة جعلت هناك دائما وفرة في المكان تكفي لأن تعيش جميع الجماعات بغض النظر عن توجهاتها الأيدلوجية، فمن لا يعجبه العيش في المدن الشمالية الأمريكية المزدحمة يمكنه الانتقال للعيش على أطراف المدينة الأكثر هدوءا أو في بعض مدن الجنوب أو الوسط أو الغرب أو أي مكان أمريكي أخر يرديه، فيمكن لكل أمريكي أن يعثر على المدينة التي يفضلها ويعيش فيها
صعود اليمين الأمريكي
أما قصة صعود اليمين الأمريكي خلال العقود الأخيرة فتعود – كما يشرح إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت - في الجزء الأول من الكتاب - لعام 1964، وتحديدا لحملة الانتخابات الرئاسية التي شهدت التنافس بين مرشح الحزب الجمهوري باري جولدواتر والمرشح الديمقراطي ليندون جونسون وانتهت بفوز ساحق للأخير، ويقول المؤلفان أن ما ميز باري جولدواتر وحملته الرئاسية هي أنها مثلت مواقف اليمين في صورتها المتطرفة وليست المعتدلة أو المتخفية، فباري جولدواتر لم يسعى لتقديم نفسه كمنافس معتدل أو مرضي لجميع الأطراف، بل سعى لتقديم نفسه على أنه بديل واضح وقوى للسياسات الليبرالية التي قادها الديمقراطيون منذ ثلاثينات القرن العشرين والتي تركزت حول الدفاع بحركة حقوق الإنسان وزيادة دور الدولة في مساعدة الفقراء وتقديم الخدمات الاجتماعية
في المقابل عارض جولدواتر حركة الحقوق المدنية ونادي بخفض دور الدولة ومؤسساتها لأقصى حد، وشن هجوما مرضيا ضد اليسار ومؤسساته، مما أدى إلى هزيمته هزيمة ساحقة ولكنه ترك من خلفه حركة محافظة جديدة، ويقول الكاتبان أن الهزيمة المدوية لجولدواتر مثلت نقطة بداية العودة لليمين الأمريكي، والتي امتدت خلال السبعينات والثمانينات لتظهر واضحة في عام 1994 حين تمكن الحزب الجمهوري من استعادة سيطرته على مجلس النواب الأمريكي وهي المؤسسة الأكثر تعبيرا عن إرادة الجماهير المباشرة من بين المؤسسات الفيدرالية الأمريكية
أما أسباب قوة اليمين الأمريكي في الفترة الحالية فيشرحها إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت في الجزء الثاني من الكتاب، وهنا يشر المؤلفان لثلاثة أسباب رئيسية أولها وأقلها أهمية هي وجود الرئيس الأمريكي في الحكم ونجاحه هو ومساعده كارل روف في بناء توازن محكم وصعب بين قوي اليمين الأمريكي المختلفة
أما السببين الأهم هما عقل وعضلات اليمين الأمريكي، وهنا يرى مؤلفا الكتاب أن سر صعود اليمين الأمريكي خلال السنوات الأخيرة يكمن في نجاح اليمين في بناء شبكة مهولة من المؤسسات الداعمة لأهدافه بشكل يفوق الليبراليين بدرجة كبيرة في الوقت الراهن
الجزء الأول من هذه المؤسسات يطلق عليه المؤلفان اسم عقل اليمين وهو يتمثل في مراكز أبحاثة ووسائل الإعلام المعبرة عنه، وهدف هذه المؤسسات الأساسي يكمن في البحث في حلول وأفكار سياسية جديدة وإقناع واشنطن بتبنيها، وهنا يستعرض المؤلفان عدد كبير من مراكز الأبحاث اليمينية من حيث حجمها وحجم نفوذها السياسي وطبيعة المؤسسات التي تمولها
أما الجزء الثاني فيتمثل في المؤسسات الجماهيرية التي تركز على حشد قوى اليمين الأمريكي الجماهيرية عبر الولايات المتحدة، ويقسم الكتاب هذا الفريق إلى مجموعتين أساسيتين، حيث تضم المجموعة الأولى الجماعات الأمريكية التي تنادي بالحد من دور الدولة عن طريق الحد من الضرائب ورفض تدخل الدولة لفرض قيود على استخدام الأسلحة الخاصة
أما الجماعة الثانية فهي تضم المحافظين المعنيين بالقضايا الأخلاقية والدينية، وهنا يعبر المؤلفان عن اعتقاديهما بأن اليمين المسيحي الأمريكي على الرغم من نفوذه الكبير خلال السنوات الأخيرة بدأ يعاني من مشاكل سياسية متزايدة مؤخرا بسبب سيطرة قيادات كبيرة في السن غير محبوبة جماهيريا عليه مثل بات روبرتسون وفرانكلين جرام وغيرهم مما دفع بعض الوجود الجديدة والذكية سياسيا إلى ترك التيار والانخراط في مؤسسات يمينية أخرى كما حدث في حالة رالف ريد الذي قاد التحالف المسيحي – والذي يرأسه بات روبتسون - لانتصارات سياسية كبيرة، ولكنه قرر ترك الإتحاد للعمل كرئيس للحزب الجمهوري بجورجيا
اليمين الأمريكي هو التهديد الرئيسي لنفسه
فيما يتعلق بمستقبل اليمين الأمريكي يرى إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت أن اليمين الأمريكي يمثل التهديد الرئيسي لنفسه خلال الفترة الحالية، وذلك لعدة أسباب فهما يريان أولا أن اليسار الأمريكي في حاجة لمراجعة أفكاره وسياساته بعد أن أصبح يعيش حالة إفلاس سياسي راهنة، وبعد أن أصبحت مواقفه السياسية لا تختلف كثيرا عن سياسات اليمين، كما أنه يفتقد للوحدة والحماس الذي يشعر به أنصار اليمين في الفترة الحالية
أما السبب الثاني فهو كون اليمين الأمريكي يضم جماعات متناقضة عديدة، فاليمين الأمريكي يضم الأثرياء والذين يتبنون أجندات ثقافية ليبرالية، كما يضم اليمين المسيحي الذي يرفض أخلاق الأثرياء، كما يضم اليمين الأمريكي المنادين بالحد من تضخم الدولة ولكن بوش قاد أكبر تضخم لمشاريع ومؤسسات الدولة منذ عقود، كما يضم اليمين بين جوانبه جماعات معادية للأقليات وللمهاجرين مما يمثل خطرا على قدرة الحزب على اجتذاب المهاجرين الجدد إليه خاصة الأمريكيين اللاتينيين
أخيرا يعتقد المؤلفان أن سيطرة الحزب الجمهوري على البيت الأبيض قد تستمر أو تختفي خلال السنوات المقبلة، ولكن ذلك لن يضعف سيطرة اليمين داخل الولايات المتحدة، لأن أمريكا كما يرى مؤلفا الكتاب سوف تبقى بلدا محافظا لسنوات أو ربما عقود عديدة قادمة
No comments:
Post a Comment