أين أخطأ اليمين الأميركي؟
مقال بقلم: علاء بيومي
الناشر: الجزيرة نت، 6 نوفمبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال
يدخل التحالف اليميني الحاكم بالولايات المتحدة بزعامة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وقيادات الجمهوريين بالإدارة الأميركية والكونجرس الانتخابات الفيدرالية المقرر عقدها في السابع من نوفمبر الحالي في وضع لا يحسد عليه، حيث تشير استطلاعات الرأي وأراء الخبراء إلى تراجع الرضا الشعبي على أداء الإدارة وعلى أداء الجمهوريين بالكونجرس سويا وسط توقعات بأن يلقى الجمهوريون في الانتخابات الحالية هزيمة ثقيلة قد تكلفهم موقع الأغلبية بأحد مجلسي الكونجرس الأميركي على أقل تقدير
مفارقة الصعود للقمة والاستعداد للهزيمة
ولا يخفى على أحد أن التحالف اليميني الأميركي والذي يتوقع له الهزيمة في الانتخابات الحالية هو نفس التحالف الذي حقق نجاحات سياسية مستمرة على الصعيد السياسي الأميركي منذ عام 1994 والذي تمكن فيه الجمهوريون من الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب الأميركي لأول مرة منذ عقود، ففي عام 2000 فاز المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش بالبيت الأبيض بعض منافسة شرسة وصعبة مع منافسه الديمقراطي آل جور، وبعد أحداث 11/9/2001 وصلت شعبية الرئيس جورج دبليو بوش لمستويات عالية مكنته من حصول على تفويض سريع من الكونجرس بشن الحرب على نظام طالبان بأفغانستان وسط مساندة أميركية داخلية ودولية خارجية عالية، كما تمكن التحالف نفسه من الفوز بانتخابات 2002 النصفية وبأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ ومن الدفع بأميركا لغزو العراق على الرغم من المعارضة الشعبية والدولية الكبيرة، وهي معارضة لم تمنع الرئيس جورج دبليو بوش من الفوز في انتخابات عام 2004 الرئاسية والتي فاز فيها الجمهوريون بانتخابات الكونجرس أيضا
النجاحات السابقة لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة لعمل شاق قام به تحالف ضخم من الجماعات اليمينية الأميركية، فعلى الصعيد الفكري والإعلامي لعب المحافظون الجدد ووسائل الإعلام اليمينية دورا يشهد له بالكفاءة في حشد دعم الرأي العام الأميركي لسياسات إدارة بوش، وعلى المستوي السياسي تمكن الجمهوريون في تعبئة قوى المسيحيين المتدينين (28 مليون ناخب) بشكل غير مسبوق، هذا إضافة إلى حصولهم على تأييد الأثرياء المستفيدين من خفض الضرائب، وعلى أييد اليمينيين التقليديين بولايات الجنوب والوسط، وعلى تأييد جماعات يمينية تقليدية مثل اليمينيين المنادين بالحد من دور الدولة وحجمها، وجماعات يمينية جديدة كبعض أبناء الأقليات الذين انضموا لخيمة الجمهوريين المتنامية متأثرين ببريق سيطرة الجمهوريين على مقاليد السلطة
حجم ما حققه الجمهوريون من نجاحات سياسية منذ عام 1994 وحتى الآن وتوقع الكثيرون بأن يلقى الجمهوريون هزيمة كبيرة في السابع من نوفمبر الحالي يمثلان معا مفارقة كبيرة تثير عدد من الأسئلة الهامة حول أسباب تراجع الجمهوريين السريع، أسئلة مثل: أين الخطأ ومن هو المسئول عنه؟ بوش؟ أم العراق؟ أم المحافظون الجدد؟ أم الإنجليكيون؟ أم كل ما سبق
نظرية العوامل الأحادية
الكتابات الأميركية لم تخل من تنبؤات عديدة ومختلفة بمستقبل الجمهوريين وهي تنبؤات زادت سلبية بعد غزو العراق والذي أحدث شرخا كبيرا في المجتمع الأميركي وفي المعسكر اليميني الحاكم على حد سواء
فعلى سبيل المثال نشر السياسي والكاتب الأميركي المعروف بات بوكانان كتابا في عام 2004 بعنوان "أين أخطأ اليمين؟ كيف أجهض المحافظون الجدد ثورة ريجان واختطفوا رئاسة بوش؟"، والمعروف أن باتت بوكانان ينتمي لتيار المحافظين التقليديين وهو تيار علماني مقارنة بالمسيحيين المتدينين كما أنه يميل للعزلة ويرفض النزعة التدخلية في السياسة الخارجية الأميركية، ويفضل في المقابل التركيز على الداخل وعلى برامج المحافظين التقليدية مثل خفض الضرائب والحد من حجم الحكومة الفيدرالية وغلق الباب أمام الأجانب
والواضح أيضا من عنوان كتاب بوكانان أنه تبنى نظرية تلقى بالجانب الأكبر من اللوم على مجموعة واحدة من الجماعات المشكلة للتحالف اليميني الحكام حاليا بأميركا آلا وهي "المحافظون الجدد" والذين أعلن بوكانان أنهم "اختطفوا رئاسة بوش" وقادوه إلى إنتاج سياسات تتنافي مع توجهات اليمينيين التقليديين الذين يمثلهم مثل التمادي في زيادة البرامج الحكومية وفي النزعة التدخلية في السياسة الخارجية
بوكانان رأي في كتابه أن المحافظين الجدد مجموعة دخيلة على اليمين الأميركي، فهم – من وجهة نظره - مجموعة من المفكرين المتمركزين في واشنطن والذين يفتقرون للقواعد الجماهيرية الحقيقية وسط الناخبين الجمهوريين
حقيقة أزمة اليمين الأميركي
نظرية بوكانان التي ألقت باللوم على المحافظين الجدد لاقت رواجا واسعا في وسائل إعلام أميركية ودولية عديدة خاصة مع زيادة المعارضة الشعبية والدولية لحرب العراق والتي رأي البعض أنها نتاج لفكر المحافظين الجدد كجماعة محددة داخل التيار اليميني الأميركي الحاكم
ولكن أصحاب النظرية السابقة عجزوا دوما على الإجابة على سؤال محوري وهو كيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على الإدارة الأميركية وعلى التيار اليميني الحاكم بهذه الدرجة خاصة وأنهم كما يدعي بوكانان تيار فكري دخيل على اليمين الأميركي يفتقر للقواعد الجماهيرية الحقيقية
والمعروف أن التحالف الأميركي الحاكم يتشكل من مجموعات عديدة أشرنا إلى أهمها في بداية هذا المقال، فكيف تمكن المحافظون الجدد من السيطرة على كل هؤلاء
السؤال السابق يدفعنا إلى تفسيرات من نوع مختلف لأزمة اليمين الأميركي الراهنة، ومن أهم هذه التفسيرات التفسير الذي قدمه جاكوب هاكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة يال وبول بيرسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية كاليفورنيا في كتاب "بعيدا عن المركز: الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأميركية" الصادر عن مطابع جامعة يال الأميركية في عام 2005
هاكر وبيسرون يرفضان لوم جماعة أميركية معينة على أزمة اليمين أو على ما تمر به الولايات المتحدة حاليا من تحديات داخلية أو خارجية، إذ يريان أن المرض الذي أصاب اليمين الأميركي وانتقل منه إلى النظام السياسي الأميركي مرض قديم عضال يعود لتحالف النخب الثرية مع الجماعات الجماهيرية اليمينية المتشددة منذ أوائل السبعينات ضد إرث عقد الستينيات والذي شهد صعود قوة جماعات أميركية مستضعفة كالشباب والنساء والأقليات والمهاجرين
وردا على هذا الصعود تحالفت النخب الثرية مع الجماعات الدينية واليمينيين التقليديين للقيام بثورة مضادة ضد ثورة الحقوق والحريات التي وصلت لأوجها في الستينيات، وأخذ هذا التحالف من الحزب الجمهوري أداة ومنبر لتحقيق أهدافه السياسية فقام بعلمية تصفية مستمرة للقيادات الجمهورية المعتدلة وإحلالها بقيادات جمهورية جديدة متشددة تعبر عن القواعد الجماهيرية الجديدة التي اعتمد عليها هذا التحالف مثل اليمينيين المتدينين والجماعات اليمينية الرافضة لثورة الحقوق والحريات، وبعد صعود القيادات الجمهورية الجديدة تم تركيز السلطة داخل الحزب الجمهوري بأيدي تلك القيادات بما يمكنها من معاقبة ومكافئة قيادات الحزب الجمهوري وفقا لمدى التزامها بأجندة التحالف اليميني الجديد الحاكم، وبهذا امتلكت القيادات الجمهورية الجديدة سلطات غير مسبوقة دخل الحزب الجمهوري وداخل النظام السياسي الأميركي نظرا، وهي أغرت أصحابها وجعلت أخطائهم باهظة عالية التكاليف
كتاب تنبأ بأزمة اليمين الحالية
أما الكتاب الذي تمكن باقتدار في تشريح أهم تحديات التحالف اليميني الأميركي الحاكم فهو كتاب "أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا" لمؤلفاه إدريان ولدريدج وجون مايكلثويت والصادر في عام 2004
هدف كتاب "أمة اليمين" لم يكن رصد أسباب ضعف التحالف اليميني الحاكم ولكنه كان - على النقيض - معنيا برصد أهم أسباب قوة هذا التحالف، والتي رصدها الكتاب بعناية ودقة فائقتين لدرجة نموذجا للكتب التي تنظر لمظاهر وأسباب قوة اليمين الأميركي في الوقت الحالي
وقبل نهاية الكتاب طرح مؤلفاه سؤالا هاما وهو كيف يمكن أن يتراجع اليمين الأميركي على الرغم مما يمتلكه حاليا من نفوذ وسيطرة كبيرتين، وهنا تنبأ المؤلفان بأن التحالف الأميركي الحاكم يعاني من خطرين عظيمين يهددان مستقبله، أولهما هو الغرور والإفراط في استخدام القوة، وثانيهما هو الشعور بالقوة والانشغال بالمنازعات الداخلية على حساب الانشغال بحماية القوة وزيادتها
وقد صدقت نبوءة المؤلفين بشكل كبير فقبل أيام قليلة على انعقاد انتخابات يتوقع الكثيرون أن يلقى فيها الجمهوريون هزيمة ثقيلة نجد أن الجمهوريون يعانون حاليا بسبب أخطائهم بشكل أساسي أكثر من معاناتهم من منافسة خصومهم الديمقراطيين
فالتحديات الكبرى التي يواجهها الجمهوريون حاليا هي أخطاء من صناعة أيديهم وعلى رأسها حرب العراق وفضائح الفساد وسوء استغلال السلطة التي مست عدد كبير من قياداتهم بالكونجرس وبالبيت الأبيض، هذا إضافة إلى الانقسامات التي زرعتها سياسات الإدارة الأميركية في أوساط الجمهوريين أنفسهم، إذ لم تحرص الإدارة على خفض ميزانية الحكومة الفيدرالية وبرامجها كما يريد المحافظين التقليديين، كما انتهجت الإدارة في قضايا الحقوق والحريات المدنية سياسات أثارت حفيظة كثير من الجمهوريين المعنيين بتقليص نفوذ الدولة وقدرتها على التدخل في حياة الأفراد، هذا إضافة إلى موقف بعض قيادات الجمهوريين بمجلس الشيوخ الأميركي من أمثال تشك هيجل وجون ماكين الذين عارضوا سياسة الإدارة الأميركية في إدارة الحرب على الإرهاب وفي التعامل مع قضايا حقوقية حساسة مثل تعذيب المعتقلين
أضف إلى ذلك موقف الإدارة المتردد تجاه قضايا الهجرة، إذ لم تتمكن الإدارة من وضع برامج عفو واسعة عن المهاجرين بشكل يحسن سمعة الجمهوريين وسط الأقليات اللاتينية المتنامية مع علم الإدارة بحاجة الجمهوريين المستقبلة المتزايدة لأصوات الأقليات والمهاجرين، كما فشلت الإدارة في نفس الوقت في إقناع القواعد اليمينية المحافظة بضرورة التخلي عن بعض أفكارهم المتشددة بحق المهاجرين مثل بناء الأسوار على الحدود لمنع تدفق المهاجرين
لذا يجد التحالف اليميني الحاكم نفسه اليوم في مأزق لا يحسد عليه صنعه لنفسه بالأساس، فغرور الجمهوريين بقوتهم غير المسبوقة دفعهم لارتكاب أخطاء كبيرة وخطيرة حتى أصبح الالتصاق بسياسات الإدارة والجمهوريين حاليا تهمة يسعى الجمهوريون أنفسهم للتبرأ منها
هل من مستقبل لليمين الأميركي
فهم أسباب أزمة اليمين الأميركي خلال الفترة الحالية على النحو السابق تدفعنا إلى الاعتقاد بأن التحالف اليميني الحاكم مازال قادرا على الخروج من كبوته الحالية إذا امتلك الشجاعة على الاعتراف بأخطائه وعلى تغيير سياساته، فالتحالف اليميني الحاكم تحالف واسع يمتلك قواعد جماهيرية عريضة، كما أن التحالف اليساري المعارض له يواجه عددا لا يستهان به من المشكلات على رأسها تآكل قواعده الجماهيرية التقليدية - كالمنظمات العمالية على سبيل المثال – لأسباب عديدة ومختلفة، كما أن الديمقراطيين مازالوا يفتقرون لرؤية وأفكار جديدة كبيرة قادرة على مواجهة مشاكل المواطن الأميركي الجديدة مثل تحديات الإرهاب والعولمة والتعددية الثقافية والعزلة السياسية
أما السيناريو الأسوأ فهو أن يستمر الجمهوريون في سياساتهم الراهنة مكتفين بإجراء تغييرات محدودة على قياداتهم، وبالتركيز على مواجهة خصومهم وكيل الاتهامات لهم، وبرفع أصواتهم أعلى من خصومهم من خلال أبواق المحافظين الجدد وقيادات الإنجليكيين ووسائل الإعلام اليمينية ودعم أثرياء الحزب وقيادات الجنوب، أما الخاسر الأكبر من ذلك فسوف يكون المواطن الأميركي العادي والذي بات يشعر أكثر من أي وقت مضى بالعزلة والهامشية وعدم القدرة على التأثير على مخرجات النظام السياسي الأميركي
-----
مقالات ذات صلة
مهمة الديمقراطيين الصعبة في الانتخابات الأميركية الراهنة
بعيدا عن المركز: الثورة الجمهورية وتآكل الديمقراطية الأمريكية
أين أخطأ اليمين؟
أمة اليمين: قوة المحافظين في أمريكا
No comments:
Post a Comment