Thursday, November 30, 2006

المحافظون الجدد وصقور واشنطن باقون


بقلم: علاء بيومي

الناشر:
الجزيرة نت، 28 نوفمبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

من يعتقدون أن هزيمة الجمهوريين في الانتخابات الأميركية الأخيرة تعني نهاية نفوذ المحافظين الجدد وصقور واشنطن مخطئون لأسباب عديدة، فهم يختزلون المحافظين الجدد في مجموعة صغيرة من الخبراء والسياسيين المحيطين بالإدارة الأميركية تنتهي بإقالتهم أو استقالتهم، كما يقومون في نفس الوقت بتضخيم نفوذ هذه المجموعة المحدودة ونسيان التحالفات السياسية التي اعتمدت عليها في الوصول إلى زمام السلطة ومقاليد الحكم بالولايات المتحدة، أما السبب الثالث فهو أن أصحاب هذا الاعتقاد يقعون في خطأ شائع وهو الخلط بين المحافظين الجدد وصقور واشنطن، والواضح بالطبع أن صقور واشنطن أقدم بكثير من المحافظين الجدد، كما أنهم باقون سواء بقى المحافظون الجدد أو رحلوا فوجودهم يرتبط بأسباب مختلفة وعديدة يصعب التخلص منها، ولإيضاح الأخطاء التحليلية السياسية السابقة الشائعة والهامة رأينا كتابة المقال الراهن

خطأ الاختزال

أحد الأخطاء الشائعة عن المحافظين الجدد هو اختزالهم في مجموعة صغيرة من السياسيين المحيطين بإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش من أمثال بول ولفويتز وجون بولتون ودوجلاس فايث وإليوت إبرامز وريتشارد بيرل، والكتاب والمثقفين المعروفين المعبرين عن التيار من أمثال ويليام كريستول وتشارلز كروثهمر وماكس بوت

ويترتب على الاعتقاد الاختزالي السابق تصور البعض أن باستقالة أو إقالة هؤلاء الأشخاص تكون الإدارة الأميركية وسياسة أميركا الخارجية قد تخلصت من نفوذ المحافظين الجدد وصقور واشنطن، ومن ثم الاعتقاد بأن الإدارة الأميركية اقتربت في الوقت الحالي من التخلص من نفوذ المحافظين الجدد بشكل كلي بعد أن تخلصت بالفعل من عدد كبير من أهم رموز المحافظين الجدد خلال العامين الماضيين، حيث استقال بول ولفويتز من منصب نائب وزير الدفاع الأميركي ليصبح رئيسا للبنك الدولي، كما استقال دوجلاس فايث من منصبة كمدير للسياسات بوزارة الدفاع في أغسطس 2005، واستقال لويس ليبي كبير موظفي مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في أكتوبر 2005 بعد توجيه تهم إليه في قضية تسريب اسم إحدى عميلات الاستخبارات الأميركية، هذا إضافة إلى ريتشارد بيرل الذي استقال من مجلس سياسات الدفاع الإستشاري التابع لوزارة الدفاع خلال إدارة بوش الأولى

ويعيب الاعتقاد السابق تحديان، أولهما أن بعض أهم رموز المحافظين الجدد مازالوا باقيين في الإدارة الأميركية من أمثال جون بولتون سفير أميركا لدى الأمم المتحدة، وإليوت إبرامز نائب مستشار الأمن القومي الأميركي والمسئول عن الدفع بأجندة بوش لنشر الديمقراطية بالشرق الأوسط

وثانيهما وهو الأهم هو أن المحافظين الجدد ليسوا ساسة فقط فخطورتهم تكمن في أنهم كتاب ومفكرين ومثقفين أصحاب فكر متجدد وقدرة لا تنتهي على الجدل، وهذا يعني أن نفوذ المحافظين الجدد صعب التحجيم، فالأفكار لا تقال أو تستقيل، وخلال السنوات الأخيرة ساند المحافظون الجدد بقوة عددا من الأفكار التي اكتسبت رواجا واسعا في واشنطن وعلى رأس هذه الأفكار الإيمان بأن أمام أميركا فرصة غير مسبوقة لإعادة صياغة النظام العالمي نابعة من حالة الفراغ التي يعشها النظام العالمي الراهن بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وهو فراغ يجب أن تملئه أميركا – كما ينادي المحافظون الجدد - انطلاقا من الهوية الأميركية ذاتها التي تؤمن بأن الأميركيين شعب خير ديمقراطي غير استعماري يريد مساعدة العالم القديم على اللحاق بالعالم الجديد المتقدم والذي تمثله أميركا

كما يؤمن المحافظون الجدد بأن الخطر الأساسي الذي يهدد أميركا حاليا هو خطر الإرهاب الذي تقوم به جماعات مسلمة بالأساس، والتي يختلف المحافظون الجدد على تسميتها، ولكنهم يتفقون على أن العالم الإسلامي عموما والشرق الأوسط خصوصا هما نقطة انطلاق أميركا في سياستها لإعادة بناء النظام العالمي الراهن، وكان المحافظون الجدد يؤمنون في الماضي بأنهم قادرون على التدخل العسكري لإعادة بناء الدول كالعراق وأفغانستان وجعلها نموذجا لقدرة أميركا على التدخل وإعادة البناء ومساعدة الأصدقاء والتغيير، وبالطبع أثبتت العراق فشل الفكرة السابقة، كما أثبتت أن المحافظين الجدد مغرورون ومثاليون وغير قادرين على فهم حدود القوة الأميركية

إدراك الأميركيين لأخطاء المحافظين الجدد وإفراطهم لا يعني تخلص واشنطن من جميع أفكار المحافظين الجدد خاصة فيما يتعلق بالاعتقاد في دور أمريكا الدولي المدفوع برسالة أميركا القدرية، وكذلك فيما يتعلق بالتركيز المبالغ فيه على العالم الإسلامي، وسبب ذلك هو أن ترويج المحافظين الجدد للفكرتين السابقتين تزامن مع إيمان جماعات أميركية أخرى عديدة بنفس الأفكار مثل المسيحيين المتدينين ولوبي إسرائيل بل وبعض الليبراليين الأميركيين فالنزعة التدخلية في السياسية الخارجية الأمريكية والتركيز الأميركي على العالم الإسلامي لهما جذورا عديدة بنى عليها المحافظون الجدد تصورات جديدة تناسب عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ولم يبتدعوها

خطأ التضخيم

ويقودنا هذا إلى الحديث عن الخطأ التحليلي الرئيسي الثاني الذي يرتكبه بعض المعنيين بحاضر ومستقبل المحافظين الجدد، وهو الخطأ المتعلق بإغفال التحالف السياسي الذي اعتمد عليه المحافظون الجدد في الوصول إلى السلطة، والكل يعلم هنا أن المحافظين الجدد هم تيار فكري سياسي لا يمتلك قواعد جماهيرية انتخابية حقيقية مثل الجماعات المكونة لقوى المحافظين والجمهوريين في أميركا، وهذا يعني أن المحافظين الجدد اعتمدوا على قوى أخرى ذات قواعد جماهيرية انتخابية قبلت بأفكارهم لأسباب مختلفة وأعطتهم تفويضا للعمل باسمها على ساحة سياسة الجمهوريين الخارجية خلال السنوات الستة الأخيرة

ومن المعروف أن الجمهوريين حكموا أميركا خلال السنوات الأخيرة معتمدين على تحالف واسع من القوى السياسية اليمينية مثل الناخبين الإنجليكيين وأثرياء الجنوب الأميركي وقوى المحافظين التقليديين بولايات الجنوب والغرب الأميركي وأخيرا المحافظين الجدد

وبالطبع لم يكن المحافظون الجدد ليسيطروا على مقاليد صنع السياسة بأميركا دون موافقة ضمنية من هؤلاء، وهنا يلاحظ أن تلك القوى تمتلك أحيانا بعض الأفكار الأكثر تشددا من المحافظين الجدد على ساحة السياسة الخارجية الأميركية، فعلى سبيل المثال ينطلق المسيحيون المتدينون في رؤيتهم للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط والعالم من منطلقات دينية خطيرة تؤمن بأن العالم وأميركا يسيران بسرعة إلى نقطة هاوية صدامية تمثل نهاية العالم من خلال حرب تأتي على الأخضر واليابس ويكون مركزها الشرق الأوسط ويقودها العالم كله ضد أميركا وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل، وبالطبع لا يثق الإنجليكيون في المنظمات الدولية ولا يؤمنون بقضايا مثل الحد من التسلح أو تخفيض النفقات العسكرية الأميركية، فأميركا بالنسبة لهم تستعد لحرب قادمة طاحنة لا راد لها

أما النخب الأميركية المحافظة التقليدية فهي انعزالية بطبيعتها لا تثق في المنظمات الدولية أو في العالم الخارجي ولا تؤمن إلا بالقوة الأميريكية وزيادتها المستمرة وبناء المزيد منها، وإن كانت تلك القوى أقل نزعة لإتباع سياسة خارجية تدخلية أو للدخول في مغامرات عسكرية غير مقبولة، فنظرة تلك الجماعات التشاؤمية ضد كل ما هو أجني خارجي تجعل المغامرات الدولية بالنسبة لها أمرا غير ضروريا لا يستحق التضحية من أجله

لذا عارض بعض المحافظين التقليديين سياسة المحافظين الجدد التدخلية، ولكن بشكل عام لم تكن معارضة المحافظين التقليديين لسياسة المحافظين الجدد كافية خاصة في ظل تأييد المحافظين المتدينين لتلك السياسة وفي ظل طبيعة اليمين الأمريكي الغالبة والتي لا تميل للثقة في المنظمات الدولية أو في العالم الخارجي، وبدون تلك المشاعر والنزعات القوية الراسخة لم يكن المحافظين الجدد ليتمكنوا لفعل ما فعلوه، كما يمثل بقاء تلك المشاعر والنزعات ضمانة لا يستهان بها لاستمرار سياسات وأفكار المحافظين الجدد حتى بعد زوالهم وهو ما يجعلنا أقل إيمانا بمقولة "نهاية نفوذ المحافظين الجدد"

الفارق بين المحافظين الجدد وصقور واشنطن

أما السبب الرئيسي الثالث لاعتقادنا ببقاء المحافظين الجدد فهو إيماننا بخطأ الخلط بين المحافظين الجدد وصقور واشنطن، وهنا يلاحظ أن بعض التحليلات تستخدم مصطلح الصقور للإشارة لبعض الشخصيات المتشددة بإدارتي الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الأولى والثانية وعلى رأسها ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي المستقيل بالإضافة إلى رموز المحافظين الجدد مثل ولفويتز وفايث وليبي وإبرامز وغيرهم

والمعروف أن تشيني ورامسفيلد أكثر تأثيرا بدرجة كبيرة من أهم رموز المحافظين الجدد، فكتاب مثل كتاب بوب ودوارد الأخير "حالة إنكار" يركز بالأساس على رامسفيلد ومن خلفه تشيني كأكبر المسئولين عن أزمة أميركا في العراق ويكاد لا يتناول المحافظين الجدد إلا عابرا

أضف إلى ذلك أن صفة الصقور بما تعنيه من تشدد وتعنت ولي عنق الحقائق من أجل الإيدلوجيا والميل للنزعة التدخلية العسكرية في السياسة الخارجية الأميركية هي صفة يصعب قصرها على المحافظين الجدد أو على تشيني ورامسفيلد وحدهم فهي صفة يمكن أن تشمل العديدين بما في ذلك بعض قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونجرس وعدد ليس بقليل من خبراء واشنطن

وقد يعود ذلك إلى عدة أسباب على رأسها اعتقاد بعض المحليين أن القوي السياسية الأميركية مالت بشكل عام خلال السنوات الأخيرة لتبني أجندات سياسية متشددة على ساحة السياسة الخارجية ولتبني سياسة أميركية داخلية أقل ليبرالية وذلك سعيا من جانب تلك القوى لاجتذاب مزيد من أصوات الجماعات اليمينية الأميركية المتدينة والتي صعدت بقوة في السياسة الأميركية منذ السبعينات وباتوا يمثلون قوة لا يستهان بها في الساسة الأميركية، هذا إضافة إلى تأثير الفترة التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتأثير عوامل أخرى كزيادة الفجوة بين الأثرياء والأغنياء في أميركا وثورة المحافظين الأميركيين على ميراث ثورة الحقوق المدنية على المستويات الحقوقية والاقتصادية وهي عوامل دفعت مجتمعة السياسة الأميركية نحو اليمين وفرضت على السياسيين الأمريكيين اتخاذ سياسات متشددة تجاه الخارج الدولي والداخل الأجنبي تحت ضغوط الظروف والجماعات المتشددة

وهنا يلاحظ أن بعض قيادات الديمقراطيين بالكونجرس كانت تلجأ أحيانا – خلال السنوات الست الأخيرة - للمزايدة على مواقف الجمهوريين المتشددة تجاه قضايا الشرق الأوسط وعلى رأسها الصراع العربي الإسرائيلي للظهور في صورة الحزب الأكثر صرامة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية

أضف إلى ذلك العامل المتعلق بدور اللوبيات وعلى رأسها اللوبي الموالي لإسرائيل وتأثيرها على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وهنا يلاحظ أن لوبي إسرائيل بمؤسساته وقياداته المختلفة أكثر استمرارا من المحافظين الجدد كما أنه قد يفوقهم أيضا من حيث التنظيم المؤسسي والانتشار في مؤسسات صنع السياسة الخارجية الأميركية المختلفة

كما يشير بعض المفكرين الأميركيين الليبراليين من أمثال نعوم تشومسكي أن السياسة الأميركية ذاتها بطبيعتها البرجماتية الراسخة ومصالحها المتعددة تقف عائقا هاما أمام التخلص من النزعة الصقورية بالسياسة الأمريكية حيث يرى هؤلاء أن السياسة الأميركية كانت دوما مدفوعة برغبة النخب الأميركية المسيطرة في الوصول إلى منابع ثروات العالم وأسواقه بشكل مضمون ومستقر حتى ولو أدى ذلك لأن تتبنى أمريكا سياسة قصيرة النظر تستخدم القيم كحقوق الإنسان والديمقراطية استخداما برجماتيا محدودا لا يضر بمصالحها المادية بعيدة المدى

-----

مقالات ذات صلة

المال وعدم المساواة والانتخابات وأزمة الديمقراطية الأميركية

أين أخطأ اليمين الأميركي؟


Monday, November 13, 2006

المال وعدم المساواة والانتخابات وأزمة الديمقراطية الأميركية



مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
جريدة الإتحاد، 13 نوفمبر 2006

نص المقال

يشتكى المفكر الليبرالي الأميركي المعروف نعوم تشومسكي في الفصل الأخير من أحدث كتبه "دول فاشلة" الصادر في العام الحالي من وصول شعور المواطن الأمريكي بالضعف وبعدم القدرة على التأثير على مخرجات النظام السياسي الأميركي لمستويات مقلقة

وسبب ذلك – كما يرى تشومسكي – هو تحول الدولة الأميركية إلى أداة في أيدى أصحاب المال والشركات والأثرياء لتحقيق مصالحهم على حساب إخضاع وتقييد مصالح الفئات الفقيرة والأقل نفوذا كالفقراء والنساء والشباب والأقليات، ويرى تشومسكي أن استخدام الدولة كأداة في يد النخب القوية لتحقيق مصالحها وحمايتها من الأغلبية الفقيرة ليس أمرا جديدا، ولكنه أمر تم إحياءه في ستينيات القرن الماضي حينما شعرت النخب الأميركية بمرور أميركا بحالة "إفراط ديمقراطي" أدت إلى صعود فئات "سلبية ومهمشة اعتياديا" مثل "النساء والشباب وكبار السن والعمال والأقليات"، ولعلاج هذه "أزمة الإفراط الديمقراطي" اتخذت النخب الثرية عددا من الإجراءات الفورية مثل زيادة أنشطة اللوبي والضغط السياسي نيابة عن الشركات ورجال الأعمال والأثرياء، وزيادة الدعم المالي لمراكز الأبحاث اليمينية، والتحالف مع الجماعات الجماهيرية المتدينة والتي سيطرت تدريجيا على القواعد الجماهيرية للحزب الجمهوري

ويقول تشومسكي أن التحركات السابقة تمكنت تدريجيا من إجهاض ثمار ثورة الحقوق والحريات وعلى رأسها تقليل الفجوة بين الأثرياء والأغنياء، ففي الفترة من 1983 إلى 1998 ارتفع متوسط ثروة أغني 1% من الأميركيين بنسبة 42% في حين تراجعت ثروة أفقر 40% من الشعب الأمريكي بنسبة 76% خلال الفترة ذاتها، في الوقت الذي تضاعفت فيه نفقات الأثرياء على أعمال الضغط السياسي واللوبي

وقاد ذلك إلى شبه الانفصال بين مطالب غالبية الشعب الأميركي وقضاياهم الحقيقية والأجندة السياسية السائدة بواشنطن لدى الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، وهنا يشير تشومسكي مستعينا باستطلاعات مختلفة إلى أن أغلبية الشعب الأميركي يفضلون خفض ميزانية الدفاع الأميركية وزيادة الإنفاق على برامج التعليم والرعاية الصحية ورعاية الفقراء، وهي قضايا تعجز نخب الحزبيين الأميركيين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي على حسمها بشكل قاطع يعكس إجماع الشعب الأميركي تجاهها

ومع استمرار هذه الظاهرة، يؤكد تشومسكي على أن المواطن الأميركي بات قليل الاهتمام بالانتخابات الأميركية وبمواقف المرشحين الحقيقية خاصة في ظل حالة التسطيح التي تدار بها الحملات الانتخابية الأميركية والتي تركز على إغراق الناخبين بالدعايات خاصة عبر التلفاز، وهي دعايات تركز في معظمها على تشويه صورة الخصوم، وتكرار بعض الأفكار السطحية الإيجابية عن المرشح الذي يمولها، لذا يشبه تشومسكي هذه الدعايات بدعاية القطاع الخاص عن السلع الاستهلاكية والتي تهدف إلى غش المستهلك ودفعه إلى الاستهلاك أكثر من تقديم معلومات صحيحة عن المنتج ومدى فائدته للمستهلك وما يعتريه من مزايا وعيوب ومدى احتاج المستهلك الحقيقي للسلعة المعلن عنها

المال وانتخابات عام 2006

في ظل إطروحات تشومسكي السابقة الهامة عقدت انتخابات عام 2006 الفيدرالية والتي حقق فيها الديمقراطيون فوزا كبير، وهو فوز يتوقع له أن يمكن الديمقراطيون من كسر قيود الاحتكار القوية التي يفرضها الجمهوريون على مقاليد صناعة القرار السياسي الأميركي خلال الفترة الحالية، ولكن يبقى السؤال حول ما إذا كان فوز الديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة سيقتصر على إحداث تغيير هامشي داخل النخب الأميركية الحاكمة بإحلال النخب الديمقراطية مكان نظيرتها الجمهورية؟ أم أنه سوف يقود إلى أكثر من ذلك وتحديدا إلى تقليل عدم المساواة وتقوية الأغلبية الفقيرة

ويدفعنا ذلك إلى تناول الدور الذي يلعبه المال في انتخابات العام الحالي بحكم أن قضية تأثير المال على الانتخابات تعد اختبارا حقيقيا لمدى نفوذ المواطن الأميركي العادي على مسار العملية الانتخابية بصفتها أحد أهم أدوات الديمقراطية الأميركية

وبهذا الخصوص تشير أحدث إحصاءات مركز "سنتر فور بابليك إنتجريتي" - وهو مركز أبحاث أميركي مستقل معني بتتبع تأثير المال والتبرعات السياسية على سير العملية الانتخابية الأميركية - إلى أن حجم التبرعات التي جمعها المرشحون السياسيون المتنافسون على الفوز في الانتخابات الفيدرالية المنصرفة تقدر بحوالي 2.6 بليون دولار مقارنة بـ 2.2 بليون دولار هي تكلفة انتخابات عام 2002 الفيدرالية النصفية وهو ما يعادل زيادة قدرها 18%، وهو أيضا أمر يشير إلى الارتفاع المستمر في تكلفة الانتخابات الفيدرالية الأميركية واعتماد المرشحين المستمر على المال وهو اعتماد يقفز لمستويات عالية في مواسم الانتخابات الرئاسية بسبب ارتفاع تكاليف حملات الرئاسة الأميركية ذاتها ففي عام 2004 وصلت تكاليف الانتخابات الفيدرالية إلى 4.2 بليون دولار أميركي

وتشير إحصاءات المركز السابق إلى أن كل مرشح بانتخابات مجلس النواب جمع في المتوسط حوالي 800 ألف دولار أميركي استعدادا للانتخابات في حين جمع كل مرشح بانتخابات مجلس الشيوخ 4.9 مليون دولار أميركي في المتوسط، وهي بدون شك كميات كبيرة من تبرعات كبيرة تزيد في حالة كون المرشح هو من أعضاء الكونجرس الحاليين حيث جمع كل عضو من أعضاء مجلس النواب الذي ينافسون في الانتخابات الحالية تبرعات تقدر 1.1 مليون دولار في المتوسط، أما نصيب أعضاء مجلس الشيوخ الذين يخوضون الانتخابات حاليا من التبرعات فيقدر بـ 10 مليون دولار أميركي

وتشير الإحصاءات السابقة إلى أن أعضاء الكونجرس الحاليين أكثر قدرة على جمع التبرعات مقارنة بمنافسيهم الجدد وأن جماعات الضغط تفضل مساندة أعضاء الكونجرس الحاليين وبناء علاقات بعيدة المدى معهم مما يؤدى إلى إضعاف شديد لحالة الحراك السياسي الأميركي، فوصول سياسي ما للكونجرس الأميركي يضمن له الحصول على دعم شركات اللوبي والعلاقات العامة والمتبرعين الأثرياء بما يضمن له الاستمرار لسنوات عديدة في الكونجرس

وفيما يتعلق بمصدر التبرعات تشير الإحصاءات إلى أن عدد من يتبرعون بمبلغ 200 دولار أو أكثر في الانتخابات - وهو مبلغ ضئيل جدا يمثل الحد الأدنى للتبرعات السياسية الواجب تسجيلها قانونيا - هي 620 ألف مواطن أميركي أو ما يعادل 0.21% من المواطنين الأميركيين فقط، وهذا يعني أن العملية الانتخابية بالولايات المتحدة تعتمد على تبرعات أقل من ربع الواحد من المائة من المواطنين الأميركيين، أما الغالبية العظمي من الشعب الأميركي ونسبتها 99.75% فتأثيرها المالي على الانتخابات محدود للغاية ويكاد يكون منعدما

أما أهم المصادر الجغرافية للتبرعات السياسية فهي مراكز المال والاقتصاد بنيويورك وتجمعات جماعات اللوبي والمصالح بالعاصمة الأميركية واشنطن وهما معا يشكلان أهم عشرة أرقام بريدية على مستوى الولايات المتحدة من حيث حجم التبرعات السياسية التي ترد منها

أسباب أخرى لعدم المساواة

المشكلة هنا أن مشكلة عدم المساواة التي تعاني منها الديمقراطية الأميركية تتخطى قضية المال وحدها ودوره في التأثير على الانتخابات فهي قضية متشعبة ذات جذور متشعبة، وهنا يجب الإشارة إلى نتائج تقرير صدر في عام 2004 عن لجنة عمل شكلتها الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية في عام 2001 لدراسة ظاهرة "عدم المساواة والديمقراطية الأمريكية"، وقد خرجت اللجنة في عام 2004 بتقرير يسعى لتقييم حالة الديمقراطية الأمريكية في أوائل القرن العشرين وأهم التحديات التي تواجهها، وعلى رأسها ما يلي

أشار التقرير إلى أن الشعب الأميركي أكثر قبولا بعدم المساواة بسبب إيمانه القوي بالثقافة الرأسمالية والتي تنادي بوجود فوارق طبيعية بين الأفراد تقود إلى تفاوت في الثروات، ولكن الشعب الأميركي يرفض عدم المساواة الناجمة عن التمييز

الفجوة المتزايدة بين الفقراء والأغنياء في أميركا تنعكس بشكل واضح على مظاهر المشاركة السياسية وعلى رأسها التصويت في الانتخابات، حيث تقتصر نسبة المشاركة في انتخابات الكونجرس على ثلث الناخبين المسجلين في قوائم الاقتراع الأمريكية، وهي نسبة ترتفع في انتخابات الرئاسة الأميركية لنصف الناخبين المسجلين فقط

أغنياء أميركا ليسوا أكثر نشاطا من فقرائها في مجال التصويت فقط فهم أكثر منهم مشاركة في العمل بالحملات الانتخابية والتبرع المالي والاتصال بالسياسيين وتنظيم المظاهرات وعضوية مجالس إدارة الهيئات المحلية وعضوية المنظمات السياسية

الفجوة في مستويات المشاركة السياسية بين الأغنياء والفقراء في أميركا في ازدياد منذ الستينات، وهي فجوة يصعب علاجها من خلال انتشار أدوات الاتصال الحديثة كالإنترنت، والذي أصبحت أداة في يد الأثرياء النشطين سياسيا لكي يزدادوا نشاطا ونفوذا مقارنة بالفقراء غير النشطين

تراجعت عضوية إتحادات العمال إلى 9% فقط من إجمالي القوى العاملة بأميركا، وفي المقابل انتشرت جماعات المصالح التي تمثل الأغنياء بشكل رهيب، وحتى جماعات المصالح التي تمثل القضايا العامة كالبيئة تزداد عزلة عن قضايا الجماهير العادية كلما ازدادت انخراطا ونفوذا سياسيا

الأحزاب السياسية الأميركية الكبرى تركز في نشاطها السياسي والانتخابي على الوصول إلى الأثرياء والحصول على دعمهم ولا تشغل نفسها كثيرا بالوصول إلى الفقراء وتنشيطهم

نتيجة لما سبق لا يسمع المسئولون الأميركيون أصوات المهاجرين والأقليات والفقراء لأنهم محاطين بالأثرياء الذين يدعمونهم ويمتلكون جماعات مصالح عالية الصوت

لكي يحصل السياسيون الأميركيون على مزيد من الدعم من النخب الثرية باتوا يركزون في سياستهم على تزويد المناطق الثرية بمزيد من الخدمات والمزايا، حتى أن إعادة رسم الدوائر الانتخابية باتت تتم بشكل أكثر تكرارا لضمان حصول أعضاء حزب الأغلبية على دوائر أكثر ثراءا وأكثر مساندة لهم، وبهذا أصبح السياسيون الأميركيون هم من يختارون الناخبين وليس العكس - كما يشير التقرير

سياسات الحكومة الأميركية قد لا تصب مباشرة في مصالح الأثرياء بقدر ما تحجم عن رعاية برامج ومصالح وأجندة الفقراء مثل قضايا التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وهي قضايا لا نشغل النخب الثرية لذا تهملها الحكومة مما يزيد من شعور الفقراء بالعزلة وعدم الرغبة في المشاركة السياسية


انتخابات 2006 والديمقراطية الأميركية

الأسباب السابقة مجتمعة توضح لنا أن الشعب الأميركي والديمقراطية الأميركية ومستقبل الولايات المتحدة في حاجة إلى وقفة أكبر مع الذات الأميركية، وقفة لمراجعة حالة الديمقراطية الأميركية وإيجاد حلول عاجلة لأزمة الطبقات الفقيرة والمتوسطة ومخاطبة برامجها بجدية وبشكل يشعرها بالثقة في النظام السياسي الأميركي ويشجعها على المشاركة الواعية النشطة من جديد

------

مقالات ذات صلة

أين أخطأ اليمين الأميركي؟

مهمة الديمقراطيين الصعبة في الانتخابات الأميركية الراهنة

عدم المساواة والديمقراطية الأمريكية

Wednesday, November 08, 2006

أسباب ودلالات تحول المسلمين الأمريكيين نحو اليسار والحزب الديمقراطي


بقلم: علاء بيومي

الناشر:
جريدة الرياض، 8 نوفمبر 2006

نص المقال

ظاهرة تحول المسلمين الأمريكيين نحو اليسار باتت ظاهرة واضحة للعيان بعد ان اظهر احدث استطلاع لآراء الناخبين المسلمين الأمريكيين - والذي اجراه مجلس العلاقات الاسلامية الأمريكية (كير) في شهر اغسطس الماضي - ان 42% من الناخبين المسلمين الأمريكيين يساندون الحزب الديمقراطي في مقابل 17% فقط من المسلمين الأمريكيين الذين عبروا عن مساندتهم للحزب الجمهوري

وكان استطلاع اجراه مركز ابحاث أمريكي مسلم تابع لجامعة جورج تاون الأمريكية قبيل انتخابات عام 2004 الأمريكية الرئاسية قد اظهر ان 50% من المسلمين الأمريكيين يميلون نحو الحزب الجمهوري في مقابل شعور 12% فقط من المسلمين الأمريكيين بالانتماء للحزب الجمهوري

تحول المسلمين الأمريكيين نحو اليسار يبدو جديداً ومثيراً لسببين رئيسيين على الاقل أولهما كون المسلمين الأمريكيين يميلون للمحافظة على الجانبين الاجتماعي والاخلاقي مما يجعلهم اكثر ميلاً لمساندة اجندة اليمين الأمريكي المحافظة اخلاقياً، أما السبب الثاني فهو مساندة اول كتلة انتخابية مسلمة أمريكية للمرشح الجمهوري للرئاسة جورج دبليو بوش في انتخابات عام 2000

مساندة المسلمين الأمريكيين لبوش في عام 2000 وتحولهم نحو اليسار مؤخراً هي مفارقة تدفع البعض الى التساؤل حول ماذا كان تحول المسلمين نحو اليسار هو رد فعل على سياسات الادارة الأمريكية تجاههم خاصة وان استطلاعات آراء المسلمين الأمريكيين تؤكد انهم يعارضون حرب العراق وسياسة الادارة الأمريكية تجاه الشرق الاوسط ويشعرون بالاستياء تجاه اوضاع الحقوق والحريات المدنية خلال الفترة الحالية وتجاه موقف الادارة الأمريكية تجاه تلك القضايا

في المقابل يمكن القول ان تحول المسلمين الأمريكيين نحو اليسار لا يبدو غريباً او مستحدثاً للأسباب التالية

أولاً: استطلاع كير اظهر ان مسلمي أمريكا يميلون نحو اليسار كحركة سياسية ايدلوجية اكثر من ميلهم نحو الحزب الديمقراطي كمؤسسة تعبر عن هذا التوجه، فعندما سأل الاستطلاع المشاركين فيه عن انتمائهم الحزبي ذكر 42% من الناخبين المسلمين الأمريكيين انهم ديمقراطيون، في المقابل ذكر 17% انهم جمهوريون، في حين فضل 28% من الناخبين المسلمين الأمريكيين الحياد ولكن عندما سأل الاستطلاع نفسه الناخبين المسلمين حول الحزب الاكثر استجابة لقضايا المسلمين ومصالحهم، عبر 38% من الناخبين عن اعتقادهم بأنه الحزب الديمقراطي هو الاكثر استجابة لمصالح المسلمين، في حين رأى 12% ان الحزب الجمهوري هو الاكثر استجابة، وفضل 28% من الناخبين المسلمين الحياد مرة اخرى

هذا يعني أن المسلمين الأمريكيين لا يعولون آمالاً كبيرة على أي من الحزبين الرئيسيين او على امكانية ان تغير الاحزاب الأمريكية الكبرى الاوضاع الحالية، وهو شعور يعكس شعور فئات واسعة من الشعب الأمريكي والتي باتت ترى ان النظام السياسي الأمريكي يعكس مصالح وقضايا اقليات نخبوية اكثر من مصالح الاغلبية الشعبية

ثانيا: الأسباب السابقة توضح ان مساندة المسلمين الأمريكيين لليسار هي مساندة للتحالفات والحركات السياسية المشكلة لتحالف اليسار الليبرالي بالولايات المتحدة اكثر من كونها مساندة للحزب الديمقراطي نفسه وقياداته ومؤسساته الداخلية

ويبرر ذلك موقف عدد متنام من الجماعات اليسارية الأمريكية التي وقفت مواقف ايجابية مساندة للمسلمين الأمريكيين خلال السنوات الأخيرة وعلى رأس تلك الجماعات اكبر منظمات الحقوق والحريات المدنية الأمريكية، ومنظمات العدالة والسلام الدولية، والكنائس والجماعات الدينية الليبرالية، والأقليات، وتشكل الجماعات السابقة معا القواعد الجماهيرية لتحالف اليسار الأمريكي وهي قواعد ابقى وأهم من بنية الحزب الديمقراطي ذاته، فهي قواعد جماهيرية حقيقية تعبر عن نبض فئات جماهيرية هامة بالمجتمع الأمريكي

ثالثا: في المقابل عانى المسلمون الأمريكيون كثيرا خلال السنوات الأخيرة من التحالفات المكونة للتيار اليميني المحافظ وعلى رأسها بعض قيادات التيار الإنجليكي التي افرطت في الإساءة الى الإسلام، وكتاب المحافظين الجدد الذين افرطوا في دق طبول الحرب الموجهة تجاه العالم الإسلامي ولصق مصطلح العداء بجماعات ومفاهيم اسلامية مختلفة، هذا اضافة الى بعض الفئات المحافظة ذات الأجندات العنصرية والرافضة للأجانب والتي تشددت في رفض الأجانب والآخر

في المقابل موقف قيادات الحزب الجمهوري بالإدارة الأمريكية والكونجرس في اغلب الأحيان موقفا صامتا تجاه تلك الجماعات وتجاه اساءاتها وهجماتها المتكررة على الإسلام والمسلمين، وهو موقف لم تختلف عنه كثيرا قيادات الحزب الديمقراطي، ولكن يمكن القول ان الحزب الديمقراطي ضم بين فئاته القيادية - وخاصة في الكونجرس - ولو على مستويات اقل نفوذا - عددا اكبر من المسؤولين الذين عبروا عن مساندتهم لمسلمي امريكا في مناسبات مختلفة

رابعا: وبالطبع لا يجب اغفال التأثير الذي تركته بعض سياسات الإدارة الأمريكية الحالية خاصة على صعيد الحقوق والحريات المدنية وحرب العراق

وقد تشرح الظواهر السابقة مجتمعة اسباب ميل المسلمين الأمريكيين المتزايد نحو اليسار، وهو تحول هام سوف تكون له انعكاساته العميقة في المستقبل على مستويين اساسيين، اولهما داخلي يتعلق بالمسلمين الأمريكيين، وذلك لأن علاقة المسلمين الأمريكيين المتنامية مع قوى اليسار الأمريكي سوف تدفع مسلمي امريكا ومنظماتهم تدريجيا لتبني قضايا تلك الجماعات على مستوى الحقوق المدنية وحقوق الانسان والمهاجرين وحقوق العمال والفقراء وقضايا البيئة، وهي قضايا سوف تمثل اضافة هامة لأجندة مسلمي امريكا وقد تترك بصمات هامة على فهم المسلمين الأمريكيين لهويتهم كجماعة امريكية وعلى القيم المختلفة التي تسود الحياة المسلمة الأمريكية

ثانيا: بالنسبة لجماعات اليسار الأمريكي فسوف تشكل علاقاتها القوية مع المسلمين الأمريكيين اختبارا صعبا لموقف تلك الجماعات من قضايا الحريات والتعددية والتنوع في سياق علاقة الغرب بالإسلام والمسلمين، وبدون شك سوف تخضع جماعات اليسار المختلفة لضغوط متزايدة من قبل قوى اليمين الأمريكي والغربي الرافضة لنمو الأقليات المسلمة بالغرب، حيث ترى بعض الجماعات الغربية اليمينية الراديكالية ان المسلمين مختلفين بدرجة تحتم استثنائهم من قيم التعددية والمساواة الغربية، وتتهم تلك الجماعات قوى اليسار بارتكاب خطأ تاريخي في الانفتاح على الأقليات المسلمة، وهي اتهامات يتوقع لها الزيادة في الفترة الحالية وفي المستقبل المنظور

الأسباب والدلالات السابقة مجتمعة تعطي ظاهرة توجه المسلمين الأمريكيين المتزايد نحو اليسار اهمية خاصة وتجعلها امرا يستحق الانتباه والمتابعة خلال وبعد موسم الانتخابات الأمريكية الراهنة، فعلاقة المسلمين الأمريكيين المتزايدة بقوى ومنظمات اليسار الأمريكي هي احدى اهم الخبرات الجوهرية التي يمرون بها كأقلية مسلمة بدولة غربية رئيسية خلال المرحلة التاريخية الراهنة

-----

مقالات ذات صلة

Tuesday, November 07, 2006

مسلمو أميركا والانتخابات: 2006
مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
إسلام أون لاين، 7 نوفمبر 2006

نص المقال

يهدف المقال الراهن إلى تسجيل بعض أهم الظواهر المرتبطة بمشاركة المسلمين الأميركيين في فعاليات موسم الانتخابات الأميركية الراهنة والمزمع عقدها في السابع من نوفمبر الحالي، وعلى رأس تلك الظواهر روح النشاط والتعبئة التي دبت في أوساط المسلمين الأميركيين قبيل الانتخابات والتي رصدتها وسائل إعلامية أميركية مختلفة، وإمكانية أن تسفر الانتخابات عن فوز أول مسلم بعضوية الكونجرس الأميركي، وظاهرة تحول المسلمين الأميركيين نحو اليسار ونحو الحزب الديمقراطي والتي أكدتها استطلاعات حديثة لأراء الناخبين المسلمين الأميركيين، كما يسعى المقال للخروج بعدد من الدلالات المتعلقة بمستقبل المسلمين الأميركيين السياسي بناءا على مستوي نشاطهم بالانتخابات الراهنة

عودة الروح

وسائل الإعلام الأميركية التي تناولت أخبار مشاركة مسلمي أمريكا في فعاليات موسم الانتخابات الفيدرالية الحالي أجمعت على روح النشاط والتعبئة السياسية التي بثتها الانتخابات في صفوف المسلمين الأمريكيين، حيث أشار تقرير لوكالة ريليجيوس نيوز سيرفيس نشر مؤخرا إلى توقع مراقبين بأن يقوم المسلمون الأمريكيون بالتصويت "بأعداد كبيرة غير معتادة هذا العام"، كما نشرت جريدة ستار تلغرام (الصادرة بولاية تكساس) مقالا بعنوان "الناخبون المسلمون قد يغيرون دفة الانتخابات المتقاربة" في إشارة إلى تنامي أعداد الناخبين المسلمين الأميركيين وقدرتهم على التأثير على نتائج بعض المعارك الانتخابية المتقاربة، أما جريدة واشنطن تايمز – المعروفة بتوجهها اليميني المحافظ - فقد نشرت مقالا يقول في مقدمته أن "الناخبين المسلمين الأمريكيين يمثلون كتلة انتخابية شابة ومتعلمة وثرية وتميل نحو الديمقراطيين في نوفمبر المقبل"، وذلك في معرض تغطية الجريدة لنتائج استطلاع علمي صدر حديثا عن منظمة مسلمة أميركية – وهي مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) – حول توجهات الناخبين المسلمين الأميركيين

وسائل الإعلام الأميركية التي غطت استعدادات مسلمي أميركا للانتخابات رصدت بعض أسباب روح النشاط والتعبئة السياسية التي دبت في أوساط مسلمي أميركا ومنظماتهم قبيل الانتخابات، وعلى رأس تلك الأسباب ما يلي

عدم رضا فئات واسعة من المسلمين الأميركيين على سياسات الإدارة الأميركية الراهنة بخصوص عدد من القضايا التي تهمهم وعلى رأسها قضايا الحقوق والحريات المدنية وسياسة أميركا الخارجية تجاه الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بشكل عام

تأثر المسلمين الأميركيين بحالة التعبئة العامة داخل المجتمع الأميركي استعدادا للانتخابات المقبلة والتي ترتبط بقضايا هامة وعلى رأسها حرب العراق وسياسات الإدارة الأميركية وقيادات الجمهوريين بالكونجرس، هذا إضافة إلى توقع البعض أن يتمكن الحزب الديمقراطي من إنهاء سيطرة الجمهوريين على الكونجرس أو أحد مجلسيه خلال الانتخابات الراهنة مما يعطيها أهمية تاريخية خاصة ويزيدها إثارة سياسية

أشارت وسائل الإعلام لجهود مختلفة تقوم بها منظمات مسلمة أميركية قديمة معروفة وأخرى جديدة غير معروفة لتسجيل الناخبين وتوعيتهم سياسيا وتشجيعهم على الانتخابات، ويلاحظ هنا انتشار هذه المنظمات ونموها بشكل مستمر يصعب معه تتبعها وإحصاءها

ينشط المسلمون الأميركيون ببعض الدوائر التي ينافس فيها سياسيون معروفون بتصريحاتهم ومواقفهم المعادية للمسلمين، كما هو الحال بالدائرة الثالثة بولاية نيويورك حيث يعمل بعض الناخبون المسلمون على إسقاط النائب بيتر كينج الذي ادعى في تصريحات سابقة متكررة أن غالبية مساجد أميركا يديرها "متشددون"

ذكرت مؤسسة مسلمة أميركية وهي الاتحاد المسلم الأميركي (AMA) أن هناك 35 مرشحا مسلما ينافسون في الانتخابات الراهنة على مناصب مختلفة مما يمثل سببا إضافيا لتعبئة المسلمين الأمريكيين خلال موسم الانتخابات الحالي

أشارت تقارير أخرى لنشاط المسلمين الأميركيين في مجال التبرع لمرشحيهم المفضلين، ويظهر هنا أهمية وجود منظمات مسلمة تعمل على رصد تلك التبرعات والتي تذهب غالبيتها بشكل مباشر للمرشحين دون رصدها من قبل المؤسسات المعنية

أول عضو مسلم بالكونجرس

إضافة إلى الأسباب السابقة أبرزت وسائل الإعلام الأميركية سببا إضافيا من نوع خاص لنشاط المسلمين السياسي خلال موسم الانتخابات الحالي، وهو يتعلق بإمكانية أن تسفر الانتخابات الراهنة عن فوز أول مسلم بعضوية مجلس النواب الأميركي

السياسي المرشح لذلك هو كيث أليسون مرشح الحزب الديمقراطي لعضوية مجلس النواب الأميركي عن الدائرة الخامسة بولاية مينيسوتا، وقد ولد أليسون في الرابع من أغسطس 1963 في مدينة ديترويت بولاية مشيجان لعائلة أفريقية أميركية نشطة في حركة الحقوق والحريات المدنية، واعتنق أليسون الإسلام خلال دراسته الجامعية وهو في التاسعة عشر من عمره، وفي عام 1987 انتقل أليسون إلى ولاية مينيسوتا لدراسة القانون بإحدى جامعاتها حيث تخرج في عام 1990 وتوجه بعد ذلك إلى مزاولة المحاماة حتى تم انتخابه في عام 2002 لعضوية مجلس نواب ولاية مينيسوتا عن إحدى أكثر دوائر الولاية تعددية عرقية وإثنية

وخلال موسم الانتخابات الحالي خلى مقعد الدائرة الخامسة بولاية مينيسوتا، وهي دائرة معروفة بتوجهها الليبرالي، وهو توجه مكن النواب الديمقراطيون من السيطرة الكاملة على تمثيل الدائرة بمجلس النواب الأميركي منذ عام 1963، مما جعل الدائرة ذات بريق خاص في عيون السياسيين الديمقراطيين لأن فوز سياسي ديمقراطي ما بترشيح الحزب الديمقراطي بالدائرة ذات التوجه الليبرالي القوي يكاد يضمن له الفوز بالانتخابات العامة، ويكاد أيضا يضمن له الفوز في سنوات أخرى مقبلة عديدة، فالتنافس على تمثيل الدائرة هو تنافس داخل الحزب الديمقراطي بالأساس

وفي 21 سبتمبر 2006 فاز أليسون بترشيح الحزب الديمقراطي بنسبة 41% من الأصوات بعد انتصاره على ثلاثة مرشحين ديمقراطيين آخرين، حيث تميز أليسون – كما تشير تقارير صحفية – بكاريزميته وبمعرفته الجيدة بقضايا دائرته، وقد أعطى الفوز السابق دفعة قوية لكيث أليسون لكي يكون أول مرشح أفريقي أمريكي وأول مرشح مسلم يمثل الدائرة الخامسة بمينيسوتا بمجلس النواب الأميركي

ويخوض أليسون الانتخابات العامة المقرر عقدها في السابع من نوفمبر الحالي بأجندة ليبرالية تقدمية تركز على قضايا مثل زيادة ميزانية المدارس العامة وحماية الحقوق الحريات المدنية وحقوق المشردين والفقراء ورفع الحد الأدنى للأجور وحماية البيئة هذا إضافة إلى معارضته للحرب على العراق

ويواجه أليسون منافسة قوية نسبيا من مرشح جمهوري ومن مرشح أخر مستقل، وقد حاول منافسو أليسون مهاجمة خلفيته وتاريخه من خلال الربط المشوه بينه وبين جماعة "أمة الإسلام" وزعيمها لويس فرقان ومحاولة اتهام أليسون بالعداء للسامية، كما حول البعض اتهام أليسون بمساندة منظمات مسلمة أميركية متشددة وبتبني أجندة إسلامية متطرفة

وهي تهمة تعرض لها مرشح مسلم أخر لمجلس مدينة أناهيم بجنوب ولاية كاليفورنيا يدعى بلال دالاتي، حيث تعرض دالاتي وهو مرشح جمهوري لهجوم شرس من قبل زملاء له داخل الحزب الجمهوري نفسه، والذين أثاروا تساؤلات حول ولاء دالاتي ووطنيته بعد أن ساند سياسيين انتقدوا سياسات الرئيس جورج دبليو بوش بالعراق، كما انتقدوا مشاركة دالاتي في مظاهرة سلمية طالبت بوقف فوري لإطلاق النار في الهجوم الإسرائيلي على لبنان، على الرغم من مشاركة العديد من المسلمين والمسيحيين واليهود في المسيرة نفسها

وقد دافع قادة مسلمي كاليفورنيا ومنظماتهم عن دالاتي والذي أعلن مؤخرا عن تغيير توجهه الحزبي، كما دافع قادة مسلمي مينيسوتا وأمريكا عن أليسون معبرين عن دعمهم للمرشحين بناء على أجندتهما الإيجابية المدافعة حقوق المواطن الأميركي ومطالبين الناخبين الأميركيين بعدم الانزلاق وراء دعاوى العنصرية والتشويه التي يروجها بعض السياسيين لأغراض سياسية

في المقابل رأت وسائل إعلام أميركية مختلفة في معرض تغطيتها لأخبار حملة كيث أليسون ودلالات فوزه المحتمل في الانتخابات كأول عضو كونجرس مسلم أميركي إلى أن فوز أليسون سوف يترك أثار إيجابية على مسلمي أميركا فسوف يمثل نقلة نوعية كبيرة في تاريخ مشاركة مسلمي أميركا السياسية، كما سيرسل رسالة مليئة بالأمل في أوساط المسلمين الأميركيين وخاصة الشباب منهم، أما على المستوى العام فسوف يمثل فوز أليسون شهادة في حق النظام السياسي الأميركي، كما سيعجل أليسون سفيرا هاما لتقريب وجهات النظر بين صانع القرار الأميركي ورؤى ومصالح مسلمي الولايات المتحدة

خصائص الناخب المسلم الأميركي

السبب الأكثر إيجابية لزيادة نشاط المسلمين الأميركيين السياسي خلال موسم الانتخابات الجاري يرتبط بخصائص الناخبين المسلمين الأميركيين أنفسهم وهي خصائص تكشف عنها الاستطلاعات المعنية، ومن بينها استطلاع أجراه مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) في أواخر شهر أغسطس الماضي

حيث كشف استطلاع كير أن الناخبين المسلمين الأميركيين يتميزون بعدد كبير من الخصائص الإيجابية على رأسها أعمارهم الصغيرة حيث تتراوح أعمال 67% من الناخبين المسلمين الأميركيين المسجلين بالسجلات الانتخابية الأميركية بين 25-54 عاما، هذا إضافة إلى ارتفاع مستوى مسلمي أميركا التعليمي حيث يحمل 62% من الناخبين المسلمين الأميركيين شهادات جامعية على الأقل وهو ما يمثل ضعف المتوسط العام بالمجتمع الأميركي

كما يتميز الناخبون المسلمون الأميركيون برغبة قوية بالمشاركة السياسية والاندماج بالمجتمع الأميركي، حيث يصوت 89% منهم باعتياد، ويتطوع 42% منهم للمساعدة في مؤسسات المجتمع المدني الأمريكي وذلك مقارنة بنسبة 29% فقط من الأميركيين

كما أشار الاستطلاع إلى أن الناخبين المسلمين الأميركيين يتركزون في 12 ولاية رئيسية وهي ولايات كاليفورنيا (20%)، ألينيوي (8.9%)، نيويورك (8.6%)، تكساس (7%)، نيوجرسي (6.8%)، مشيجان (6.7%)، فلوريدا (6.4%)، فيرجينيا (6.3%)، ميرلاند (3.1%)، أوهايو (3%)، بنسلفانيا (2.9%)، ومينيسوتا (2.8%) مما يزيد من فرص المسلمين الأميركيين في التأثير على نتائج الانتخابات التي تدار بتلك الولايات

مستقبل المسلمين الأميركيين السياسي

أشار استطلاع كير إلى وجود توجه متزايد في أوساط مسلمي أميركا خلال الفترة الحالية لمساندة الحزب الديمقراطي (42%) مقارنة بالحزب الجمهوري (17%)، في حين عبرت نسبة لا يستهان بها من الناخبين المسلمين الأميركيين عن استقلاليتهم الحزبية (28%)

ويلاحظ هنا أن توجه المسلمين الأميركيين السياسي والأيدلوجي نحو اليسار هو في جزء منه ردا على سياسات الإدارة الأميركية الجمهورية الحالية تجاه عدد من قضاياهم وعلى رأسها قضايا الحقوق المدنية وسياسة أميركا تجاه الشرق الأوسط، كما يلاحظ أن بعض القادة المسلمين الأميركيين يفضلون النظر للناخبين المسلمين الأميركيين على أنهم ناخبين يرتبطون بقضاياهم أكثر من ارتباطهم بحزب معين مما يعطيهم حرية الحركة لمساندة تلك القضايا

في نهاية هذا المقال يجب الإشارة إلى أن المظاهر الإيجابية السابقة لنشاط مسلمي أمريكا السياسي خلال موسم الانتخابات الحالي لم تحدث في فراغ ولكنه وقعت في بيئة مليئة بالتحديات والضغوط وحملات التشويه التي استهدفت مسلمي أمريكا وصورتهم ومؤسساتهم خلال السنوات الخمس الأخيرة على أقل تقدير، ولكن على الجانب المشرق تمكن المسلمون الأمريكيون من بث روح النشاط والتعبئة السياسية في أوساطهم مرة أخرى رغم التحديات، ويعني ذلك أن مسلمي أميركا يمتلكون العديد من عناصر القوة والإرادة الداخلية وعلى رأسها أعمارهم الشابة ومستويات تعليمهم العالية وقدراتهم التنظيمية المتزايدة والتي يمكن أن تساعدهم في مسيرتهم الطويلة والصعبة فنشاط مسلمي أميركا في الانتخابات الحالية ليس إلا خطوة إيجابية على طريق طويل وشاق يتحتم عليهم قطعه

-----

مقالات ذات صلة

أين أخطأ اليمين الأميركي؟

مهمة الديمقراطيين الصعبة في الانتخابات الأميركية الراهنة

مسلمو وعرب أميركا بين تبعات 11/9 والثورة اليمينية المضادة

تحول المسلمين الأمريكيين نحو اليسار ونحو الداخل: مظاهر وأسباب

قضايا الناخب المسلم الأمريكي في انتخابات 2004

ماذا يعني فوز بوش وخسارة كيري للمسلمين الأمريكيين؟

أهداف مسلمي وعرب أمريكا من المشاركة في انتخابات 2004

الصوت المسلم الأمريكي فيما وراء تأييد كيري ومعارضة بوش

أهمية الصوت المسلم الأمريكي في انتخابات عام 2004

Monday, November 06, 2006

أين أخطأ اليمين الأميركي؟


مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر: الجزيرة نت، 6 نوفمبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

يدخل التحالف اليميني الحاكم بالولايات المتحدة بزعامة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وقيادات الجمهوريين بالإدارة الأميركية والكونجرس الانتخابات الفيدرالية المقرر عقدها في السابع من نوفمبر الحالي في وضع لا يحسد عليه، حيث تشير استطلاعات الرأي وأراء الخبراء إلى تراجع الرضا الشعبي على أداء الإدارة وعلى أداء الجمهوريين بالكونجرس سويا وسط توقعات بأن يلقى الجمهوريون في الانتخابات الحالية هزيمة ثقيلة قد تكلفهم موقع الأغلبية بأحد مجلسي الكونجرس الأميركي على أقل تقدير

مفارقة الصعود للقمة والاستعداد للهزيمة

ولا يخفى على أحد أن التحالف اليميني الأميركي والذي يتوقع له الهزيمة في الانتخابات الحالية هو نفس التحالف الذي حقق نجاحات سياسية مستمرة على الصعيد السياسي الأميركي منذ عام 1994 والذي تمكن فيه الجمهوريون من الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب الأميركي لأول مرة منذ عقود، ففي عام 2000 فاز المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش بالبيت الأبيض بعض منافسة شرسة وصعبة مع منافسه الديمقراطي آل جور، وبعد أحداث 11/9/2001 وصلت شعبية الرئيس جورج دبليو بوش لمستويات عالية مكنته من حصول على تفويض سريع من الكونجرس بشن الحرب على نظام طالبان بأفغانستان وسط مساندة أميركية داخلية ودولية خارجية عالية، كما تمكن التحالف نفسه من الفوز بانتخابات 2002 النصفية وبأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ ومن الدفع بأميركا لغزو العراق على الرغم من المعارضة الشعبية والدولية الكبيرة، وهي معارضة لم تمنع الرئيس جورج دبليو بوش من الفوز في انتخابات عام 2004 الرئاسية والتي فاز فيها الجمهوريون بانتخابات الكونجرس أيضا

النجاحات السابقة لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة لعمل شاق قام به تحالف ضخم من الجماعات اليمينية الأميركية، فعلى الصعيد الفكري والإعلامي لعب المحافظون الجدد ووسائل الإعلام اليمينية دورا يشهد له بالكفاءة في حشد دعم الرأي العام الأميركي لسياسات إدارة بوش، وعلى المستوي السياسي تمكن الجمهوريون في تعبئة قوى المسيحيين المتدينين (28 مليون ناخب) بشكل غير مسبوق، هذا إضافة إلى حصولهم على تأييد الأثرياء المستفيدين من خفض الضرائب، وعلى أييد اليمينيين التقليديين بولايات الجنوب والوسط، وعلى تأييد جماعات يمينية تقليدية مثل اليمينيين المنادين بالحد من دور الدولة وحجمها، وجماعات يمينية جديدة كبعض أبناء الأقليات الذين انضموا لخيمة الجمهوريين المتنامية متأثرين ببريق سيطرة الجمهوريين على مقاليد السلطة

حجم ما حققه الجمهوريون من نجاحات سياسية منذ عام 1994 وحتى الآن وتوقع الكثيرون بأن يلقى الجمهوريون هزيمة كبيرة في السابع من نوفمبر الحالي يمثلان معا مفارقة كبيرة تثير عدد من الأسئلة الهامة حول أسباب تراجع الجمهوريين السريع، أسئلة مثل: أين الخطأ ومن هو المسئول عنه؟ بوش؟ أم العراق؟ أم المحافظون الجدد؟ أم الإنجليكيون؟ أم كل ما سبق

نظرية العوامل الأحادية

الكتابات الأميركية لم تخل من تنبؤات عديدة ومختلفة بمستقبل الجمهوريين وهي تنبؤات زادت سلبية بعد غزو العراق والذي أحدث شرخا كبيرا في المجتمع الأميركي وفي المعسكر اليميني الحاكم على حد سواء

فعلى سبيل المثال نشر السياسي والكاتب الأميركي المعروف بات بوكانان كتابا في عام 2004 بعنوان "أين أخطأ اليمين؟ كيف أجهض المحافظون الجدد ثورة ريجان واختطفوا رئاسة بوش؟"، والمعروف أن باتت بوكانان ينتمي لتيار المحافظين التقليديين وهو تيار علماني مقارنة بالمسيحيين المتدينين كما أنه يميل للعزلة ويرفض النزعة التدخلية في السياسة الخارجية الأميركية، ويفضل في المقابل التركيز على الداخل وعلى برامج المحافظين التقليدية مثل خفض الضرائب والحد من حجم الحكومة الفيدرالية وغلق الباب أمام الأجانب

والواضح أيضا من عنوان كتاب بوكانان أنه تبنى نظرية تلقى بالجانب الأكبر من اللوم على مجموعة واحدة من الجماعات المشكلة للتحالف اليميني الحكام حاليا بأميركا آلا وهي "المحافظون الجدد" والذين أعلن بوكانان أنهم "اختطفوا رئاسة بوش" وقادوه إلى إنتاج سياسات تتنافي مع توجهات اليمينيين التقليديين الذين يمثلهم مثل التمادي في زيادة البرامج الحكومية وفي النزعة التدخلية في السياسة الخارجية

بوكانان رأي في كتابه أن المحافظين الجدد مجموعة دخيلة على اليمين الأميركي، فهم – من وجهة نظره - مجموعة من المفكرين المتمركزين في واشنطن والذين يفتقرون للقواعد الجماهيرية الحقيقية وسط الناخبين الجمهوريين

حقيقة أزمة اليمين الأميركي

نظرية بوكانان التي ألقت باللوم على المحافظين الجدد لاقت رواجا واسعا في وسائل إعلام أميركية ودولية عديدة خاصة مع زيادة المعارضة الشعبية والدولية لحرب العراق والتي رأي البعض أنها نتاج لفكر المحافظين الجدد كجماعة محددة داخل التيار اليميني الأميركي الحاكم

ولكن أصحاب النظرية السابقة عجزوا دوما على الإجابة على سؤال محوري وهو كيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على الإدارة الأميركية وعلى التيار اليميني الحاكم بهذه الدرجة خاصة وأنهم كما يدعي بوكانان تيار فكري دخيل على اليمين الأميركي يفتقر للقواعد الجماهيرية الحقيقية

والمعروف أن التحالف الأميركي الحاكم يتشكل من مجموعات عديدة أشرنا إلى أهمها في بداية هذا المقال، فكيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على كل هؤلاء

السؤال السابق يدفعنا إلى تفسيرات من نوع مختلف لأزمة اليمين الأميركي الراهنة، ومن أهم هذه التفسيرات التفسير الذي قدمه جاكوب هاكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة يال وبول بيرسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية كاليفورنيا في كتاب "بعيدا عن المركز: الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأميركية" الصادر عن مطابع جامعة يال الأميركية في عام 2005

هاكر وبيسرون يرفضان لوم جماعة أميركية معينة على أزمة اليمين أو على ما تمر به الولايات المتحدة حاليا من تحديات داخلية أو خارجية، إذ يريان أن المرض الذي أصاب اليمين الأميركي وانتقل منه إلى النظام السياسي الأميركي مرض قديم عضال يعود لتحالف النخب الثرية مع الجماعات الجماهيرية اليمينية المتشددة منذ أوائل السبعينات ضد إرث عقد الستينيات والذي شهد صعود قوة جماعات أميركية مستضعفة كالشباب والنساء والأقليات والمهاجرين

وردا على هذا الصعود تحالفت النخب الثرية مع الجماعات الدينية واليمينيين التقليديين للقيام بثورة مضادة ضد ثورة الحقوق والحريات التي وصلت لأوجها في الستينيات، وأخذ هذا التحالف من الحزب الجمهوري أداة ومنبر لتحقيق أهدافه السياسية فقام بعلمية تصفية مستمرة للقيادات الجمهورية المعتدلة وإحلالها بقيادات جمهورية جديدة متشددة تعبر عن القواعد الجماهيرية الجديدة التي اعتمد عليها هذا التحالف مثل اليمينيين المتدينين والجماعات اليمينية الرافضة لثورة الحقوق والحريات، وبعد صعود القيادات الجمهورية الجديدة تم تركيز السلطة داخل الحزب الجمهوري بأيدي تلك القيادات بما يمكنها من معاقبة ومكافئة قيادات الحزب الجمهوري وفقا لمدى التزامها بأجندة التحالف اليميني الجديد الحاكم، وبهذا امتلكت القيادات الجمهورية الجديدة سلطات غير مسبوقة دخل الحزب الجمهوري وداخل النظام السياسي الأميركي نظرا، وهي أغرت أصحابها وجعلت أخطائهم باهظة عالية التكاليف

كتاب تنبأ بأزمة اليمين الحالية

أما الكتاب الذي تمكن باقتدار في تشريح أهم تحديات التحالف اليميني الأميركي الحاكم فهو كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا" لمؤلفاه إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت والصادر في عام 2004

هدف كتاب "أمة اليمين" لم يكن رصد أسباب ضعف التحالف اليميني الحاكم ولكنه كان - على النقيض - معنيا برصد أهم أسباب قوة هذا التحالف، والتي رصدها الكتاب بعناية ودقة فائقتين لدرجة نموذجا للكتب التي تنظر لمظاهر وأسباب قوة اليمين الأميركي في الوقت الحالي

وقبل نهاية الكتاب طرح مؤلفاه سؤالا هاما وهو كيف يمكن أن يتراجع اليمين الأميركي على الرغم مما يمتلكه حاليا من نفوذ وسيطرة كبيرتين، وهنا تنبأ المؤلفان بأن التحالف الأميركي الحاكم يعاني من خطرين عظيمين يهددان مستقبله، أولهما هو الغرور والإفراط في استخدام القوة، وثانيهما هو الشعور بالقوة والانشغال بالمنازعات الداخلية على حساب الانشغال بحماية القوة وزيادتها

وقد صدقت نبوءة المؤلفين بشكل كبير فقبل أيام قليلة على انعقاد انتخابات يتوقع الكثيرون أن يلقى فيها الجمهوريون هزيمة ثقيلة نجد أن الجمهوريون يعانون حاليا بسبب أخطائهم بشكل أساسي أكثر من معاناتهم من منافسة خصومهم الديمقراطيين

فالتحديات الكبرى التي يواجهها الجمهوريون حاليا هي أخطاء من صناعة أيديهم وعلى رأسها حرب العراق وفضائح الفساد وسوء استغلال السلطة التي مست عدد كبير من قياداتهم بالكونجرس وبالبيت الأبيض، هذا إضافة إلى الانقسامات التي زرعتها سياسات الإدارة الأميركية في أوساط الجمهوريين أنفسهم، إذ لم تحرص الإدارة على خفض ميزانية الحكومة الفيدرالية وبرامجها كما يريد المحافظين التقليديين، كما انتهجت الإدارة في قضايا الحقوق والحريات المدنية سياسات أثارت حفيظة كثير من الجمهوريين المعنيين بتقليص نفوذ الدولة وقدرتها على التدخل في حياة الأفراد، هذا إضافة إلى موقف بعض قيادات الجمهوريين بمجلس الشيوخ الأميركي من أمثال تشك هيجل وجون ماكين الذين عارضوا سياسة الإدارة الأميركية في إدارة الحرب على الإرهاب وفي التعامل مع قضايا حقوقية حساسة مثل تعذيب المعتقلين

أضف إلى ذلك موقف الإدارة المتردد تجاه قضايا الهجرة، إذ لم تتمكن الإدارة من وضع برامج عفو واسعة عن المهاجرين بشكل يحسن سمعة الجمهوريين وسط الأقليات اللاتينية المتنامية مع علم الإدارة بحاجة الجمهوريين المستقبلة المتزايدة لأصوات الأقليات والمهاجرين، كما فشلت الإدارة في نفس الوقت في إقناع القواعد اليمينية المحافظة بضرورة التخلي عن بعض أفكارهم المتشددة بحق المهاجرين مثل بناء الأسوار على الحدود لمنع تدفق المهاجرين

لذا يجد التحالف اليميني الحاكم نفسه اليوم في مأزق لا يحسد عليه صنعه لنفسه بالأساس، فغرور الجمهوريين بقوتهم غير المسبوقة دفعهم لارتكاب أخطاء كبيرة وخطيرة حتى أصبح الالتصاق بسياسات الإدارة والجمهوريين حاليا تهمة يسعى الجمهوريون أنفسهم للتبرأ منها

هل من مستقبل لليمين الأميركي

فهم أسباب أزمة اليمين الأميركي خلال الفترة الحالية على النحو السابق تدفعنا إلى الاعتقاد بأن التحالف اليميني الحاكم مازال قادرا على الخروج من كبوته الحالية إذا امتلك الشجاعة على الاعتراف بأخطائه وعلى تغيير سياساته، فالتحالف اليميني الحاكم تحالف واسع يمتلك قواعد جماهيرية عريضة، كما أن التحالف اليساري المعارض له يواجه عددا لا يستهان به من المشكلات على رأسها تآكل قواعده الجماهيرية التقليدية - كالمنظمات العمالية على سبيل المثال – لأسباب عديدة ومختلفة، كما أن الديمقراطيين مازالوا يفتقرون لرؤية وأفكار جديدة كبيرة قادرة على مواجهة مشاكل المواطن الأميركي الجديدة مثل تحديات الإرهاب والعولمة والتعددية الثقافية والعزلة السياسية

أما السيناريو الأسوأ فهو أن يستمر الجمهوريون في سياساتهم الراهنة مكتفين بإجراء تغييرات محدودة على قياداتهم، وبالتركيز على مواجهة خصومهم وكيل الاتهامات لهم، وبرفع أصواتهم أعلى من خصومهم من خلال أبواق المحافظين الجدد وقيادات الإنجليكيين ووسائل الإعلام اليمينية ودعم أثرياء الحزب وقيادات الجنوب، أما الخاسر الأكبر من ذلك فسوف يكون المواطن الأميركي العادي والذي بات يشعر أكثر من أي وقت مضى بالعزلة والهامشية وعدم القدرة على التأثير على مخرجات النظام السياسي الأميركي

-----

مقالات ذات صلة

مهمة الديمقراطيين الصعبة في الانتخابات الأميركية الراهنة

بعيدا عن المركز: الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأمريكية

أين أخطأ اليمين؟

أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا