الخطاب المسلم الأمريكي السائد
بقلم: علاء بيومي
الناشر: جريدة الحياة، 8 يوليو 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للنشر
نص المقال
الوقوف على الخصائص المميزة للخطاب السائد في أوساط المسلمين الأمريكيين مهمة صعبة لأسباب مختلفة على رأسها تنوع المسلمين الأمريكيين وانتشارهم عبر الولايات المتحدة والتي هي بلد أشبه بقارة منه بدولة، والندرة النسبية للدراسات الخاصة بمسلمي أمريكا، وهي ندرة ترتبط بحداثة عهد المسلمين الأمريكيين كجماعة متميزة وذات وجود واضح في الدوائر العامة الأمريكية، وهو وجود بدأ في التبلور تدريجيا منذ ستينيات القرن العشرين
هذا إضافة إلى صعوبة مهمة تحديد الخطاب السائد لدى جماعة ما لكونها مهمة نظرية تستدعي الإلمام العميق بثقافة تلك الجماعات وظروفها وبتنوعات فئات الخطاب السائد في أوساطها وفي أوساط الجماعات الفرعية المكونة لها
في المقابل هناك جسد متنامي من الدراسات التي تتناول المسلمين الأمريكيين حاليا والذين بلغ عددهم قرابة سبعة مليون نسمة وباتوا يمثلون محل اهتمام إعلامي وسياسي وشعبي أمريكي متزايد على مدى العقدين الأخيرين بشكل عام ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على وجه الخصوص
تأتي هذه الدراسات من قبل مراكز الدراسات الإسلامية والعربية بالجامعات الأمريكية، ومن قبل الأعداد المتزايدة من الأكاديميين والكتاب المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة، ومن قبل مراكز الأبحاث الأمريكية الخاصة والحكومية والتي باتت معنية بشكل متزايد بالوجود المسلم الأمريكي منذ 11/9 انطلاقا من أجندات فكرية وسياسية متنوعة ومتعارضة
ويستوقفنا هنا دراسة مختصرة وإن كانت متميزة صدرت مؤخرا عن معهد الولايات المتحدة للسلام تحت عنوان "تنوع المسلمين في الولايات المتحدة"، وهي من إعداد قمر الهدى وهو جامعي مسلم عمل في السابق كأستاذ للدراسات الإسلامية بكلية بوسطن الأمريكية ويعمل حاليا كباحث في برنامج الدين وصناعة السلام بمعهد الولايات المتحدة للسلام
أهمية الدراسة – وهي محور هذا المقال – تنبع من ثلاثة أسباب أولها صدورها عن معهد الولايات المتحدة للسلام وهو مؤسسة حكومية مستقلة غير حزبية أنشئها ويمولها الكونجرس الأمريكي بهدف العمل على نشر ثقافة حل الصراعات بالطرق السلمية
صدور الدراسة عن هذه الهيئة الرسمية يعطيها أهمية بحكم أنه يسمح لها بدرجة متميزة من الانتشار والمصداقية وبحكم أنها تأتي ضمن جهود المعهد للبحث عن طرق إيجابية لدمج الإسلام والمسلمين في أمريكا ضمن مساعيه لنشر ثقافة السلام واللاعنف في محيط العلاقات الإسلامية الأمريكية، وقد تبلورت هذه الجهود في مبادرة خاصة يرعاها المعهد تحت عنوان "مبادرة العالم الإسلامي" تركز على البحث عن مثل تلك الطرق الإيجابية
السبب الثاني هو كون المؤلف أكاديميا مسلما مما يبشر بوجود جيل متنامي من الأكاديميين المسلمين المتواجدين بالجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والمعنيين بدراسة قضايا الإسلام والمسلمين في أمريكا وتقديمها بالشكل والأسلوب المناسبين لصناع القرار والرأي العام بالولايات المتحدة
السبب الثالث وهو الذي دفعنا لكتابة هذا المقال هو أن الدراسة كررت - عن قصد أو دون قصد - ما يعد – من وجهة نظرنا - بمثابة عناصر متكررة أو خصائص مميزة للخطاب المسلم في أمريكا أو للخطاب المسلم الأمريكي
فالدراسة حاولت تغطية أكبر عدد من الأفكار والمعلومات عن مسلمي أمريكا في مساحة صغيرة (19 صفحة من القطع الكبير)، لذا بدأ المؤلف بملخص عام يتحدث عن تعداد مسلمي أمريكا وتنامي رغبتهم في المشاركة في الحياة العامة الأمريكية والاندماج الإيجابي بالمجتمع الأمريكي، ثم تحدث عن تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مسلمي أمريكا وعلى الجدل الدائر في أوساطهم حول هويتهم الأمريكية، ثم خصص الجزء الأكبر من دراسته للتعريف بمؤسسات مسلمي أمريكا الرئيسية ودور كل منها ومنهجها في تشجيع اندماج المسلمين الإيجابي بالمجتمع الأمريكي
ويقسم قمر الهدى المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى إلى فئات مختلفة وفقا لطبيعة نشاطها، فهناك منظمات معنية بشكل أساسي بالحفاظ على الهوية الدينية والثقافية لمسلمي أمريكا، وفئة ثانية تضم المنظمات المعنية بالحياة العامة والسياسية، وفئات أخرى تضم منظمات نسوية ومهنية أو غيرها من الفئات التي تعبر عن اهتمامات سبعة مليون مسلم أمريكي
وفي خاتمة الدراسة يؤكد المؤلف على حقيقتين أساسيتين أولهما إجماع المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى على إدانة الإرهاب والتطرف وعلى ضرورة السعي لمكافحتهما، وثانيهما سعي تلك المنظمات لتشجيع مشاركة المسلمين الأمريكيين في الحياة العامة الأمريكية على مختلفة المستويات – سواء كانت دينية أو ثقافية أو مهنية أو سياسية – كخير ضمانة لبناء قنوات إيجابية يعبر من خلالها مسلمو أمريكا عن احتياجاتهم ومخاوفهم ومطالبهم ويحققون الاندماج الإيجابي - الذي ينشدونه - في المجتمع الأمريكي
وبدون الإسهاب في تفاصيل الدراسة، رأينا أن نقدم – في بقية هذا المقال - قراءة في أسلوب الدراسة في التعامل مع المسلمين الأمريكيين والذي نعتقد – كما ذكرنا من قبل – أنه يلخص عدد من أهم خصائص الخطاب المسلم الأمريكي والتي نلخصها هنا في ثلاثة خصائص أساسية
الخاصية الأولي هي أن الخطاب المسلم الأمريكي هو خطاب مؤسسات بالأساس، وهذا لا يهمل دور عدد متنامي من الأكاديميين والمفكرين والنشطاء المسلمين، ولكنه يبرز الدور المحوري للمنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى، وهي محورية تعود لعدة أسباب مميزة للخبرة المسلمة الأمريكية
على رأس هذه الأسباب طبيعة المجتمع الأمريكي ذاته كمجتمع عملاق يتمتع بحرية سياسية كبيرة وبقوانين تحد من تدخل الدولة في حياة المجتمع وخاصة في حياة الأقليات الدينية، وقد أدى الحد من دور الدولة إلى تقوية المجتمع بسبب الحرية وبسبب حرمان المجتمع النسبي – ضمن النظام الرأسمالي – وحرمان المنظمات الدينية شبة الكامل – ضمن النظام العلماني - من المساعدات الحكومية، لذا اضطرت المؤسسات الدينية - وهي عصب الأقلية المسلمة الأمريكية - إلى الاعتماد على الذات في توفير مواردها، وذلك عن طريق القرب من الجماهير والسعي لتلبية طلباتها وحصد مساندتها ودعمها
هذه الخاصية الهامة فرضت على المنظمات المسلمة الأمريكية عدم النخبوية ودفعتها إلى القرب بأكبر قدر ممكن من الجماهير والتعبير عنها بمصداقية عنها، كما أنها أشعرت الجماهير المسلمة الأمريكية بأن منظماتهم تمثلهم وتعبر عن حاجاتهم وطموحاتهم
أما عملقة المجتمع الأمريكي فقد دفعت مختلف الجماعات الأمريكي سواء دينية أو علمانية أو إثنية أو غير ذلك لمحاولة تعظيم مصالحها من خلال تنظيم أنفسها في شبكة معقدة ومتشابكة من المؤسسات
لذا سعى المسلمون الأمريكيون منذ بداية مرحلة استيطانهم بأمريكا في ستينات القرن العشرين في بناء أكبر عدد من المؤسسات الدينية والثقافية التي تمثلهم، والتي قد يصل عددها الآن إلى أكثر من 2500 مؤسسة غالبيتها مؤسسات دينية وتعليمية وثقافية إضافة إلى أقلية من المنظمات السياسية والمعنية بالحياة العامة الأمريكية
وبمرور الوقت نمى على السطح شبكة صغيرة من المنظمات المسلمة الأمريكية المعنية بالشئون العامة التي باتت تسعى لتمثيل الصوت المسلم الأمريكي خاصة على الصعيد السياسي والإعلامي عبر الولايات المتحدة، وأصبحت هذه المنظمات وأنشطتها وخطابها بابا هاما لفهم الخطاب المسلم الأمريكي والوقوف عليه
كما ساعد نمو المنظمات السياسية بدوره على زيارة رغبة المسلمين الأمريكيين في بناء مزيد منها، لأن احتكاك المسلمين بالحياة السياسية والعامة الأمريكية كشف لهم مدي حاجتهم لمنظمات قوية تمثلهم في المجتمع الأمريكي المليء بجماعات المصالح واللوبيات العملاقة
الخاصية الثانية وهي وجود إجماع شبه كامل في أوساط المسلمين الأمريكيين على ضرورة المشاركة في الحياة السياسية والعامة بالولايات المتحدة والاندماج بالمجتمع الأمريكي، هذا الإجماع تحقق لأسباب مختلفة من بينها دور المنظمات المسلمة الأمريكية وقدرتها على فتح قنوات تواصل مع مؤسسات الدول والمجتمع الأمريكي الرئيسية
فتح هذه القنوات أعطى الجماهير المسلمة الأمريكية شعورا تدريجيا بالأمل وبوجود فرصة للتأثير من خلال أدوات العمل العام المتاحة، وهي قناعة تمثل خطوة محورية على طريق الشعور بالاندماج، لذا تشير أحدث الاستطلاعات الخاصة بتوجهات المسلمين الأمريكيين نحو المشاركة في الحياة العامة الأمريكية – ومن بينها استطلاع أجراه مشروع المسلمين في الساحات العامة الأمريكية التابع لجامعة جورج تاون – إلى أن معدلات الرغبة في المشاركة في مسلمي أمريكا تفوق حاجز التسعين في المائة، وهي بدون شك نسبة مرتفعة تبرهن على وجود الإجماع الذي تحدثنا عنه سابقا
سبب أخر يتعلق بطبيعة مسلمي أمريكا كأقلية تضم نخبة من أصحاب الخبرات القادمين من العالم الإسلامي بحكم قوانين الهجرة الأمريكية التي شجعت هجرة آلاف الطلاب والخبراء المسلمين سنويا لسد حاجات سوق العمل الأمريكي للخبراء المتخصصين، وبمرور الوقت استوطن آلاف المهاجرين المسلمين أمريكا وباتت وطننا لهم، وباتوا بخلفياتهم التعليمية والمهنية العالية أقلية متميزة راغبة في الانفتاح على المجتمع الأمريكي بحكم انفتاح المسلمين الأمريكيين اليومي كأفراد على أرقى مؤسسات المجتمع الأمريكي التعليمية والاقتصادية، ويمكن هنا الإشارة إلى أن متوسط المستوي التعليمي بين المسلمين الأمريكيين يفوق متوسط المستوى التعليمي العام داخل المجتمع الأمريكي
كما يلاحظ هنا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتبعاتها القاسية لم تضعف هذا الإجماع، بل يمكن القول أنها قوته، ولكنها مع الأسف قوت – في الوقت ذاته - من نفوذ أقليات أمريكية متحيزة ضد مشاركة المسلمين والعرب النشطة في الحياة السياسية والعامة الأمريكية، ويجب هنا الإشارة إلى أن جهود هذه الجماعات السلبية لن تضر بعجلة اندماج المسلمين الأمريكيين وحدهم فضررها الأكبر سوف يعود على المجتمع الأمريكي ذاته والذي سيخسر تدريجيا إسهامات العديد من المستوطنين المسلمين الأمريكيين وغيرهم من الأقليات الأمريكية التي تعاني من موجات العداء للهجرة والمهاجرين المتزايدة بأمريكا خلال الفترة الراهنة
الخاصية الثالثة والأخيرة ترتبط بالتعددية داخل المجتمع المسلم الأمريكي ذاته، حيث يلاحظ أن التنوع العرقي والإثني واللغوي والمذهبي يمثل أحد أهم خصائص المسلمين الأمريكيين، وهو تنوع يتطلب خطابا يعكسه ويضع حلولا له، ويمكن القول أن المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى باتت حريصة على أن تتبنى هذا التنوع كخطاب وكسياسية داخل بنيتها الداخلية وممثليها، كما باتت القدرة على التعامل مع التنوع تمثل شرطا ضروريا لنجاح المنظمات المسلمة الأمريكية
ويقول البعض أن سعة القارة الأمريكية ساعدت الأمريكيين تاريخيا على التعامل مع التعددية والتنوع، فأمريكا بل واسع مترامي الأطراف ومن لا يعجبه العيش في مدينة ما يمكنه أن يرحل إلى أي مدينة أمريكية أخرى والمدن الأمريكية عديدة، وقد لا يمتلك المسلمون الأمريكيون – وخاصة المهاجرون الجدد منهم – مثل هذه الرفاهية، كما أن الضغوط السياسية والإعلامية التي يخضعون لها قد تزيد من انقساماتهم الداخلية بحكم أن بعض هذه الضغوط تسعى بشكل واضح لفرض رؤى معينة على المسلمين الأمريكيين وتقوية الجماعات المساندة لتلك الرؤى
لكن الضغوط الخارجية لا يجب أن تمنعنا من إدراك أن التعامل مع التنوع هو واجب مفروض على المسلمين الأمريكيين من الداخل قبل الخارج، وأن أفضل سبل التعامل مع هذا التنوع هو تطوير أفكار مسلمة أمريكية جديدة تشرح للمسلمين كيف يتعاملون مع الأخر داخل المجتمع المسلم الأمريكي وخارجه
وفي الخاتمة يمكن القول أن الخطاب السائد في أوساط مسلمي أمريكا حريص على التعبير عن احترامه للتعددية والتنوع والتسامح والحرية كقيم أساسية للمسلمين الأمريكيين، وهي قيم يجب دعمها بتطوير مزيد من الأفكار وبناء مزيد من المنظمات المعنية بحماية هذه القيم ونشرها في أوساط مسلمي أمريكا بصفة عامة وفي المحيط الأمريكي العام بشكل عام خاصة خلال الفترة الراهنة التي تشتد فيها الحاجة لنشر وإعلاء تلك القيم
-----
مقالات ذات صلة
سبل مكافحة الإسلاموفوبيا في البيئة الأمريكية
الإسلام والأمريكي الأسود: نظرة تجاه الإحياء الثالث
مسلمو أمريكا بعد أربع سنوات على 11/9
المسلمون والتعددية الأمريكية منذ 11 سبتمبر
حاضر الهوية المسلمة الأمريكية
الناشر: جريدة الحياة، 8 يوليو 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للنشر
نص المقال
الوقوف على الخصائص المميزة للخطاب السائد في أوساط المسلمين الأمريكيين مهمة صعبة لأسباب مختلفة على رأسها تنوع المسلمين الأمريكيين وانتشارهم عبر الولايات المتحدة والتي هي بلد أشبه بقارة منه بدولة، والندرة النسبية للدراسات الخاصة بمسلمي أمريكا، وهي ندرة ترتبط بحداثة عهد المسلمين الأمريكيين كجماعة متميزة وذات وجود واضح في الدوائر العامة الأمريكية، وهو وجود بدأ في التبلور تدريجيا منذ ستينيات القرن العشرين
هذا إضافة إلى صعوبة مهمة تحديد الخطاب السائد لدى جماعة ما لكونها مهمة نظرية تستدعي الإلمام العميق بثقافة تلك الجماعات وظروفها وبتنوعات فئات الخطاب السائد في أوساطها وفي أوساط الجماعات الفرعية المكونة لها
في المقابل هناك جسد متنامي من الدراسات التي تتناول المسلمين الأمريكيين حاليا والذين بلغ عددهم قرابة سبعة مليون نسمة وباتوا يمثلون محل اهتمام إعلامي وسياسي وشعبي أمريكي متزايد على مدى العقدين الأخيرين بشكل عام ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على وجه الخصوص
تأتي هذه الدراسات من قبل مراكز الدراسات الإسلامية والعربية بالجامعات الأمريكية، ومن قبل الأعداد المتزايدة من الأكاديميين والكتاب المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة، ومن قبل مراكز الأبحاث الأمريكية الخاصة والحكومية والتي باتت معنية بشكل متزايد بالوجود المسلم الأمريكي منذ 11/9 انطلاقا من أجندات فكرية وسياسية متنوعة ومتعارضة
ويستوقفنا هنا دراسة مختصرة وإن كانت متميزة صدرت مؤخرا عن معهد الولايات المتحدة للسلام تحت عنوان "تنوع المسلمين في الولايات المتحدة"، وهي من إعداد قمر الهدى وهو جامعي مسلم عمل في السابق كأستاذ للدراسات الإسلامية بكلية بوسطن الأمريكية ويعمل حاليا كباحث في برنامج الدين وصناعة السلام بمعهد الولايات المتحدة للسلام
أهمية الدراسة – وهي محور هذا المقال – تنبع من ثلاثة أسباب أولها صدورها عن معهد الولايات المتحدة للسلام وهو مؤسسة حكومية مستقلة غير حزبية أنشئها ويمولها الكونجرس الأمريكي بهدف العمل على نشر ثقافة حل الصراعات بالطرق السلمية
صدور الدراسة عن هذه الهيئة الرسمية يعطيها أهمية بحكم أنه يسمح لها بدرجة متميزة من الانتشار والمصداقية وبحكم أنها تأتي ضمن جهود المعهد للبحث عن طرق إيجابية لدمج الإسلام والمسلمين في أمريكا ضمن مساعيه لنشر ثقافة السلام واللاعنف في محيط العلاقات الإسلامية الأمريكية، وقد تبلورت هذه الجهود في مبادرة خاصة يرعاها المعهد تحت عنوان "مبادرة العالم الإسلامي" تركز على البحث عن مثل تلك الطرق الإيجابية
السبب الثاني هو كون المؤلف أكاديميا مسلما مما يبشر بوجود جيل متنامي من الأكاديميين المسلمين المتواجدين بالجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية والمعنيين بدراسة قضايا الإسلام والمسلمين في أمريكا وتقديمها بالشكل والأسلوب المناسبين لصناع القرار والرأي العام بالولايات المتحدة
السبب الثالث وهو الذي دفعنا لكتابة هذا المقال هو أن الدراسة كررت - عن قصد أو دون قصد - ما يعد – من وجهة نظرنا - بمثابة عناصر متكررة أو خصائص مميزة للخطاب المسلم في أمريكا أو للخطاب المسلم الأمريكي
فالدراسة حاولت تغطية أكبر عدد من الأفكار والمعلومات عن مسلمي أمريكا في مساحة صغيرة (19 صفحة من القطع الكبير)، لذا بدأ المؤلف بملخص عام يتحدث عن تعداد مسلمي أمريكا وتنامي رغبتهم في المشاركة في الحياة العامة الأمريكية والاندماج الإيجابي بالمجتمع الأمريكي، ثم تحدث عن تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مسلمي أمريكا وعلى الجدل الدائر في أوساطهم حول هويتهم الأمريكية، ثم خصص الجزء الأكبر من دراسته للتعريف بمؤسسات مسلمي أمريكا الرئيسية ودور كل منها ومنهجها في تشجيع اندماج المسلمين الإيجابي بالمجتمع الأمريكي
ويقسم قمر الهدى المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى إلى فئات مختلفة وفقا لطبيعة نشاطها، فهناك منظمات معنية بشكل أساسي بالحفاظ على الهوية الدينية والثقافية لمسلمي أمريكا، وفئة ثانية تضم المنظمات المعنية بالحياة العامة والسياسية، وفئات أخرى تضم منظمات نسوية ومهنية أو غيرها من الفئات التي تعبر عن اهتمامات سبعة مليون مسلم أمريكي
وفي خاتمة الدراسة يؤكد المؤلف على حقيقتين أساسيتين أولهما إجماع المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى على إدانة الإرهاب والتطرف وعلى ضرورة السعي لمكافحتهما، وثانيهما سعي تلك المنظمات لتشجيع مشاركة المسلمين الأمريكيين في الحياة العامة الأمريكية على مختلفة المستويات – سواء كانت دينية أو ثقافية أو مهنية أو سياسية – كخير ضمانة لبناء قنوات إيجابية يعبر من خلالها مسلمو أمريكا عن احتياجاتهم ومخاوفهم ومطالبهم ويحققون الاندماج الإيجابي - الذي ينشدونه - في المجتمع الأمريكي
وبدون الإسهاب في تفاصيل الدراسة، رأينا أن نقدم – في بقية هذا المقال - قراءة في أسلوب الدراسة في التعامل مع المسلمين الأمريكيين والذي نعتقد – كما ذكرنا من قبل – أنه يلخص عدد من أهم خصائص الخطاب المسلم الأمريكي والتي نلخصها هنا في ثلاثة خصائص أساسية
الخاصية الأولي هي أن الخطاب المسلم الأمريكي هو خطاب مؤسسات بالأساس، وهذا لا يهمل دور عدد متنامي من الأكاديميين والمفكرين والنشطاء المسلمين، ولكنه يبرز الدور المحوري للمنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى، وهي محورية تعود لعدة أسباب مميزة للخبرة المسلمة الأمريكية
على رأس هذه الأسباب طبيعة المجتمع الأمريكي ذاته كمجتمع عملاق يتمتع بحرية سياسية كبيرة وبقوانين تحد من تدخل الدولة في حياة المجتمع وخاصة في حياة الأقليات الدينية، وقد أدى الحد من دور الدولة إلى تقوية المجتمع بسبب الحرية وبسبب حرمان المجتمع النسبي – ضمن النظام الرأسمالي – وحرمان المنظمات الدينية شبة الكامل – ضمن النظام العلماني - من المساعدات الحكومية، لذا اضطرت المؤسسات الدينية - وهي عصب الأقلية المسلمة الأمريكية - إلى الاعتماد على الذات في توفير مواردها، وذلك عن طريق القرب من الجماهير والسعي لتلبية طلباتها وحصد مساندتها ودعمها
هذه الخاصية الهامة فرضت على المنظمات المسلمة الأمريكية عدم النخبوية ودفعتها إلى القرب بأكبر قدر ممكن من الجماهير والتعبير عنها بمصداقية عنها، كما أنها أشعرت الجماهير المسلمة الأمريكية بأن منظماتهم تمثلهم وتعبر عن حاجاتهم وطموحاتهم
أما عملقة المجتمع الأمريكي فقد دفعت مختلف الجماعات الأمريكي سواء دينية أو علمانية أو إثنية أو غير ذلك لمحاولة تعظيم مصالحها من خلال تنظيم أنفسها في شبكة معقدة ومتشابكة من المؤسسات
لذا سعى المسلمون الأمريكيون منذ بداية مرحلة استيطانهم بأمريكا في ستينات القرن العشرين في بناء أكبر عدد من المؤسسات الدينية والثقافية التي تمثلهم، والتي قد يصل عددها الآن إلى أكثر من 2500 مؤسسة غالبيتها مؤسسات دينية وتعليمية وثقافية إضافة إلى أقلية من المنظمات السياسية والمعنية بالحياة العامة الأمريكية
وبمرور الوقت نمى على السطح شبكة صغيرة من المنظمات المسلمة الأمريكية المعنية بالشئون العامة التي باتت تسعى لتمثيل الصوت المسلم الأمريكي خاصة على الصعيد السياسي والإعلامي عبر الولايات المتحدة، وأصبحت هذه المنظمات وأنشطتها وخطابها بابا هاما لفهم الخطاب المسلم الأمريكي والوقوف عليه
كما ساعد نمو المنظمات السياسية بدوره على زيارة رغبة المسلمين الأمريكيين في بناء مزيد منها، لأن احتكاك المسلمين بالحياة السياسية والعامة الأمريكية كشف لهم مدي حاجتهم لمنظمات قوية تمثلهم في المجتمع الأمريكي المليء بجماعات المصالح واللوبيات العملاقة
الخاصية الثانية وهي وجود إجماع شبه كامل في أوساط المسلمين الأمريكيين على ضرورة المشاركة في الحياة السياسية والعامة بالولايات المتحدة والاندماج بالمجتمع الأمريكي، هذا الإجماع تحقق لأسباب مختلفة من بينها دور المنظمات المسلمة الأمريكية وقدرتها على فتح قنوات تواصل مع مؤسسات الدول والمجتمع الأمريكي الرئيسية
فتح هذه القنوات أعطى الجماهير المسلمة الأمريكية شعورا تدريجيا بالأمل وبوجود فرصة للتأثير من خلال أدوات العمل العام المتاحة، وهي قناعة تمثل خطوة محورية على طريق الشعور بالاندماج، لذا تشير أحدث الاستطلاعات الخاصة بتوجهات المسلمين الأمريكيين نحو المشاركة في الحياة العامة الأمريكية – ومن بينها استطلاع أجراه مشروع المسلمين في الساحات العامة الأمريكية التابع لجامعة جورج تاون – إلى أن معدلات الرغبة في المشاركة في مسلمي أمريكا تفوق حاجز التسعين في المائة، وهي بدون شك نسبة مرتفعة تبرهن على وجود الإجماع الذي تحدثنا عنه سابقا
سبب أخر يتعلق بطبيعة مسلمي أمريكا كأقلية تضم نخبة من أصحاب الخبرات القادمين من العالم الإسلامي بحكم قوانين الهجرة الأمريكية التي شجعت هجرة آلاف الطلاب والخبراء المسلمين سنويا لسد حاجات سوق العمل الأمريكي للخبراء المتخصصين، وبمرور الوقت استوطن آلاف المهاجرين المسلمين أمريكا وباتت وطننا لهم، وباتوا بخلفياتهم التعليمية والمهنية العالية أقلية متميزة راغبة في الانفتاح على المجتمع الأمريكي بحكم انفتاح المسلمين الأمريكيين اليومي كأفراد على أرقى مؤسسات المجتمع الأمريكي التعليمية والاقتصادية، ويمكن هنا الإشارة إلى أن متوسط المستوي التعليمي بين المسلمين الأمريكيين يفوق متوسط المستوى التعليمي العام داخل المجتمع الأمريكي
كما يلاحظ هنا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتبعاتها القاسية لم تضعف هذا الإجماع، بل يمكن القول أنها قوته، ولكنها مع الأسف قوت – في الوقت ذاته - من نفوذ أقليات أمريكية متحيزة ضد مشاركة المسلمين والعرب النشطة في الحياة السياسية والعامة الأمريكية، ويجب هنا الإشارة إلى أن جهود هذه الجماعات السلبية لن تضر بعجلة اندماج المسلمين الأمريكيين وحدهم فضررها الأكبر سوف يعود على المجتمع الأمريكي ذاته والذي سيخسر تدريجيا إسهامات العديد من المستوطنين المسلمين الأمريكيين وغيرهم من الأقليات الأمريكية التي تعاني من موجات العداء للهجرة والمهاجرين المتزايدة بأمريكا خلال الفترة الراهنة
الخاصية الثالثة والأخيرة ترتبط بالتعددية داخل المجتمع المسلم الأمريكي ذاته، حيث يلاحظ أن التنوع العرقي والإثني واللغوي والمذهبي يمثل أحد أهم خصائص المسلمين الأمريكيين، وهو تنوع يتطلب خطابا يعكسه ويضع حلولا له، ويمكن القول أن المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى باتت حريصة على أن تتبنى هذا التنوع كخطاب وكسياسية داخل بنيتها الداخلية وممثليها، كما باتت القدرة على التعامل مع التنوع تمثل شرطا ضروريا لنجاح المنظمات المسلمة الأمريكية
ويقول البعض أن سعة القارة الأمريكية ساعدت الأمريكيين تاريخيا على التعامل مع التعددية والتنوع، فأمريكا بل واسع مترامي الأطراف ومن لا يعجبه العيش في مدينة ما يمكنه أن يرحل إلى أي مدينة أمريكية أخرى والمدن الأمريكية عديدة، وقد لا يمتلك المسلمون الأمريكيون – وخاصة المهاجرون الجدد منهم – مثل هذه الرفاهية، كما أن الضغوط السياسية والإعلامية التي يخضعون لها قد تزيد من انقساماتهم الداخلية بحكم أن بعض هذه الضغوط تسعى بشكل واضح لفرض رؤى معينة على المسلمين الأمريكيين وتقوية الجماعات المساندة لتلك الرؤى
لكن الضغوط الخارجية لا يجب أن تمنعنا من إدراك أن التعامل مع التنوع هو واجب مفروض على المسلمين الأمريكيين من الداخل قبل الخارج، وأن أفضل سبل التعامل مع هذا التنوع هو تطوير أفكار مسلمة أمريكية جديدة تشرح للمسلمين كيف يتعاملون مع الأخر داخل المجتمع المسلم الأمريكي وخارجه
وفي الخاتمة يمكن القول أن الخطاب السائد في أوساط مسلمي أمريكا حريص على التعبير عن احترامه للتعددية والتنوع والتسامح والحرية كقيم أساسية للمسلمين الأمريكيين، وهي قيم يجب دعمها بتطوير مزيد من الأفكار وبناء مزيد من المنظمات المعنية بحماية هذه القيم ونشرها في أوساط مسلمي أمريكا بصفة عامة وفي المحيط الأمريكي العام بشكل عام خاصة خلال الفترة الراهنة التي تشتد فيها الحاجة لنشر وإعلاء تلك القيم
-----
مقالات ذات صلة
سبل مكافحة الإسلاموفوبيا في البيئة الأمريكية
الإسلام والأمريكي الأسود: نظرة تجاه الإحياء الثالث
مسلمو أمريكا بعد أربع سنوات على 11/9
المسلمون والتعددية الأمريكية منذ 11 سبتمبر
حاضر الهوية المسلمة الأمريكية
No comments:
Post a Comment