مرافعة من أجل الحضارة الإسلامية المسيحية
عرض: علاء بيومي
الناشر: جريدة الرياض، 22 يوليو 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
تنبع أهمية كتاب "مرافعة من أجل الحضارة الإسلامية المسيحية" الصادر عن مطابع جامعة كولومبيا الأمريكية في أواخر عام 2004 للمستشرق الأمريكي المتعاطف مع الإسلام ريتشارد بوليت الأستاذ بجامعة كولومبيا الأمريكية من عدة مصادر أساسية، أولها أن الكتاب موجه للقارئ الأمريكي والغربي بالأساس في محاولة لتصحيح فهمه للعلاقة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، حيث يرى المؤلف أن نظرة الغربيين للإسلام قامت منذ بدايتها على أسس عدائية غير صحيحة دفعت الغربيين بشكل مستمر للاعتقاد بأن الإسلام هو حضارة معادية لهم تحاربهم
ثانيا: يقدم بوليت على مدى كتابه رؤية بديلة للإسلام وتطوره الحضاري تصور الإسلام كحضارة شقيقة للحضارتين المسيحية والغربية
ثالثا: يرد الكتاب بشكل نقدي مباشر على كتاب أمريكيين وغربيين معروفين – من أمثال صموئيل هنتينجتون مروج نظرية "صدام الحضارات" والمستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس وكتاب موالين لإسرائيل مثل مارتين كرايمر ودانيال بايبس، والذين روجوا لنظريات صدامية وغير منصفة للإسلام والمسلمين خلال السنوات الأخيرة وخاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001
رابعا: يقدم الكتاب رؤية نقدية للأسلوب العام الذي ينظر به الأمريكيون خاصة صناع السياسة منهم للإسلام والمسلمين، حيث يرى ريتشارد بوليت أن أسلوب رؤية واشنطن للعالم الإسلامي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أدى بشكل مستمر إلى فشل واشنطن في فهم العالم الإسلامي وفي فهم أسلوب التعامل البناء معه
خامسا، يقدم ريتشار بوليت في نهاية كتابه رؤية متميزة عن مستقبل الإسلام يتنبأ فيها بصعود قوى إسلامية جديدة تأتي بالأساس من أطراف العالم الإسلامي كالأقليات المسلمة في الغرب والحركات الإسلامية الديمقراطية والمثقفين الإسلاميين غير التقليديين
أولا: من أجل حضارة إسلامية مسيحية
يقول ريتشارد بوليت في مقدمة كتابه أنه شرع في تأليفه كرد فعل على أحداث سبتمبر وانطلاقا من "رغبته العارمة" في "فعل شيء مفيد" للعلاقات الإسلامية المسيحية
ويبدأ بوليت الكتاب بنقد نظرية "صدام الحضارات" للكاتب الأمريكي المعروف صموئيل هنتينجتون مشيرا إلى أن كتاب هنتينجتون يتشابه في رسالته وعنوانه مع كتاب بعنوان "الشباب المسلم في رحلة شاقة: دراسة في صدام الحضارات" نشر في عام 1926 لمبشر مسيحي يدعى باسيل ماثيوس لترويج فكرة أن المسيحية هي المنقذ للشباب المسلم، ويقول بوليت أن الفارق الأساسي بين نظرة هنتينجتون العامة للمسلمين ونظرة ماثيوس هي أن هنتينجتون يرى في الغربية العلمانية - وليس في مسيحية ماثيوس – علاجا شافيا لقضايا المسلمين والتحديات التي يواجهونها
وهنا يشير بوليت إلى أن المبشرين الأمريكيين البروتستانت هم أول من فتح نظرة أمريكا على العالم، لأن المبشرين كانوا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية من أكثر فئات المجتمع الأمريكي نشاطا على المستوى الدولي، ويري بوليت أن المبشرين نظروا للإسلام والكاثوليكية واليهودية على أنهم الأخر المعادي للذات والذي يستحيل إصلاح حاله أو التقارب معه
ثم يشير بوليت إلى تحسن العلاقة بين المسيحية واليهودية بمرور الوقت على انه إثبات لإمكانية التقارب والتعايش بين الحضارات المختلفة، وهنا يتساءل بوليت عن إمكانية حدوث تقارب بين الإسلام والمسيحية مثل التقارب الذي حدث بين المسيحية واليهودية، إذ يقول بوليت
"الصلات العقائدية والنصية بين المسيحية واليهودية ليست أوثق من الصلات بين اليهودية والإسلام أو بين المسيحية والإسلام. كما أن المؤرخين على دراية قوية بإسهامات المفكرين المسلمين لساحة الأفكار العلمية والفلسفية خلال العصور الوسطى المتأخرة التي اعتمد عليها المسيحيون واليهود الغربيون فيما بعد لبناء الغرب الحديث"
وهنا ينتقد بوليت ما اسماه "بإصرار الأمريكيين المعاصر على رؤية خلافات عميقة بين الإسلام والمسيحية"، وينادي بنظرة مختلفة تنظر للحضارتين الإسلامية والمسيحية على أنهما "حضارتان شقيقتان تتمتعان بالسيادة في مناطق متجاورة جغرافيا ويتبعان مسارين تاريخيين متشابهين"
ثم يعبر بوليت على اعتقاده بأنه
"إذ نظر للمجتمعات المسلمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وللمجتمعات المسيحية في أوربا الغربية وأمريكا على أنهم ينتمون لنفس الحضارة فسوف تأخذ الصراعات بين العنصرين المكونين لهذه الحضارة الواحدة طابعا تنازليا فوريا مشابه لما حدث للصراعات السابقة بين الكاثوليكية والبروتستانتينية"
لذا يدعو بوليت قراءه الغربيين لمراجعة بعض المعوقات الفكرية التي تحول بينهم وبين رؤية الإسلام والمسيحية على أنهم جزء من حضارة واحدة مثل فكرة أن الإسلام هاجم المسيحية والمسيحيين بشكل مستمر، وأن القصص الدينية المشتركة بين القرآن والإنجيل تم تحريفها في القرآن
ويؤكد بوليت على اعتقاده بأن الغربيين "لم يضموا الإسلام في حضارتهم" بسبب أنهم ورثوا "رؤية مسيحية للتاريخ" ترفض الأخر، ويقول
"المسيحية الغربية نظرت للإسلام عبر قرون عديدة على أنه أخر حاقد، كما أنها اخترعت عدة أسباب للحفاظ على هذه النظرة"
ويعبر بوليت عن اعتقاده بأن هذه النظرة السلبية للإسلام مثلت "منطقا" وقاعدة فكرية لإيمان الفرد الغربي بوجود صراع وعداء بين الإسلام والمسيحية وليس العكس، فالعداء لم يقود إلى صور سلبية، ولكن النظرة السلبية للإسلام هي التي قادت لإدراك العداء، مشيرا إلى أن هذه الرؤية السلبية تجلت بعد أحداث سبتمبر 2001 في إساءات بعض القيادات الدينية البروتستانتينية في الولايات المتحدة للإسلام وللمسلمين وللرسول محمد (ص)
ومع نهاية هذه الفكرة يبدأ ريتشارد بوليت الجزء الأكبر من كتابه والذي خصصه لتقديم نظرة غربية بديلة لتطور الإسلام كحضارة شقيقة للمسيحية
ثانيا: الإسلام كحضارة شقيقة للحضارة المسيحية (العصور الأولى)
يرى ريتشارد بوليت أن صعود الإسلام في قرونه الأولى وتوسعه في الشرق الأوسط مثل تحديا خطيرا للحضارة المسيحية في ذلك الوقت لأن الشرق الأوسط كان من أهم أراضي الحضارة المسيحية على الإطلاق فقد احتوى مراكز مسيحية هامة كالقدس والإسكندرية، كما أنه كان مهد بعض أكبر مفكري المسيحية بما في ذلك المسيح عليه السلام وأتباعه الإثنى عشر، وغيرهم من كبار القساوسة والشخصيات الدينية المسيحية
ويقول بوليت أن تأثيرات الشرق الأوسط الفكرية والعقائدية على المسيحية في عصر ما قبل ظهور الإسلام وتمدده مثلت دائما تأثيرا هاما على الحضارة المسيحية، وهنا يعرض أحد أفكاره الأساسية وهي أن وجود المسيحية في الشرق الأوسط ساعد أيضا الدين الإسلامي
إذ يرى بوليت أن توسع الإسلام في الشرق الأوسط كان له تأثير هام جدا على مسار الحضارتين المسيحية والإسلامية على حد سواء، وهو تأثير مازال باقيا حتى الآن وله بصمات واضحة على تطور الديانتين خاصة فيما يتعلق بمفاهيم التسامح الديني وبعلاقة الدين بالمجتمع وبالدولة، وهي قضية يوضحها بوليت بشكل تدريجي
حيث يرى بوليت أن الشرق الأوسط وهو مهد الديانات السماوية سيطرت عليه بالأساس ديانات توحيدية مما مهد للإسلام وجعله فرصة انتشاره كبيرة، في الوقت ذاته اضطرت المسيحية الغربية بعد خسارتها للشرق الأوسط للتوسع في بلدان أوربا والتي سيطرت عليها أديان وثنية بالأساس، الأمر الذي حمل المسيحية مشقة مواجهة عقائد هذه القبائل الوثنية ومحاربتها أحيانا أو تبني بعض مظاهرها أحيانا أخرى بسبب توغلها في ثقافات القبائل الأوربية، وبذلك تكون المسيحية قد مهدت للإسلام والذي يعد أكثر حظا
وهنا يعبر بوليت عن رفضه لفكرة أن الإسلام انتشر سريعا عن طريق الغزو، إذ يرى أن الحقيقة هي غير ذلك، وأن انتشار الإسلام في الشرق الأوسط تم من خلال عمليه تدريجية استغرقت أجيال كاملة، وذلك لعدة أسباب من بينها أن الأمم التي دخلها الإسلام لم تكن متعلمة كما أن سرعة انتشار المعلومات في ذلك الوقت كانت بطيئة جدا كما أن المسلمين الأوائل تحدثوا العربية بالأساس وهو ما يعني أنهم لم يكونوا قادرين على تحدث لغات أهل البلاد المختلفة التي فتحوها
ولذا يرى بوليت أن أسلمة البلدان التي فتحها المسلمون هي عملية استغرقت قرون طويلة وإن كان الإسلام كان أكثر حظا من المسيحية لأنه لم يواجه شعوب وثنية مثل الشعوب التي واجهتها المسيحية في أوربا، الأمر الذي فرض على المسيحية خوض عدد كبير من الحروب مع القبائل الوثنية لكي تنتشر، ولكن الإسلام في المقابل أظهر تعاطفا واحتراما كبيرا للشعوب التي دخلها والتي كانت شعوب توحيدية في الأساس
وفي مقارنة مثيرة يقارن بوليت بين دور العلماء المسلمين ودور رجال الدين المسيحي، إذ يرى أن علماء المسيحية والإسلام لعبوا أدوارا أساسية في نشر الديانتين، ويقول أن العلماء المسلمين مالوا دائما للانخراط في الحياة العامة والاجتماعية إضافة إلى كونهم علماء، فقد عمل غالبيتهم في التجارة وفي أعمال حرفية وكانوا يجلسون لتعليم الناس في أوقات أخرى، في حين مال رجال الدين المسيحي للعزلة في تجمعات دينية وتعليمية خاصة غير مفتوحة أمام الجماهير
وهنا يؤكد بوليت على أن الإسلام لا يعطي أية سلطة دينية للعلماء ولا يتعرف بوجود أي وساطة بين العبد وربه، كما أنه لا يتعرف بوجود كنيسة أو مؤسسة دينية مقدسة للعلماء، مما جعل علماء الإسلام يتمتعون باستقلالية وعدم مركزية كبيرتين
كما أن العلماء المسلمين نموا بشكل مستمر بعيدا عن سلطة الحكام المسلمين الذين حاولوا دائما الضغط عليهم وإخضاعهم، ويقول بوليت أن الحكام المسلمين عجزوا في أن يمتلكوا سلطة تفسير الدين الإسلامي التي ظلت دائما مقصورة على العلماء، لذا سعى الحكام إلى تقوية طوائف دينية على أخرى وإلى احتكار سلطة تعيين القضاة، ولكنهم فشلوا في أن ينزعوا عن العلماء سلطة تفسير الإسلام والشريعة الإسلامية، خاصة وأن العلماء المسلمين والدين الإسلامي تمتعوا بعدم مركزية كبيرة في هذا الأمر، فقد ظل من حق الأفراد العاديين النبوغ العلمي والانضمام لمصاف العلماء دون تدخل الدولة في ذلك
ويقول بوليت أن عدم توحد العلماء المسلمين في مؤسسات دينية مركزية أدى إلى هزيمتهم أمام السلطان ماديا ولكنهم احتفظوا دائما بسلطة تفسير الدين الإسلامي، ولكن وجود الكنيسة المسيحية وتوحدها جعلها تدخل في صراعات عنيفة مع الحكام الأوربيين والذين أخضعوا الكنيسة في النهاية وفرضوا عليها الانصياع لقوانين بشرية
كما يرى بوليت أن عدم مركزية علماء الإسلام ساعدهم على احتواء وربما التكيف مع الفرق الإسلامية الجديدة مثل الصوفية، في حين أن مركزية المسيحية متمثلة في الكنيسة أدت إلى دخولها في صراعات عنيفة مع الفرق المسيحية الأخرى مثل البروتستانتينية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انقسام المسيحية ورغبة المسيحيين في فصل الدين عن الدولة، في حين أن عدم مركزية الإسلام سمحت بوجود الطوائف الجديدة كالصوفية مع بقاء التيار العام للإسلام
وفي نهاية الفصل الأول من الكتاب يؤكد بوليت على إحدى أفكار الكتاب الرئيسية وهي أن تراجع الإسلام الحضاري منذ القرن الخامس عشر الميلادي كان تراجعا على الجانب الحضاري المادي فقط في حين حافظ الإسلام على انتشاره الديني بمعدلات فاقت المسيحية خاصة في بلدان شرق أسيا وفي بلدان وسط أفريقيا، ويرى بوليت أن أحد أسباب انتشار الإسلام الرئيسية تعود إلى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في الإسلام، مما جعل الشعوب التي دخلها الإسلام تنظر للعلماء المسلمين وللإسلام على أنهم أدوات وشركاء لهم في مقاومة السلطة
وفي الخاتمة هذا الجزء من الدراسة يدعو بوليت الأمريكيين لإعادة قراءة تاريخ الإسلام من منظور جديد يركز على خصائص الإسلام الإيجابية مثل مرونته وعدم مركزيته ودوره في تطور الحضارة الغربية وعلاقته بالحضارة الغربية كحضارة شقيقة لها
ثالثا: كيف يمكن أن يفهم الغربيون مسار تطور الحضارة الإسلامية
يبدأ ريتشارد بوليت الفصل الثاني من كتابه بانتقاد كتاب المستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس المنشور بعنوان "أين الخطأ" والذي نشره لويس بعد أحداث سبتمبر 2001 لتفسير سبب العداء بين الإسلام والغرب، وتقوم فكرة الكتاب على أن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب تقدمه عليهم، وأن تفاعل المسلمين المتخلفين ماديا مع الغرب المتقدم يشعرهم بشكل مستمر بتراجعهم وبحقدهم عليه
وهنا يرى ريتشارد بوليت أن أفكار برنارد لويس ليست صحيحة لعدة أسباب على رأسها أن العلاقة بين المسلمين والغرب هي علاقة قديمة، وأن الغرب نفسه مر عبر هذه العلاقة بفترات تطور عديدة بعضها سلبي والأخر إيجابي، فالغرب خلال رحلة تطوره أنتج بعض النماذج الحضارية السلبية كالنازية والفاشية، فكيف يمكن أن يكون المسلمون قد أرادوا أن يقلدوا الغرب على طول الخط، فالغرب نفسه لم يكن يعرف إلى أي اتجاه يسير، كما أن المسلمين في بعض فترات تطورهم وضعوا كأهداف أساسية لهم التحرر من سيطرة الغرب نفسه عليهم، كما حدث خلال فترة الثورة ضد الاستعمار في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين
لذا يؤكد بوليت أن المسلمين يسعون للتطور لأسباب خاصة بهم ولرؤية ذاتية كانوا يسعون لتحقيقها وليس لمجرد تقليد الغرب أو اللحاق به، ومن أهم أسباب المسلمين الخاصة قضايا مثل: زيادة ثرواتهم الوطنية، وحصولهم على حرياتهم السياسية وحرية التعبير عن الرأي في أوطانهم، وتحقيق النمو الاقتصادي، ومحاربة البطالة وإصلاح التعليم، والإعداد لنموهم السكاني السريع، لذا ينصح بوليت الغربيين بقراءة تاريخ المسلمين والعرب من وجهة نظر المسلمين والعرب أنفسهم
ومن أهم مظاهر تطور الحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر الميلادي – والتي يركز عليها ريتشارد بوليت في كتابه – هي تطور العلاقة بين السلطة والحكام في ظل الضغوطات الأوربية المتنامية على العالم الإسلامي منذ ذلك الحين
حيث يرى بوليت أن العلماء المسلمين الذين تمكنوا من حرمان الحكام من سلطة تفسير الشريعة الإسلامية والتي تعد أساس الحكم والعدالة في الإسلام فشلوا في فرض أفكارهم عن العدالة وعن الحكومة الراشدة على الحكام المسلمين، وأن هذا الفشل زاد بشكل متنامي منذ القرن الخامس عشر، حيث سعى الحكام لبناء مدارس دينية حكومية بديلة لمدارس العلماء ولامتلاك سلطة تعيين القضاء ورجال الإفتاء
ويقول بوليت أن بعض الحكام المسلمين – مثل محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة - مالوا في علاقتهم بأوربا إلى الاستعانة بأوربا وبأفكارها المتقدمة كوسيلة أساسية للحفاظ على مناصبهم وبناء قوة أنظمتهم من خلال الاستعانة بالخبراء والعلوم الأوربية لبناء الجيوش النظامية ونظم التسليح المتقدمة وإدارة البلاد بشكل مركزي متقدم
وهنا يؤكد بوليت على أن العلماء المسلمين ظلوا دائما على جانب الجماهير وظلوا مراكز لمواجهة السلطة ولم يحدث أن تحالفت العلماء المسلمين كجماعة أو كتكتل مع الحكام كما حدث في بعض البلدان الأوربية الكاثوليكية
لذا يرى بوليت أن القرنين الماضيين شهدا محاولات مستمرة من قبل الحكومات المسلمة للحد من دور العلماء مستعينين أحيانا بأفكار ونظم حكم أوربية سلطوية، ويقول بوليت أن هذا النوع من العلمانية لم يكن ضد دور الدين ولكنه كان ضد دور العلماء، وأنه أدى في النهاية إلى بناء سلطات حكم مطلقة غير ديمقراطية
ويقول بوليت أن ما لم يتوقعه الحكام المسلمين هو أن ضغطهم المستمر على العلماء المسلمين ومساعيهم لتقليص دورهم في الحياة العامة والسياسية أدى بسبب نمو وسائل الاتصال والمواصلات إلى نمو طبقة جديدة من القادة الدينيين الجماهيريين الأقل تأهيلا من الناحية الشرعية والأكثر جماهيرية وعنفا في بعض الأحيان
حيث يرى بوليت أن انتشار المطابع ووسائل النشر والاتصالات الحديثة أدت إلى انتشار الأفكار الإسلامية على نطاق أوسع وأسرع مقارنة بالماضي عجزت الحدود الوطنية عن مواجهته والحد منه منذ نهاية القرن التاسع عشر بشكل متصاعد
وقد وجدت هذه الأفكار تربة خصبة للنمو والانتشار في المجتمعات المسلمة التي تميل للتدين والتوحيد، خاصة مع انتشار التعليم في المجتمعات المسلمة، وفي أوساط الشباب المسلم غير الراضي عن أوضاع مجتمعاته الاقتصادية والسياسية
ومع تراجع سلطة العلماء التقليديين أدت هذه الظواهر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لظهور قادة جدد للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي
وهنا يؤكد ريتشارد بوليت للقارئ الغربي أن التجربة التي مرت بها الكنيسة في علاقتها بالحكومات والتي أدت في النهاية إلى فصل الدين عن الدولة في الغرب لن تتكرر في العالم الإسلامي، وأنه بات على الغرب أن يفهم تطور الحضارة الإسلامية على أنه تطور مختلف
فالغربيون الذين يحلمون بفصل الدين عن الدولة بالعالم الإسلامي لا يفهمون طبيعة تطور العالم الإسلامي، فالدين في الحضارة الإسلامية ليس له سلطة مركزية كما أنه وقف في غالبية الأحيان في صف المعارضة الجماهيرية وحافظ على استقلاله في مواجهة الحاكم، في حين أن مساعي الحكام المسلمين للحد من سلطة رجال الدين مستعينين أحيانا بأدوات السلطة والقمع الغربية لم تؤدي إلى الديمقراطية بل قادت في النهاية إلى الحد من سلطة العلماء التقليديين المؤهلين وظهور طبقة جديدة من القادة الحركيين الأقل تأهيلا من الناحية الشرعية
رابعا: نظرة أمريكا للإسلام
يخصص ريتشارد بوليت الفصل الثالث من كتابه للحديث عن نظرة الأمريكيين للإسلام والمشاكل التي شابت هذه النظرة وجعلتها عاجزة عن فهم تطورات العالم الإسلامي والتنبؤ بها
ويرى بوليت أن نظرة الأمريكيين للإسلام وللعالم بشكل عام تميزت بقدر كبير من المثالية والخيال، فالأمريكيون نظروا دائما لأنفسهم على أنهم دولة خيرة جديدة مختلفة عن أوربا وصلت لأعلى مراتب الحضارة البشرية وكل أملها هو أن يتطور العالم كما تطورت وأن تصل بقية شعوب العالم إلى ما وصل إليه الأمريكيون من تقدم حضاري
لذا يرى بوليت أن الأمريكيين عندما نظروا للعالم الإسلامي لم يكونوا معنيين بدراسة العالم الإسلامي نفسه أو بفهم ما كان يجري بداخله من تحولات، فالعالم الإسلامي بالنسبة للأمريكيين كان يعبر عن جزء من العالم لم يصل بعد لما وصلت إليه أمريكا من حضارة مدنية وإن كان يسير – من وجهة نظر الأمريكيين – بشكل حتمي نحو المدنية الأمريكية، فالأمريكيون لم يفهموا لماذا قد ترفض بعض دول العالم السير في طريق المدنية الأمريكية التي قادت أمريكا للازدهار
لذا يرى بوليت أن رواد دراسات الشرق الأوسط بالجامعات الأمريكية - خاصة في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وهو الجيل الذي شهد انفتاح أمريكا على العالم – درسوا الشرق الأوسط بالأساس على أنه مجتمعات تمر بمرحلة تغيير سريع وحتمي لتحديث أنفسها وفقا لنموذج التحديث الغربي، لذا ركز الأساتذة الأمريكيين على مظاهر الحياة والفئات الشرق أوسطية التي تثبت أفكارهم، وكان هدفهم هو أن يرجو لهذه الفئات ويدعموها لأنها كانت من وجهة نظرهم فئات تحب أمريكا وتريد أن تطور بلدانها على النموذج الأمريكي الغربي
ويقول بوليت أن من بين هذه الفئات الحداثية كانت بعض النخب الشرق أوسطية التي تولت قيادة بلادها بعد الاستقلال، ويقول بوليت أن أمريكا مدفوعة برغبتها في العثور على نخب شرق أوسطية تحبها رغبت في التحالف مع هذه النخب وعجزت عن فهم أن هذه النخب كانت تسعى بالأساس لامتلاك السلطة وليس لتحديث بلدانها
لذا أهمل حقل دراسات الشرق الأوسط الأمريكي دراسة الإسلام ونظروا إليه على أنه قوة غير حداثية تنتمي للماضي، وهنا يقول بوليت
"البحث عن شرق أوسطيين يمكننا أن نحبهم – لأنهم يحبوننا – أعمى دراسات الشرق الأوسط منذ بدايتها"
ويقول بوليت أن مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي السابقة تحول اهتمام دراسات الشرق الأوسط الأمريكية بعيدا عن تحديث الشرق الأوسط ونحو ضمان عدم وقوعه تحت سيطرة الشيوعية، ومن ثم أصبح هدف الأمريكيين هو محاربة الشيوعية في العالم الإسلامي وليس تحريره وتحديثه
لذا يرى بوليت أن حقل دراسات الشرق الأوسط الأمريكي عجز عن فهم العالم الإسلامي وعجز عن التنبؤ بالتطورات التي قد تحدث له كما أنه عجز عن توجيه السياسة الأمريكي لطريق يساعدها على التعاون مع الشرق الأوسط الحقيقي، فأمريكا مازالت مدفوعة حتى الآن برغبتها في صناعة شرق أوسط يستحق حبها لأنه يحبها ويريد أن يكون مثلها تماما
وهنا يرى بوليت أن الأفكار التي نادى بها بعض المحافظين الجدد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي نادت بإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقا لنموذج تريده أمريكا ليست جديدة على واشنطن
خامسا: مستقبل العالم الإسلامي
يطرح ريتشارد بوليت في الجزء الأخير من دراسته تصورا متميزا لمستقبل الحضارة الإسلامي وتطورها، وفي البداية يدعو الغرب والولايات المتحدة لفهم مسار تطور العالم الإسلامي كما يراه المسلمون أنفسهم وليس كما يحب أن يراه الغرب
كما يحذر بوليت من مساعي بعض المفكرين والسياسيين الغربيين للتنبؤ بحلول سريعة لمشاكل العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي كما يراه بوليت هو حضارة كبيرة تحتاج لفترات طويلة لكي تتغير وتتطور، حيث يرى بوليت أن العالم الإسلامي يمر بدورات تاريخية تقدر طول كل دورة منها بأربعة قرون، ويرى بوليت أن القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام (من القرن السادس وحتى العاشر الميلادي) شهدت فترة صعود الإسلام وانتشاره في العالم
أما القرون من الخامس وحتى الثامن (الحادي عشر وحتى الرابع عشر بالتقويم الميلادي) فقد شهدت صراعا داخل الإسلام نفسه حول الأفكار الإسلامية التي يجب أن تسود المجتمعات المسلمة، وفي الدورة الثالثة الممتدة من القرنين التاسع وحتى الثاني عشر (الخامس عشر وحتى الثامن عشر) فقد شهدت صراع الإسلام مع التوسع الغربي وبداية تراجع بعض المجتمعات المسلمة
أما الفترة الحالية الممتدة من القرن التاسع عشر وحتى القرن الثاني والعشرين ميلاديا فهي فترة تجريبية تشهد محاولات طورها المسلمون للنمو في ظل علاقتهم الصراعية مع الغرب، وقد تنبأ بوليت بأن بصعود وهبوط هذه المحاولات بشكل متكرر خلال الفترة الحالية حتى يعثر المسلمون على صيغ أفضل تحقق لهم النمو الذي ينشدونه وأن يبدأ هذا النمو مع القرن الثالث والعشرين الميلادي
كما يتنبأ بوليت بأن يأتي التغيير من أطراف العالم الإسلام وليس من مركزه، فهو يعتقد أن أطراف العالم الإسلامي كانت مصدر عدد من أهم التغييرات التي طرأت على الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى، وهو يضرب مثلا بأن تجميع كتب الحديث الكبرى ازدهر على أيدي علماء من شرق أسيا وليس من الجزيرة العربية، كما أن المدارس الإسلامية بدأت أولا في وسط أسيا ثم انتشرت في بقية العالم الإسلامي
ويرى بوليت أن عدم مركزية الإسلام تساعد على ذلك، فالإسلام يعطي دائما الفرصة لأطرافه للنمو والتطور كما يقوم بالتكيف مع هذه التطورات الجديدة بمرور الوقت، كما يرى أن الإسلام في العصر الحالي مليء بالإطراف بسبب توسعه الكبير في شتى بلدان العالم ووجوده المتزايد في حضارات أخرى
كما أن تطور وسائل الاتصالات أدت إلى ضعف سلطة المركز الدينية لأن وسائل الاتصالات الحديثة مكنت الأفكار من الانتشار على نطاق واسع جدا كما أنها شكلت شبكات جماهيرية عديدة تمتد أحيانا على إطار دولي عالمي
ويقول بوليت أن هذا التوسع قد تكون له أثار سلبية لأنه يضعف من نفوذ المرجعية الإسلامية ويجعل من الصعب التأكد من كفاءة قيادات المسلمين الدينية، لذا يأمل بوليت أن تستعيد مؤسسات المسلمين الدينية التقليدية جزء من نفوذها حتى تتمكن من نشر الكفاءات والأفكار الرصينة في العالم الإسلامي
وفي النهاية يرصد بوليت ثلاثة جماعات أطراف مسلمة أساسية يمكن أن تساهم في تطوير الحضارة الإسلامية
الجماعة الأولى هي مسلمو الغرب حيث يرى بوليت أن خبرة مسلمي الخرب وحياتهم واستيطانهم في المجتمعات الغربية سوف تساهم في تطويرهم لأفكار إسلامية جديدة
الجماعة الثانية هي الأحزاب السياسية الديمقراطية في العالم الإسلامي، ويرى بوليت أن هذه الأحزاب سواء كانت دينية أو غير دينية سوف تساهم في تطوير العالم الإسلامي إذا طورت أفكار ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتسامح، وينصح بوليت هذه الجماعات بتطوير برامج متطورة وشاملة لحكم بلادها وعدم الاكتفاء بإنتاج خطابات جماهيرية تقتصر على إرضاء رغبات الجماهير
الجماعة الثالثة هي المثقفون المسلمون الذي تلقوا تعليمهم في مؤسسات أكاديمية غربية كبرى، ويرى بوليت أن هؤلاء المثقفين المتزايدين العدد على الرغم من افتقار بعضهم لفرصة تعميق معرفتهم الدينية التقليدية إلا أنهم بدءوا في تطوير أفكار إسلامية جديدة بحكم خلفيتهم الإسلامية والغربية في آن واحد
وفي نهاية كتابه يرى بوليت أن المصلحين المسلمين القادرين على تغيير العالم الإسلامي لم يظهروا بعد ولكن أعرب عن أمله في أن تشهد العقود الثلاثة القادمة ظهور بعض هؤلاء المجددين
الناشر: جريدة الرياض، 22 يوليو 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
تنبع أهمية كتاب "مرافعة من أجل الحضارة الإسلامية المسيحية" الصادر عن مطابع جامعة كولومبيا الأمريكية في أواخر عام 2004 للمستشرق الأمريكي المتعاطف مع الإسلام ريتشارد بوليت الأستاذ بجامعة كولومبيا الأمريكية من عدة مصادر أساسية، أولها أن الكتاب موجه للقارئ الأمريكي والغربي بالأساس في محاولة لتصحيح فهمه للعلاقة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، حيث يرى المؤلف أن نظرة الغربيين للإسلام قامت منذ بدايتها على أسس عدائية غير صحيحة دفعت الغربيين بشكل مستمر للاعتقاد بأن الإسلام هو حضارة معادية لهم تحاربهم
ثانيا: يقدم بوليت على مدى كتابه رؤية بديلة للإسلام وتطوره الحضاري تصور الإسلام كحضارة شقيقة للحضارتين المسيحية والغربية
ثالثا: يرد الكتاب بشكل نقدي مباشر على كتاب أمريكيين وغربيين معروفين – من أمثال صموئيل هنتينجتون مروج نظرية "صدام الحضارات" والمستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس وكتاب موالين لإسرائيل مثل مارتين كرايمر ودانيال بايبس، والذين روجوا لنظريات صدامية وغير منصفة للإسلام والمسلمين خلال السنوات الأخيرة وخاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001
رابعا: يقدم الكتاب رؤية نقدية للأسلوب العام الذي ينظر به الأمريكيون خاصة صناع السياسة منهم للإسلام والمسلمين، حيث يرى ريتشارد بوليت أن أسلوب رؤية واشنطن للعالم الإسلامي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أدى بشكل مستمر إلى فشل واشنطن في فهم العالم الإسلامي وفي فهم أسلوب التعامل البناء معه
خامسا، يقدم ريتشار بوليت في نهاية كتابه رؤية متميزة عن مستقبل الإسلام يتنبأ فيها بصعود قوى إسلامية جديدة تأتي بالأساس من أطراف العالم الإسلامي كالأقليات المسلمة في الغرب والحركات الإسلامية الديمقراطية والمثقفين الإسلاميين غير التقليديين
أولا: من أجل حضارة إسلامية مسيحية
يقول ريتشارد بوليت في مقدمة كتابه أنه شرع في تأليفه كرد فعل على أحداث سبتمبر وانطلاقا من "رغبته العارمة" في "فعل شيء مفيد" للعلاقات الإسلامية المسيحية
ويبدأ بوليت الكتاب بنقد نظرية "صدام الحضارات" للكاتب الأمريكي المعروف صموئيل هنتينجتون مشيرا إلى أن كتاب هنتينجتون يتشابه في رسالته وعنوانه مع كتاب بعنوان "الشباب المسلم في رحلة شاقة: دراسة في صدام الحضارات" نشر في عام 1926 لمبشر مسيحي يدعى باسيل ماثيوس لترويج فكرة أن المسيحية هي المنقذ للشباب المسلم، ويقول بوليت أن الفارق الأساسي بين نظرة هنتينجتون العامة للمسلمين ونظرة ماثيوس هي أن هنتينجتون يرى في الغربية العلمانية - وليس في مسيحية ماثيوس – علاجا شافيا لقضايا المسلمين والتحديات التي يواجهونها
وهنا يشير بوليت إلى أن المبشرين الأمريكيين البروتستانت هم أول من فتح نظرة أمريكا على العالم، لأن المبشرين كانوا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية من أكثر فئات المجتمع الأمريكي نشاطا على المستوى الدولي، ويري بوليت أن المبشرين نظروا للإسلام والكاثوليكية واليهودية على أنهم الأخر المعادي للذات والذي يستحيل إصلاح حاله أو التقارب معه
ثم يشير بوليت إلى تحسن العلاقة بين المسيحية واليهودية بمرور الوقت على انه إثبات لإمكانية التقارب والتعايش بين الحضارات المختلفة، وهنا يتساءل بوليت عن إمكانية حدوث تقارب بين الإسلام والمسيحية مثل التقارب الذي حدث بين المسيحية واليهودية، إذ يقول بوليت
"الصلات العقائدية والنصية بين المسيحية واليهودية ليست أوثق من الصلات بين اليهودية والإسلام أو بين المسيحية والإسلام. كما أن المؤرخين على دراية قوية بإسهامات المفكرين المسلمين لساحة الأفكار العلمية والفلسفية خلال العصور الوسطى المتأخرة التي اعتمد عليها المسيحيون واليهود الغربيون فيما بعد لبناء الغرب الحديث"
وهنا ينتقد بوليت ما اسماه "بإصرار الأمريكيين المعاصر على رؤية خلافات عميقة بين الإسلام والمسيحية"، وينادي بنظرة مختلفة تنظر للحضارتين الإسلامية والمسيحية على أنهما "حضارتان شقيقتان تتمتعان بالسيادة في مناطق متجاورة جغرافيا ويتبعان مسارين تاريخيين متشابهين"
ثم يعبر بوليت على اعتقاده بأنه
"إذ نظر للمجتمعات المسلمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وللمجتمعات المسيحية في أوربا الغربية وأمريكا على أنهم ينتمون لنفس الحضارة فسوف تأخذ الصراعات بين العنصرين المكونين لهذه الحضارة الواحدة طابعا تنازليا فوريا مشابه لما حدث للصراعات السابقة بين الكاثوليكية والبروتستانتينية"
لذا يدعو بوليت قراءه الغربيين لمراجعة بعض المعوقات الفكرية التي تحول بينهم وبين رؤية الإسلام والمسيحية على أنهم جزء من حضارة واحدة مثل فكرة أن الإسلام هاجم المسيحية والمسيحيين بشكل مستمر، وأن القصص الدينية المشتركة بين القرآن والإنجيل تم تحريفها في القرآن
ويؤكد بوليت على اعتقاده بأن الغربيين "لم يضموا الإسلام في حضارتهم" بسبب أنهم ورثوا "رؤية مسيحية للتاريخ" ترفض الأخر، ويقول
"المسيحية الغربية نظرت للإسلام عبر قرون عديدة على أنه أخر حاقد، كما أنها اخترعت عدة أسباب للحفاظ على هذه النظرة"
ويعبر بوليت عن اعتقاده بأن هذه النظرة السلبية للإسلام مثلت "منطقا" وقاعدة فكرية لإيمان الفرد الغربي بوجود صراع وعداء بين الإسلام والمسيحية وليس العكس، فالعداء لم يقود إلى صور سلبية، ولكن النظرة السلبية للإسلام هي التي قادت لإدراك العداء، مشيرا إلى أن هذه الرؤية السلبية تجلت بعد أحداث سبتمبر 2001 في إساءات بعض القيادات الدينية البروتستانتينية في الولايات المتحدة للإسلام وللمسلمين وللرسول محمد (ص)
ومع نهاية هذه الفكرة يبدأ ريتشارد بوليت الجزء الأكبر من كتابه والذي خصصه لتقديم نظرة غربية بديلة لتطور الإسلام كحضارة شقيقة للمسيحية
ثانيا: الإسلام كحضارة شقيقة للحضارة المسيحية (العصور الأولى)
يرى ريتشارد بوليت أن صعود الإسلام في قرونه الأولى وتوسعه في الشرق الأوسط مثل تحديا خطيرا للحضارة المسيحية في ذلك الوقت لأن الشرق الأوسط كان من أهم أراضي الحضارة المسيحية على الإطلاق فقد احتوى مراكز مسيحية هامة كالقدس والإسكندرية، كما أنه كان مهد بعض أكبر مفكري المسيحية بما في ذلك المسيح عليه السلام وأتباعه الإثنى عشر، وغيرهم من كبار القساوسة والشخصيات الدينية المسيحية
ويقول بوليت أن تأثيرات الشرق الأوسط الفكرية والعقائدية على المسيحية في عصر ما قبل ظهور الإسلام وتمدده مثلت دائما تأثيرا هاما على الحضارة المسيحية، وهنا يعرض أحد أفكاره الأساسية وهي أن وجود المسيحية في الشرق الأوسط ساعد أيضا الدين الإسلامي
إذ يرى بوليت أن توسع الإسلام في الشرق الأوسط كان له تأثير هام جدا على مسار الحضارتين المسيحية والإسلامية على حد سواء، وهو تأثير مازال باقيا حتى الآن وله بصمات واضحة على تطور الديانتين خاصة فيما يتعلق بمفاهيم التسامح الديني وبعلاقة الدين بالمجتمع وبالدولة، وهي قضية يوضحها بوليت بشكل تدريجي
حيث يرى بوليت أن الشرق الأوسط وهو مهد الديانات السماوية سيطرت عليه بالأساس ديانات توحيدية مما مهد للإسلام وجعله فرصة انتشاره كبيرة، في الوقت ذاته اضطرت المسيحية الغربية بعد خسارتها للشرق الأوسط للتوسع في بلدان أوربا والتي سيطرت عليها أديان وثنية بالأساس، الأمر الذي حمل المسيحية مشقة مواجهة عقائد هذه القبائل الوثنية ومحاربتها أحيانا أو تبني بعض مظاهرها أحيانا أخرى بسبب توغلها في ثقافات القبائل الأوربية، وبذلك تكون المسيحية قد مهدت للإسلام والذي يعد أكثر حظا
وهنا يعبر بوليت عن رفضه لفكرة أن الإسلام انتشر سريعا عن طريق الغزو، إذ يرى أن الحقيقة هي غير ذلك، وأن انتشار الإسلام في الشرق الأوسط تم من خلال عمليه تدريجية استغرقت أجيال كاملة، وذلك لعدة أسباب من بينها أن الأمم التي دخلها الإسلام لم تكن متعلمة كما أن سرعة انتشار المعلومات في ذلك الوقت كانت بطيئة جدا كما أن المسلمين الأوائل تحدثوا العربية بالأساس وهو ما يعني أنهم لم يكونوا قادرين على تحدث لغات أهل البلاد المختلفة التي فتحوها
ولذا يرى بوليت أن أسلمة البلدان التي فتحها المسلمون هي عملية استغرقت قرون طويلة وإن كان الإسلام كان أكثر حظا من المسيحية لأنه لم يواجه شعوب وثنية مثل الشعوب التي واجهتها المسيحية في أوربا، الأمر الذي فرض على المسيحية خوض عدد كبير من الحروب مع القبائل الوثنية لكي تنتشر، ولكن الإسلام في المقابل أظهر تعاطفا واحتراما كبيرا للشعوب التي دخلها والتي كانت شعوب توحيدية في الأساس
وفي مقارنة مثيرة يقارن بوليت بين دور العلماء المسلمين ودور رجال الدين المسيحي، إذ يرى أن علماء المسيحية والإسلام لعبوا أدوارا أساسية في نشر الديانتين، ويقول أن العلماء المسلمين مالوا دائما للانخراط في الحياة العامة والاجتماعية إضافة إلى كونهم علماء، فقد عمل غالبيتهم في التجارة وفي أعمال حرفية وكانوا يجلسون لتعليم الناس في أوقات أخرى، في حين مال رجال الدين المسيحي للعزلة في تجمعات دينية وتعليمية خاصة غير مفتوحة أمام الجماهير
وهنا يؤكد بوليت على أن الإسلام لا يعطي أية سلطة دينية للعلماء ولا يتعرف بوجود أي وساطة بين العبد وربه، كما أنه لا يتعرف بوجود كنيسة أو مؤسسة دينية مقدسة للعلماء، مما جعل علماء الإسلام يتمتعون باستقلالية وعدم مركزية كبيرتين
كما أن العلماء المسلمين نموا بشكل مستمر بعيدا عن سلطة الحكام المسلمين الذين حاولوا دائما الضغط عليهم وإخضاعهم، ويقول بوليت أن الحكام المسلمين عجزوا في أن يمتلكوا سلطة تفسير الدين الإسلامي التي ظلت دائما مقصورة على العلماء، لذا سعى الحكام إلى تقوية طوائف دينية على أخرى وإلى احتكار سلطة تعيين القضاة، ولكنهم فشلوا في أن ينزعوا عن العلماء سلطة تفسير الإسلام والشريعة الإسلامية، خاصة وأن العلماء المسلمين والدين الإسلامي تمتعوا بعدم مركزية كبيرة في هذا الأمر، فقد ظل من حق الأفراد العاديين النبوغ العلمي والانضمام لمصاف العلماء دون تدخل الدولة في ذلك
ويقول بوليت أن عدم توحد العلماء المسلمين في مؤسسات دينية مركزية أدى إلى هزيمتهم أمام السلطان ماديا ولكنهم احتفظوا دائما بسلطة تفسير الدين الإسلامي، ولكن وجود الكنيسة المسيحية وتوحدها جعلها تدخل في صراعات عنيفة مع الحكام الأوربيين والذين أخضعوا الكنيسة في النهاية وفرضوا عليها الانصياع لقوانين بشرية
كما يرى بوليت أن عدم مركزية علماء الإسلام ساعدهم على احتواء وربما التكيف مع الفرق الإسلامية الجديدة مثل الصوفية، في حين أن مركزية المسيحية متمثلة في الكنيسة أدت إلى دخولها في صراعات عنيفة مع الفرق المسيحية الأخرى مثل البروتستانتينية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انقسام المسيحية ورغبة المسيحيين في فصل الدين عن الدولة، في حين أن عدم مركزية الإسلام سمحت بوجود الطوائف الجديدة كالصوفية مع بقاء التيار العام للإسلام
وفي نهاية الفصل الأول من الكتاب يؤكد بوليت على إحدى أفكار الكتاب الرئيسية وهي أن تراجع الإسلام الحضاري منذ القرن الخامس عشر الميلادي كان تراجعا على الجانب الحضاري المادي فقط في حين حافظ الإسلام على انتشاره الديني بمعدلات فاقت المسيحية خاصة في بلدان شرق أسيا وفي بلدان وسط أفريقيا، ويرى بوليت أن أحد أسباب انتشار الإسلام الرئيسية تعود إلى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في الإسلام، مما جعل الشعوب التي دخلها الإسلام تنظر للعلماء المسلمين وللإسلام على أنهم أدوات وشركاء لهم في مقاومة السلطة
وفي الخاتمة هذا الجزء من الدراسة يدعو بوليت الأمريكيين لإعادة قراءة تاريخ الإسلام من منظور جديد يركز على خصائص الإسلام الإيجابية مثل مرونته وعدم مركزيته ودوره في تطور الحضارة الغربية وعلاقته بالحضارة الغربية كحضارة شقيقة لها
ثالثا: كيف يمكن أن يفهم الغربيون مسار تطور الحضارة الإسلامية
يبدأ ريتشارد بوليت الفصل الثاني من كتابه بانتقاد كتاب المستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس المنشور بعنوان "أين الخطأ" والذي نشره لويس بعد أحداث سبتمبر 2001 لتفسير سبب العداء بين الإسلام والغرب، وتقوم فكرة الكتاب على أن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب تقدمه عليهم، وأن تفاعل المسلمين المتخلفين ماديا مع الغرب المتقدم يشعرهم بشكل مستمر بتراجعهم وبحقدهم عليه
وهنا يرى ريتشارد بوليت أن أفكار برنارد لويس ليست صحيحة لعدة أسباب على رأسها أن العلاقة بين المسلمين والغرب هي علاقة قديمة، وأن الغرب نفسه مر عبر هذه العلاقة بفترات تطور عديدة بعضها سلبي والأخر إيجابي، فالغرب خلال رحلة تطوره أنتج بعض النماذج الحضارية السلبية كالنازية والفاشية، فكيف يمكن أن يكون المسلمون قد أرادوا أن يقلدوا الغرب على طول الخط، فالغرب نفسه لم يكن يعرف إلى أي اتجاه يسير، كما أن المسلمين في بعض فترات تطورهم وضعوا كأهداف أساسية لهم التحرر من سيطرة الغرب نفسه عليهم، كما حدث خلال فترة الثورة ضد الاستعمار في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين
لذا يؤكد بوليت أن المسلمين يسعون للتطور لأسباب خاصة بهم ولرؤية ذاتية كانوا يسعون لتحقيقها وليس لمجرد تقليد الغرب أو اللحاق به، ومن أهم أسباب المسلمين الخاصة قضايا مثل: زيادة ثرواتهم الوطنية، وحصولهم على حرياتهم السياسية وحرية التعبير عن الرأي في أوطانهم، وتحقيق النمو الاقتصادي، ومحاربة البطالة وإصلاح التعليم، والإعداد لنموهم السكاني السريع، لذا ينصح بوليت الغربيين بقراءة تاريخ المسلمين والعرب من وجهة نظر المسلمين والعرب أنفسهم
ومن أهم مظاهر تطور الحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر الميلادي – والتي يركز عليها ريتشارد بوليت في كتابه – هي تطور العلاقة بين السلطة والحكام في ظل الضغوطات الأوربية المتنامية على العالم الإسلامي منذ ذلك الحين
حيث يرى بوليت أن العلماء المسلمين الذين تمكنوا من حرمان الحكام من سلطة تفسير الشريعة الإسلامية والتي تعد أساس الحكم والعدالة في الإسلام فشلوا في فرض أفكارهم عن العدالة وعن الحكومة الراشدة على الحكام المسلمين، وأن هذا الفشل زاد بشكل متنامي منذ القرن الخامس عشر، حيث سعى الحكام لبناء مدارس دينية حكومية بديلة لمدارس العلماء ولامتلاك سلطة تعيين القضاء ورجال الإفتاء
ويقول بوليت أن بعض الحكام المسلمين – مثل محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة - مالوا في علاقتهم بأوربا إلى الاستعانة بأوربا وبأفكارها المتقدمة كوسيلة أساسية للحفاظ على مناصبهم وبناء قوة أنظمتهم من خلال الاستعانة بالخبراء والعلوم الأوربية لبناء الجيوش النظامية ونظم التسليح المتقدمة وإدارة البلاد بشكل مركزي متقدم
وهنا يؤكد بوليت على أن العلماء المسلمين ظلوا دائما على جانب الجماهير وظلوا مراكز لمواجهة السلطة ولم يحدث أن تحالفت العلماء المسلمين كجماعة أو كتكتل مع الحكام كما حدث في بعض البلدان الأوربية الكاثوليكية
لذا يرى بوليت أن القرنين الماضيين شهدا محاولات مستمرة من قبل الحكومات المسلمة للحد من دور العلماء مستعينين أحيانا بأفكار ونظم حكم أوربية سلطوية، ويقول بوليت أن هذا النوع من العلمانية لم يكن ضد دور الدين ولكنه كان ضد دور العلماء، وأنه أدى في النهاية إلى بناء سلطات حكم مطلقة غير ديمقراطية
ويقول بوليت أن ما لم يتوقعه الحكام المسلمين هو أن ضغطهم المستمر على العلماء المسلمين ومساعيهم لتقليص دورهم في الحياة العامة والسياسية أدى بسبب نمو وسائل الاتصال والمواصلات إلى نمو طبقة جديدة من القادة الدينيين الجماهيريين الأقل تأهيلا من الناحية الشرعية والأكثر جماهيرية وعنفا في بعض الأحيان
حيث يرى بوليت أن انتشار المطابع ووسائل النشر والاتصالات الحديثة أدت إلى انتشار الأفكار الإسلامية على نطاق أوسع وأسرع مقارنة بالماضي عجزت الحدود الوطنية عن مواجهته والحد منه منذ نهاية القرن التاسع عشر بشكل متصاعد
وقد وجدت هذه الأفكار تربة خصبة للنمو والانتشار في المجتمعات المسلمة التي تميل للتدين والتوحيد، خاصة مع انتشار التعليم في المجتمعات المسلمة، وفي أوساط الشباب المسلم غير الراضي عن أوضاع مجتمعاته الاقتصادية والسياسية
ومع تراجع سلطة العلماء التقليديين أدت هذه الظواهر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لظهور قادة جدد للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي
وهنا يؤكد ريتشارد بوليت للقارئ الغربي أن التجربة التي مرت بها الكنيسة في علاقتها بالحكومات والتي أدت في النهاية إلى فصل الدين عن الدولة في الغرب لن تتكرر في العالم الإسلامي، وأنه بات على الغرب أن يفهم تطور الحضارة الإسلامية على أنه تطور مختلف
فالغربيون الذين يحلمون بفصل الدين عن الدولة بالعالم الإسلامي لا يفهمون طبيعة تطور العالم الإسلامي، فالدين في الحضارة الإسلامية ليس له سلطة مركزية كما أنه وقف في غالبية الأحيان في صف المعارضة الجماهيرية وحافظ على استقلاله في مواجهة الحاكم، في حين أن مساعي الحكام المسلمين للحد من سلطة رجال الدين مستعينين أحيانا بأدوات السلطة والقمع الغربية لم تؤدي إلى الديمقراطية بل قادت في النهاية إلى الحد من سلطة العلماء التقليديين المؤهلين وظهور طبقة جديدة من القادة الحركيين الأقل تأهيلا من الناحية الشرعية
رابعا: نظرة أمريكا للإسلام
يخصص ريتشارد بوليت الفصل الثالث من كتابه للحديث عن نظرة الأمريكيين للإسلام والمشاكل التي شابت هذه النظرة وجعلتها عاجزة عن فهم تطورات العالم الإسلامي والتنبؤ بها
ويرى بوليت أن نظرة الأمريكيين للإسلام وللعالم بشكل عام تميزت بقدر كبير من المثالية والخيال، فالأمريكيون نظروا دائما لأنفسهم على أنهم دولة خيرة جديدة مختلفة عن أوربا وصلت لأعلى مراتب الحضارة البشرية وكل أملها هو أن يتطور العالم كما تطورت وأن تصل بقية شعوب العالم إلى ما وصل إليه الأمريكيون من تقدم حضاري
لذا يرى بوليت أن الأمريكيين عندما نظروا للعالم الإسلامي لم يكونوا معنيين بدراسة العالم الإسلامي نفسه أو بفهم ما كان يجري بداخله من تحولات، فالعالم الإسلامي بالنسبة للأمريكيين كان يعبر عن جزء من العالم لم يصل بعد لما وصلت إليه أمريكا من حضارة مدنية وإن كان يسير – من وجهة نظر الأمريكيين – بشكل حتمي نحو المدنية الأمريكية، فالأمريكيون لم يفهموا لماذا قد ترفض بعض دول العالم السير في طريق المدنية الأمريكية التي قادت أمريكا للازدهار
لذا يرى بوليت أن رواد دراسات الشرق الأوسط بالجامعات الأمريكية - خاصة في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وهو الجيل الذي شهد انفتاح أمريكا على العالم – درسوا الشرق الأوسط بالأساس على أنه مجتمعات تمر بمرحلة تغيير سريع وحتمي لتحديث أنفسها وفقا لنموذج التحديث الغربي، لذا ركز الأساتذة الأمريكيين على مظاهر الحياة والفئات الشرق أوسطية التي تثبت أفكارهم، وكان هدفهم هو أن يرجو لهذه الفئات ويدعموها لأنها كانت من وجهة نظرهم فئات تحب أمريكا وتريد أن تطور بلدانها على النموذج الأمريكي الغربي
ويقول بوليت أن من بين هذه الفئات الحداثية كانت بعض النخب الشرق أوسطية التي تولت قيادة بلادها بعد الاستقلال، ويقول بوليت أن أمريكا مدفوعة برغبتها في العثور على نخب شرق أوسطية تحبها رغبت في التحالف مع هذه النخب وعجزت عن فهم أن هذه النخب كانت تسعى بالأساس لامتلاك السلطة وليس لتحديث بلدانها
لذا أهمل حقل دراسات الشرق الأوسط الأمريكي دراسة الإسلام ونظروا إليه على أنه قوة غير حداثية تنتمي للماضي، وهنا يقول بوليت
"البحث عن شرق أوسطيين يمكننا أن نحبهم – لأنهم يحبوننا – أعمى دراسات الشرق الأوسط منذ بدايتها"
ويقول بوليت أن مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي السابقة تحول اهتمام دراسات الشرق الأوسط الأمريكية بعيدا عن تحديث الشرق الأوسط ونحو ضمان عدم وقوعه تحت سيطرة الشيوعية، ومن ثم أصبح هدف الأمريكيين هو محاربة الشيوعية في العالم الإسلامي وليس تحريره وتحديثه
لذا يرى بوليت أن حقل دراسات الشرق الأوسط الأمريكي عجز عن فهم العالم الإسلامي وعجز عن التنبؤ بالتطورات التي قد تحدث له كما أنه عجز عن توجيه السياسة الأمريكي لطريق يساعدها على التعاون مع الشرق الأوسط الحقيقي، فأمريكا مازالت مدفوعة حتى الآن برغبتها في صناعة شرق أوسط يستحق حبها لأنه يحبها ويريد أن يكون مثلها تماما
وهنا يرى بوليت أن الأفكار التي نادى بها بعض المحافظين الجدد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي نادت بإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقا لنموذج تريده أمريكا ليست جديدة على واشنطن
خامسا: مستقبل العالم الإسلامي
يطرح ريتشارد بوليت في الجزء الأخير من دراسته تصورا متميزا لمستقبل الحضارة الإسلامي وتطورها، وفي البداية يدعو الغرب والولايات المتحدة لفهم مسار تطور العالم الإسلامي كما يراه المسلمون أنفسهم وليس كما يحب أن يراه الغرب
كما يحذر بوليت من مساعي بعض المفكرين والسياسيين الغربيين للتنبؤ بحلول سريعة لمشاكل العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي كما يراه بوليت هو حضارة كبيرة تحتاج لفترات طويلة لكي تتغير وتتطور، حيث يرى بوليت أن العالم الإسلامي يمر بدورات تاريخية تقدر طول كل دورة منها بأربعة قرون، ويرى بوليت أن القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام (من القرن السادس وحتى العاشر الميلادي) شهدت فترة صعود الإسلام وانتشاره في العالم
أما القرون من الخامس وحتى الثامن (الحادي عشر وحتى الرابع عشر بالتقويم الميلادي) فقد شهدت صراعا داخل الإسلام نفسه حول الأفكار الإسلامية التي يجب أن تسود المجتمعات المسلمة، وفي الدورة الثالثة الممتدة من القرنين التاسع وحتى الثاني عشر (الخامس عشر وحتى الثامن عشر) فقد شهدت صراع الإسلام مع التوسع الغربي وبداية تراجع بعض المجتمعات المسلمة
أما الفترة الحالية الممتدة من القرن التاسع عشر وحتى القرن الثاني والعشرين ميلاديا فهي فترة تجريبية تشهد محاولات طورها المسلمون للنمو في ظل علاقتهم الصراعية مع الغرب، وقد تنبأ بوليت بأن بصعود وهبوط هذه المحاولات بشكل متكرر خلال الفترة الحالية حتى يعثر المسلمون على صيغ أفضل تحقق لهم النمو الذي ينشدونه وأن يبدأ هذا النمو مع القرن الثالث والعشرين الميلادي
كما يتنبأ بوليت بأن يأتي التغيير من أطراف العالم الإسلام وليس من مركزه، فهو يعتقد أن أطراف العالم الإسلامي كانت مصدر عدد من أهم التغييرات التي طرأت على الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى، وهو يضرب مثلا بأن تجميع كتب الحديث الكبرى ازدهر على أيدي علماء من شرق أسيا وليس من الجزيرة العربية، كما أن المدارس الإسلامية بدأت أولا في وسط أسيا ثم انتشرت في بقية العالم الإسلامي
ويرى بوليت أن عدم مركزية الإسلام تساعد على ذلك، فالإسلام يعطي دائما الفرصة لأطرافه للنمو والتطور كما يقوم بالتكيف مع هذه التطورات الجديدة بمرور الوقت، كما يرى أن الإسلام في العصر الحالي مليء بالإطراف بسبب توسعه الكبير في شتى بلدان العالم ووجوده المتزايد في حضارات أخرى
كما أن تطور وسائل الاتصالات أدت إلى ضعف سلطة المركز الدينية لأن وسائل الاتصالات الحديثة مكنت الأفكار من الانتشار على نطاق واسع جدا كما أنها شكلت شبكات جماهيرية عديدة تمتد أحيانا على إطار دولي عالمي
ويقول بوليت أن هذا التوسع قد تكون له أثار سلبية لأنه يضعف من نفوذ المرجعية الإسلامية ويجعل من الصعب التأكد من كفاءة قيادات المسلمين الدينية، لذا يأمل بوليت أن تستعيد مؤسسات المسلمين الدينية التقليدية جزء من نفوذها حتى تتمكن من نشر الكفاءات والأفكار الرصينة في العالم الإسلامي
وفي النهاية يرصد بوليت ثلاثة جماعات أطراف مسلمة أساسية يمكن أن تساهم في تطوير الحضارة الإسلامية
الجماعة الأولى هي مسلمو الغرب حيث يرى بوليت أن خبرة مسلمي الخرب وحياتهم واستيطانهم في المجتمعات الغربية سوف تساهم في تطويرهم لأفكار إسلامية جديدة
الجماعة الثانية هي الأحزاب السياسية الديمقراطية في العالم الإسلامي، ويرى بوليت أن هذه الأحزاب سواء كانت دينية أو غير دينية سوف تساهم في تطوير العالم الإسلامي إذا طورت أفكار ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتسامح، وينصح بوليت هذه الجماعات بتطوير برامج متطورة وشاملة لحكم بلادها وعدم الاكتفاء بإنتاج خطابات جماهيرية تقتصر على إرضاء رغبات الجماهير
الجماعة الثالثة هي المثقفون المسلمون الذي تلقوا تعليمهم في مؤسسات أكاديمية غربية كبرى، ويرى بوليت أن هؤلاء المثقفين المتزايدين العدد على الرغم من افتقار بعضهم لفرصة تعميق معرفتهم الدينية التقليدية إلا أنهم بدءوا في تطوير أفكار إسلامية جديدة بحكم خلفيتهم الإسلامية والغربية في آن واحد
وفي نهاية كتابه يرى بوليت أن المصلحين المسلمين القادرين على تغيير العالم الإسلامي لم يظهروا بعد ولكن أعرب عن أمله في أن تشهد العقود الثلاثة القادمة ظهور بعض هؤلاء المجددين