ميكافيلي أميركا: إطلالة على فكر هارفي مانسفيلد
نص المقال
خط هارفي مانسفيلد الفكري يشعر القارئ بالوهلة الأولى بالحاجة لمعرفة المزيد عن هذا الرجل وفكره، فهو أحد أهم المتخصصين الأميركيين المعاصرين في دراسة مفكري العصور الوسطى وعلى رأسهم ميكيافيللي، حتى أنه عندما قرر طلابه – وعدد منهم من أشهر قيادات المحافظين الجدد – الاحتفال به كتبوا كتابا سموه "تعليم الأمير" وأهدوه إليه في إشارة إلى اهتمام هارفي مانسفيلد بميكافيلي ودور مانسفيلد في تعليمهم السياسية على غرار ميكافيللي الذي كان يسعى لتعليم الملوك وأمراء الحرب السياسية بمفهومه الخاص
كما يعد مانسفيلد أحد أشهر طلاب ليو ستراوس – الفيلسوف الأميركي الراحل ذي الأصول الألمانية – والذي يعده البعض أبا روحيا لفكر المحافظين الجديد، وهي علاقة لا يخفيها مانسفيلد الذي يمجد ليو سترواس ويحرص على اقتفاء أثاره الفكرية مثل حرصه على الكتابة في دوريات المحافظين الجدد وعلى رأسها مجلة ذا ويكلي ستاندرد أشهر مجلاتهم، والتي يرأس تحريرها ويليام كريستول، وهو بدوره أحد أشهر الكتاب المعبرين عن فكر المحافظين الجدد والملقب بالابن المدلل للحركة وأحد طلاب مانفسيلد بجامعة هارفرد الأميركية
أفكار عميقة مقلقة
المقلق هنا هو أنك عندما تقرأ مقالات هارفي مانسفيلد في ذا ويكلي ستاندرد يصعب عليك المرور عليها مر الكرام، فهو يختلف عن بعض كتاب المحافظين الجدد الذين تتميز كتاباتهم بسطحية مضحكة في بعض الأحيان، فعندما تقرأ كتابات مانسفيلد ينبغي عليك الوقوف والعودة لقرأتها مرة أخرى ومرتين، وذلك حتى تتمكن من فهمها وفهم معانيها اليمينية الراسخة، وفك طلاسمها الفكرية والرموز التاريخية التي يستشهد بها مانسفيلد كثيرا
باختصار عندما تقرأ مقالات مانسفيلد تضطر للتوقف لأنك أمام فيلسوف كبير يحاول الكتابة للقارئ العادي، بعكس بعض الصحفيين الذين يكتبون في مجلات المحافظين الجدد، والذين يستعيضون عن معرفتهم السياسية بمواقفهم الأيدلوجية التي تصدمك بسبب تشددها وسطحيتها في آن واحد
أما مانسفيلد - أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد الأميركية منذ عام 1962، وعضو مجلس إدارة الجمعية الأميركية للعلوم السياسية - فهو حالة مختلفة، فهو مفكر كبير تسهل عليه الكتابة للمتخصصين المتعمقين في فكر العصور الوسطي مقارنة بالكتابة للقارئ الأميركي العادي، كما أن مقالاته الأكاديمية وكتبه والتي يصعب قرائها وفهمها نظرا لما تحتوي عليه من معلومات ومقارنات بين أفكار كبار الفلاسفة الغربيين تفوق بكثير أهمية مقالاته المنشورة في الصحف السيارة والمجلات الأسبوعية، والتي يحرص مانسفيلد على الكتابة فيها حرصا على القيام بدوره النضالي المنطلق من إيمانه بدور المفكر في خوض الحروب الفكرية والسياسية
إذن نحن أمام خاصة تستدعي اهتمام القارئ الأجنبي والذي يتهمه بعض الأميركيين بضعف معرفته بأميركا المحافظة، وهو اتهام يتردد في خاطرك عندما تقرأ كتابات مانسفيلد والتي تختلف كثيرا عن الكتابات الأميركي الليبرالية المنتشرة في الصحف الأميركية والدولية، فإمام مانسفيلد ينبغي على القارئ أن يشعر بأنه أمام مفكر يميني خالص قوي متمكن من مادته ويحاول صياغة فكر يميني متكامل يمكن للكتاب والساسة الصغار أن يعتمدوا عليه، ولقوة فكر مانسفيلد اليميني لابد وأن تشعر بالقلق خاصة إذا كنت من أصحاب الميول الليبرالية وإذا كنت لا تعرف كثيرا عن أميركا اليمينية
مع الدولة والمؤسسات التقليدية
فمانسفيلد يقف مع مساندة الدولة ومؤسساتها المحافظة ويقدس الدستور الأميركي والآباء المؤسسين، والعلاقة بين السلطات الأميركية، ويرفض نقد الديمقراطية الأميركية أو الحكومة الفيدرالية والتي يريد مانسفيلد تقويتها وخاصة مكتب الرئيس، كما يريد إطلاق يد الرئيس في حالة الحروب والأزمات الدولية كالحرب على الإرهاب، ويرفض الخلاف العلني بين المفكرين والساسة الأميركيين حول الأوضاع السياسية الأميركية، فهو يؤمن بالحرية وبالديمقراطية ولكنه لا يريد الأميركي العادي أن يشك في قوة حكومته ودولته ودستوره والعملية السياسية ببلاده
وبهذا يشعرك مانسفيلد أنك أمام مفكر من العصور الوسطى والتي يعود إليها مانسفيلد ولكتابها بشكل متكرر، فهو يرى أن فكر العصور الغربية الوسطي والقديمة هو الأصل وأن الفكر الحديث هو الصورة، وأن العودة إلى حكمة القدماء ضرورية إن لم تكن حتمية، وأن الحكمة حقيقة وليست نسبية، وأن الحق حق والباطل باطل، وأن لا سبيل للمهادنة في الفضيلة أو الحقيقية، وأن النسبية خطأ، وأن الصراع هو البديل، وأن البقاء للأصلح، فإذا لم تعجبك فكرة فعليك الصراع من أجل هزيمتها حتى لو كنت أكاديميا أو فيلسوفا أو مفكرا، فعليك الدخول لساحة الصراع الفكري وتلطيخ يديك بدماء الأعداء الفكرية، لا بقتلهم، ولكن بهزيمتهم فكريا وسياسيا، فمانسفيلد فارس من فرسان العصور الوسطي يرفض المهادنة، حيث يرى أن مهادنة المفكرين المحافظين لليسار الأميركي الجديد منذ ستينات القرن العشرين سمحت لهذا التيار للسيطرة على الجامعات وتلويث عقول الأميركيين فشغلتهم بالتودد للأقليات والمهاجرين والعالم الإسلامي بدلا من تقوية إيمانهم بالقيم الأميركية وبمؤسسات الحكومة الأميركية وبالبيت الأبيض وبحاجتهم للتوحد خلف تلك المؤسسات للفوز بحرب طويلة ضد أعداء أميركا عموما بما في ذلك صراعها الراهن فيما يعرف بالحرب على الإرهاب
فارس يرفض المساواة
مرة أخرى أنت أمام مفكر من العصور الوسطى يؤمن بقيم مختلفة غير القيم الليبرالية السائدة في المجتمع الأميركي والتي تعودنا على السماع عنها في الخارج، نحن أمام مفكر يؤمن بقيمه يسميها عادة بالرجولة، ويرى أنها تقترن بالرجال لا بالنساء حتى ولو وجدت أحيانا في بعض النساء مثل مارجريت تاتشر امرأة بريطانيا الحديدية، فهو يرى أن الرجولة تقترن بالرجال حتى لو وجدت أحيانا في النساء، وأن على النساء والحركة النسوية أن تشجع تلك الخاصية أو القيمة في الرجل أو الولد الصغير فبدونها سوف تضعف المجتمعات الغربية والتي بدأت تضعف بالفعل من وجهة نظرها بعد أن شنت الحركات النسوية تحت شعار المساواة حربا ضروسا على قيمة الرجولة الذكورية حتى كادت تفنيها، وبذلك أضلت الحركات النسوية الغرب ومجتمعاتها بفكرها الفاسد - كما يرى مانسفيلد - واستمرت في الهجوم على الرجولة حتى أضعفتها في الرجل وعجزت عن زرعها المستحيل في النساء واللائي بتن يتحملن ظروف حياة صعبة وإن لما تكن مستحيلة معتمدين على شركاء من الرجال ضعفت فيه خاصية الرجولة
فالرجولة نزعة أو حمية يحتاجها الرجال في الحروب والصراعات، نزعة تدعو للتفرد والقيادة والمسئولية والصراع لإثبات الذات وحماية الأسرة والوطن، فهي أشبه بقيم رجل العصور الوسطي والقديمة أو رجل الغاب الذي كان ينبغي عليه الصراع للبقاء، فالبقاء للأقوى، ولأن الدنيا تأخذ غلابا كما يرى مانسفيلد الذي يرفض قيمة المساواة، حيث يرى أن الفكر الغربي الحقيقي قائم على قيم الحرية والفردية والتنافس لا المساواة، فالمساواة غير موجودة وكاذبة، فالبشر لم ولن يكونوا متساويين، فهنا قوي وضعيف، وهناك شخص يعمل وأخر لا يعمل، فإذا أردت أن تغير من أوضاعك وحياتك ومستواك فعليك العمل ليلا نهارا والصراع والتنافس وإعداد نفسك لهزيمة خصومك، فإذا فشلت فلا تلوم إلا نفسك، ولا تطلب الحكومة أو القوانين أو الأثرياء أن يساعدوك، فالحركات الليبرالية أوهمت الأقليات والمهاجرين والفقراء بعد أن غشتهم وغشت الشعب الأميركي والمجتمعات الغربية، فهي تؤجج فيه قيمة المساواة الكاذبة وتنفخ فيه روح نقد الغرب ونخبه الحاكمة وتوهمهم بأن البشر متساويين بدلا من أن تشجعهم على العمل والكفاح، حتى أن الطلبة في الجامعات باتوا يرون أن من حقهم الحصول على درجات مرتفعة وأن من حقهم النجاح في الامتحانات وأن الأساتذة يعلمون عندهم لا العكس، وأن الأستاذة مطالبون بمناصرة الأقليات والحركات النسوية والطلاب الكسالى حتى لا يتهمون بالرجعية والتخلف، وبهذا ضعفت الجامعات وضعفت نواة بناء الجيل الأميركي والغربي الجديد
من ينقذ الغرب
أما الحل لدى مانسفيلد فهو يرتكز على عدة ركائز أساسية على رأسها وجود مفكرين أميركيين على غرار مكيافيللي والذي رفض هيمنة الدين على السياسية وعلى تعريف الفضيلة للمجتمع، وطالب بتحرير الفضيلة من الدين، وبإعادة تعريف الفضيلة السياسية على أساس واقعي يسلح الحاكم بقيم جديدة كالدهاء والقوة والبطش والقدرة على الخداع وهزيمة الأعداء، مفكرين غير منعزلين يرفضون المهادنة ومستعدين للنزول إلى ساحة المعارك الفكرية وتلطيخ أيديهم بدماء أعدائهم الفكرية والسياسية
كما أن الغرب وأميركا في حاجة لقيادات جدية على غرار رونالد ريجان والذي نجح كما يرى مانسفيلد في إشعار الأميركيين بالأمل في حكومتهم ومجتمعهم والثقة في أنفسهم من خلال ابتسامته وتفاؤله بخصوص المستقبل وقدراته الخطابية، وحرصه على عدم مهادنة أعدائه وعلى رأسهم أعدائه الخارجيين – الإتحاد السوفيتي، هذا إضافة إلى إيمان ريجان بالقيم الأميركية التقليدية وقدرته على مخاطبة المواطن الأميركي بلغة سهلة يفهمها ويقتنع بها
كما أن أميركا بحاجة لحكومة مركزية قوية مطلقة اليد في مكافحة أعدائها الخارجيين في الوقت الراهن، فهذا ما أراده الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، حيث حرصوا على بناء حكومة قوية ورئيس قادر على قيادة الجيش الأميركي في أوقات الحروب وأياديه حرة غير مقيدة، وشعبه موحد خلفه متأهب لهزيمة خصومه، فبدلا من أن ينشغل اليسار الأميركي بنقد أميركا وإسرائيل وتصرفات الحكومة الأميركية في الحرب على الإرهاب، كأن من الأفضل له حشد تأييد الشعب الأميركي لحكومته المركزية ولقيمه الراسخة ولجيشه ومقاتليه
حالة الحرب
وهنا يقول مانسفيلد أن أن "دعاة الحريات المدنية على اليمين واليسار يفترضون أن الحكومة هي هدف نقمتهم وأن الأقليات تحتاج لعناية خاصة، وقد يبدو هذا صحيحا في أوقات السلام، ولكن في حالة الحرب الحكومة هي صديقك الأول، كما يجب حماية الأغلبية"، ويمضي رامسفيلد قائلا أن "الجهاديين يقولون أنهم سوف ينتصرون لأنهم يؤمنون بالموت في حين أننا نؤمن بالحياة، هذا ليس صحيحا، نحن نؤمن بالحياة ولكن ليس بأي تكلفة، نحن أيضا نقدر التضحية والشرف من أجل الأهداف السامية، ولكننا نترك جنودنا ليتحدثوا نيابة عنا، أساتذة الجامعات – وهم من يفترض أن يتحدثوا نيابة عنا – لم يتعلموا شيئا من جنودنا، وليس لديهم ما يقولونه لكي يشرحوا لهؤلاء الجنود لماذا يضحون بحياتهم
في خاتمة هذا المقال لا يسعنا إلا التأكيد على أننا حرصنا عبر المقال على عرض أفكار هارفي مانسفيلد عرضا موضوعيا بقدر الإمكان، وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع أفكاره، وذلك انطلاقا من إيماننا بتفرد هذه الأفكار واختلافها عن الأفكار الليبرالية السائدة عن المفكرين الأميركيين خارج الولايات المتحدة، على أمل أن يقدم مقالنا نافذة على تلك الأفكار ودعوة للتعرف على كتبات مانسفيلد وغيرهم من المفكرين الأميركيين المؤثرين في الساحة الأميركية المعاصرة