أميركا بين التهدئة والاستعداد لمواجهة إيران
مقال بقلم: علاء بيومي
الناشر: الجزيرة نت، 30 يونيو 2008، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال
اتفاق الدوحة والهدنة مع حماس ومفاوضات السلام الإسرائيلية- السورية تطورات هامة تتعارض بشكل واضح مع السياسة الأميركية بالمنطقة القائمة حتى الآن على عزل النظم والجماعات المعارضة لأميركا بهدف إسقاطها – وعلى رأسها سوريا وحماس وحزب الله ومن خلفهم إيران – فما مغزى الموقف الأميركي الراهن والذي تسامح مع التغيرات الكبيرة السابقة حتى الآن
هل غيرت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سياستها خلال شهورها الستة الأخيرة لها بالحكم في اتجاه منح الحوار فرصة بعدما فشلت سياسة الصدام والمواجهة على مدى سنوات؟ أم أن ما يحدث يسير عكس إرادة الإدارة الأميركية التي باتت تلهث وراء الأحداث على أمل استيعابها؟ أم أن الهدنة الحالية هي سياسة أميركية مقصودة استعدادا لمواجهة أكبر قد تكون مع إيران
خرق سياسة العزل الأميركية
للإجابة على الأسئلة السابقة يجب تذكير القارئ أولا بأن سياسة أميركا الشرق أوسطية قامت منذ أوائل عام 2002 وحتى أواخر عام 2006 على أساس من إستراتيجية "تغيير النظم وإعادة بناء الشرق الأوسط" والتي تبنتها إدارة بوش في أعقاب أحداث 11-9 وبإيحاء من المحافظين الجدد الذين أمنوا منذ نشأتهم بأن حل قضايا المنطقة المستعصية - كالصراع العربي-الإسرائيلي - لا يكون بالمفاوضات أو المهادنة، وإنما يتحقق من خلال تغيير النظم العربية ذاتها وإعادة بناء الشرق الأوسط على شاكلة ترضي أميركا وتقبل بإسرائيل وتنشط في تطبيق التصور الأميركي للمنطقة
وقد مثلت حرب العراق نواة المشروع الأميركي واختباره الأهم، حيث أراد المحافظون الجدد أن يجعلوا من العراق الجديد الديمقراطي - في نظام حكمه - والموالي لأميركا والمساند لإسرائيل - في سياسته الخارجية - نقطة انطلاقهم لتغيير بقية نظم المنطقة وسياساتها، ولسوء النوايا والتخطيط تحول العراق لأكبر مشاكل أميركا في الشرق الأوسط، بعدما أدت الحرب لصعود نفوذ إيران - بشكل غير مسبوق – وأزاحت نظام صدام حسين والذي وزان النفوذ الإيراني لعقود، كما دفعت الحرب إيران للإسراع ببرنامجها النووي، وتحولت تكلفة الحرب لعبئ لا يحتمل عسكريا واقتصاديا، وفشل الغزو في مكافحة الإرهاب بعدما تحولت حرب العراق لبؤرة للمواجهة بين أميركا والجماعات المعارضة لها وأفقدت أميركا كثير من الاحترام والدعم الدوليين
هذا إضافة إلى صعود الجماعات الإسلامية عبر العالم العربي بسبب سياسة نشر الديمقراطية – قصيرة العمر – التي دفع بها بوش - خاصة في أوائل إدارته الثانية - ضمن إستراتيجية إعادة بناء الشرق الأوسط
ونتيجة لما سبق شعرت الإدارة الأميركية بأزمتها وبتضارب أهدافها وفضلت التراجع عن سياسة "إعادة بناء الشرق الأوسط" باهظة التكاليف غير مضمونة العواقب، وقررت الإمساك بالعصي من الوسط، حيث تخلت الإدارة عن الضغط على "الدول الحليفة" كمصر والسعودية لتغييرها، واحتفظت ببقايا خطاب متشددة تجاهها يظهر بين حين وآخر لينتقد سجلها الداخلي، وسعت – في المقابل – إلى ضم تلك الدول بجوارها في حلف يرمي لعزل وإسقاط الدول والجماعات التي صنفت من قبل الإدارة على أنها "معادية لأميركا" - وهي إيران وسوريا وحماس وحزب الله، وبذلك تكون أميركا قد تخلت عن تغيير "النظم الحليفة" بهدف الاستعانة بها في تغيير "النظم والجماعات المعادية
سياسة العزل الأميركية التي ترفض التعامل مع حماس وحزب الله وتفضل المواجهة مع إيران وسوريا وتسعى لعزلهما ومن ثم إسقاطهما مازالت قائمة حتى الآن – كما هو معلن على أقل تقدير، ومع ذلك أقدمت دول المنطقة – بما في ذلك إسرائيل – على عقد عدد من الاتفاقات التي من شأنها خرق الحظر المفروض أميركا على تلك الدول والجماعات
ومن تلك المبادرات اتفاق الدوحة والذي أنهى الفراغ الرئاسي اللبناني باتفاق يسمح بوجود ممثلين لحزب الله في الحكومة اللبنانية على الرغم من رفض أميركا التعامل مع حكومة حماس وسعيها لإسقاطها على مدى عامين ونصف، ومحادثات السلام السورية-الإسرائيلية التي خففت من العزلة الدولية المفروضة أميركيا على سوريا، وحديث إسرائيل عن رغبتها في التفاوض مع الحكومة اللبنانية حول "مزارع شبعا" المحتلة، هذا إضافة إلى حوار بعض دول الخليج العربي مع إيران
غياب دبلوماسي
ينقسم المحللون لموقف أميركا نحو التطورات الهامة السابقة إلى ثلاثة فرق يعتقد أولها أن ما يحدث يسير على عكس إرادة أميركا والتي تلهث دبلوماسيا وراء الأحداث بعدما اضطرت دول المنطقة كإسرائيل ومصر والدول العربية مجتمعة (في حالة اتفاق الدوحة) للتحرك للبحث لنفسها وبنفسها عن حلول لمشاكل المنطقة المتفاقمة بسبب سياسات أميركيا الصدامية والخاطئة
ويرى أصحاب هذا الرأي أن إدارة بوش لم تعد قادرة على الإمساك بجميع خيوط السياسات الإقليمية بالشرق الأوسط بسبب أخطائها السابقة والتي أضعفتها وهزت ثقة دول المنطقة فيها، وبسبب ضغطها السابق على دول حليفة لها مما دفع تلك الدول لموازنة - وربما التملص من - الهيمنة الأميركية، ولأن مشاكل المنطقة متفاقمة وحساسة ووصل بعضها حد الانفجار (كما حدث في شوارع بيروت وعلى حدود مصر مع غزة)، ولأن دول المنطقة - بما في ذلك إسرائيل - هي الأكثر تضررا منها، ويرى هؤلاء أنه في ظل إصرار الإدارة الأميركية على سياستها المتشددة وعجزها عن إيجاد حلول بديلة لمشاكل وصلت لحد الانفجار اضطرت دول المنطقة لأخذ زمام المبادرة بأيديها
فعلى سبيل مثلت أزمة قطاع غزة صداعا مزمنا لمصر والدول العربية وإسرائيل، فالحصار يضغط على الدول العربية من الداخل وعلى رأسها مصر لفك الحصار عن أهالي القطاع، خاصة مع مطالبة حماس المستمر للدول العربية لكسر الحصار المفروض على 1.5 فلسطيني
هذا إضافة إلى فشل جميع خيارات المواجهة في إسعاف إسرائيل في تعاملها مع القطاع، فقد جربت إسرائيل تشديد سياسات الحصار غير الإنسانية والتي تضر بصورتها أمام الرأي العام العالمي، كما جربت الوسائل العسكرية المكلفة دبلوماسيا والتي لم تحقق الأمن لإسرائيل، حتى أن بعض الدوائر المساندة لإسرائيل في أميركا طالبت الحكومة الإسرائيلية بتجريب سياسة الحوار مع حماس من باب التجربة إن لم يكن من باب السعي لاستخدام بديل هام تهمله إسرائيل بدون سبب واضح
وبناء على هذا التحليل اضطرت مصر وإسرائيل للتعامل مع حركة حماس والحوار معها مما يعد خرقا لسياسة عزل حماس الأميركية
وفيما يتعلق بالحوار مع سوريا يؤكد أصحاب هذا التوجه أن سياسة عزل سوريا أثبتت فشلها منذ زمن لأنها لا تبدو قادرة على إسقاط النظام السوري كما أن سوريا تمتلك نفوذا كبيرا على جماعات مثل حماس وحرب الله مما يمثل أداة ضغط على إسرائيل
وعلى نفس المنوال يرى أصحاب هذا الرأي أن مواجهة إسرائيل مع حزب الله في صيف عام 2006 كانت باهظة التكاليف وأن وجود حزب الله داخل لبنان يصب التغلب عليه بسهولة وأن الاستمرار في سياسة المواجهة بوازع أميركي يضعف حلفاء أميركا بالمنطقة.
دبلوماسية مشروطة
يعيب آخرون على أصحاب الرأي السابق إهمالهم لحجم التوغل الأميركي في المنطقة ولكون الدور الأميركي مطلوب للتوصل لأي حلول نهائية، فعلى سبيل المثال لن تتوصل إسرائيل مع سوريا لاتفاق سلام نهائي دون موافقة وضمانة أميركية وربما دور أميركي في التواصل للاتفاق، ولن يتعامل المجتمع الدولي مع حكومة لبنانية تضم عناصر من حزب الله دون ضوء أخضر أميركي، بل أن التقدم في أي محادثات السلام والتهدئة يحتاج ضمانة أميركية بألا تتدخل الولايات المتحدة نفسها لإفساد ما تم التوصل إليه من حلول
لذا يرى هؤلاء آن إسرائيل ومن وراءها أميركيا يريدون التطورات الأخيرة لأسباب بعضها داخلي مثل حاجة إيهود أولمرت لتحقيق بعض الإنجازات على ساحة السياسة الخارجية في مواجهة أزمته السياسة الداخلية والاتهامات الموجهة له بالفساد، كما أن الرئيس بوش مازال يأمل في تحقيق إنجاز دبلوماسي في أواخر عهده، وهو الخط الذي بدأه بوش في أواخر العام الماضي حين دعا لمؤتمر أنابوليس لتحريك عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، كما قد يكون من مصلحة بوش والجمهوريين تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط في موسم انتخابي يتعرض فيه الجمهوريون لانتقادات عديدة بسبب أخطائهم بالعراق وبالشرق الأوسط وسياساتهم الصدامية التي زعزعت استقرار المنطقة
ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما يحدث هو نوع من التهدئة أو الدبلوماسية المشروطة على غرار اتفاق التهدئة مع حماس، فهو بمثابة محاولة للسير المشروط في مسار التهدئة فإن نجح في إيجاد بديل حقيقي للتصعيد والمواجهة كان بها، وإن فشل تكون إسرائيل ومن خلفها أميركا قد استفادتا دبلوماسيا وإعلاميا وامتلكتا فرصة القول بأنهما جربا الدبلوماسية ولكن العرب لم يلتزموا بها
مواجهة إيران
هناك فريق ثالث يرى أن ما يحدث مقصود أميركيا وإسرائيل ضمن خطة أكبر لمواجهة إيران، فإسرائيل تتحرك بدعم أميركي لشق الحلف الموالي لإيران بإخراج - ضلع الحلف الأهم بعد إيران - سوريا من المعادلة، فإسرائيل وأميركا تريدان إخراج سوريا من المعادلة من خلال إشعارها بإمكانية حدوث تقدم على مسار محادثات السلام مع إسرائيل، وبذلك تضغط سوريا على حماس وحزب الله للموافقة مع التهدئة مع إسرائيل، كما أن دخول إسرائيل في تهدئة مع حماس وحزب الله - ومن ورائهما سوريا - يفرغ إسرائيل وأميركا لمواجهة الخطر الأهم بالنسبة لهما وهو إيران
بمعنى أخر أن الإدارة الأميركية التي تخلت عن تغيير النظم الحليفة لها لكي تستعين بها في إسقاط النظم والجماعات المعادية، تحاول الآن تحييد بعض تلك الجماعات والنظم حتى تتفرغ لمواجهة الخطر الأكبر القادم من إيران
ويبرهن أصحاب الرأي السابق على صحة قرارهم بالإشارة إلى أن حكومة أولمرت لن تتمكن من التوصل لاتفاق سلام مع سوريا لأنها لا تمتلك الدعم الكافي جماهيريا وسياسيا لتحقيق ذلك، كما أن مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية متوقفة، وكان من الأولى بإسرائيل والتي تريد الآن السلام مع سوريا ولبنان والتهدئة مع حماس أن تسرع في تحريك محادثات السلام القائمة على استحياء منذ سنوات والأكثر مركزية في حل قضايا المنطقة
نوايا بوش
سياسات الإدارة الأميركية الحالية تدفع العالم العربي لتوقع الأسوأ والخوف من نوايا بوش ومساعديه في شهورهم الستة الأخيرة بالحكم، ومن أن ما يدور من المنطقة هو استعداد لمواجهة قد تكون مرتقبة مع إيران، وهذا لا يمنعنا من الاعتراف بالواقع وبأن أخطاء الإدارة الأميركية بالمنطقة حدت من خيارتها وخففت من حدة سياساتها الصدامية
وقد يكون من الضروري الاحتكام لعدد من المؤشرات الهامة على النوايا الأميركية في المستقبل المنظور مثل سرعة تشكيل حكومة توافقية بلبنان، وسرعة رفع الحصار غير الإنساني المفروض على قطاع غزة، وحدوث تقدم حقيقي على صعيد مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية والحوار الفلسطيني الداخلي، وتحرك دول المنطقة لتأسيس سياسات الحوار والمهادنة ومدها لمساحات جديدة تحول دون دخول المنطقة في مواجهة جديدة لا تعرف عواقبها
----
مقالات ذات صلة
رايس والعجز عن مراجعة الذات
الشرق الأوسط الجديد
أنصار لإسرائيل يحثون بوش على التخلي عن أمال السلام
مساندو إسرائيل بأميركا يقرون بفشل سياسة العقاب الجماعي
يهود أميركا ومؤتمر أنابوليس
الناشر: الجزيرة نت، 30 يونيو 2008، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال
اتفاق الدوحة والهدنة مع حماس ومفاوضات السلام الإسرائيلية- السورية تطورات هامة تتعارض بشكل واضح مع السياسة الأميركية بالمنطقة القائمة حتى الآن على عزل النظم والجماعات المعارضة لأميركا بهدف إسقاطها – وعلى رأسها سوريا وحماس وحزب الله ومن خلفهم إيران – فما مغزى الموقف الأميركي الراهن والذي تسامح مع التغيرات الكبيرة السابقة حتى الآن
هل غيرت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش سياستها خلال شهورها الستة الأخيرة لها بالحكم في اتجاه منح الحوار فرصة بعدما فشلت سياسة الصدام والمواجهة على مدى سنوات؟ أم أن ما يحدث يسير عكس إرادة الإدارة الأميركية التي باتت تلهث وراء الأحداث على أمل استيعابها؟ أم أن الهدنة الحالية هي سياسة أميركية مقصودة استعدادا لمواجهة أكبر قد تكون مع إيران
خرق سياسة العزل الأميركية
للإجابة على الأسئلة السابقة يجب تذكير القارئ أولا بأن سياسة أميركا الشرق أوسطية قامت منذ أوائل عام 2002 وحتى أواخر عام 2006 على أساس من إستراتيجية "تغيير النظم وإعادة بناء الشرق الأوسط" والتي تبنتها إدارة بوش في أعقاب أحداث 11-9 وبإيحاء من المحافظين الجدد الذين أمنوا منذ نشأتهم بأن حل قضايا المنطقة المستعصية - كالصراع العربي-الإسرائيلي - لا يكون بالمفاوضات أو المهادنة، وإنما يتحقق من خلال تغيير النظم العربية ذاتها وإعادة بناء الشرق الأوسط على شاكلة ترضي أميركا وتقبل بإسرائيل وتنشط في تطبيق التصور الأميركي للمنطقة
وقد مثلت حرب العراق نواة المشروع الأميركي واختباره الأهم، حيث أراد المحافظون الجدد أن يجعلوا من العراق الجديد الديمقراطي - في نظام حكمه - والموالي لأميركا والمساند لإسرائيل - في سياسته الخارجية - نقطة انطلاقهم لتغيير بقية نظم المنطقة وسياساتها، ولسوء النوايا والتخطيط تحول العراق لأكبر مشاكل أميركا في الشرق الأوسط، بعدما أدت الحرب لصعود نفوذ إيران - بشكل غير مسبوق – وأزاحت نظام صدام حسين والذي وزان النفوذ الإيراني لعقود، كما دفعت الحرب إيران للإسراع ببرنامجها النووي، وتحولت تكلفة الحرب لعبئ لا يحتمل عسكريا واقتصاديا، وفشل الغزو في مكافحة الإرهاب بعدما تحولت حرب العراق لبؤرة للمواجهة بين أميركا والجماعات المعارضة لها وأفقدت أميركا كثير من الاحترام والدعم الدوليين
هذا إضافة إلى صعود الجماعات الإسلامية عبر العالم العربي بسبب سياسة نشر الديمقراطية – قصيرة العمر – التي دفع بها بوش - خاصة في أوائل إدارته الثانية - ضمن إستراتيجية إعادة بناء الشرق الأوسط
ونتيجة لما سبق شعرت الإدارة الأميركية بأزمتها وبتضارب أهدافها وفضلت التراجع عن سياسة "إعادة بناء الشرق الأوسط" باهظة التكاليف غير مضمونة العواقب، وقررت الإمساك بالعصي من الوسط، حيث تخلت الإدارة عن الضغط على "الدول الحليفة" كمصر والسعودية لتغييرها، واحتفظت ببقايا خطاب متشددة تجاهها يظهر بين حين وآخر لينتقد سجلها الداخلي، وسعت – في المقابل – إلى ضم تلك الدول بجوارها في حلف يرمي لعزل وإسقاط الدول والجماعات التي صنفت من قبل الإدارة على أنها "معادية لأميركا" - وهي إيران وسوريا وحماس وحزب الله، وبذلك تكون أميركا قد تخلت عن تغيير "النظم الحليفة" بهدف الاستعانة بها في تغيير "النظم والجماعات المعادية
سياسة العزل الأميركية التي ترفض التعامل مع حماس وحزب الله وتفضل المواجهة مع إيران وسوريا وتسعى لعزلهما ومن ثم إسقاطهما مازالت قائمة حتى الآن – كما هو معلن على أقل تقدير، ومع ذلك أقدمت دول المنطقة – بما في ذلك إسرائيل – على عقد عدد من الاتفاقات التي من شأنها خرق الحظر المفروض أميركا على تلك الدول والجماعات
ومن تلك المبادرات اتفاق الدوحة والذي أنهى الفراغ الرئاسي اللبناني باتفاق يسمح بوجود ممثلين لحزب الله في الحكومة اللبنانية على الرغم من رفض أميركا التعامل مع حكومة حماس وسعيها لإسقاطها على مدى عامين ونصف، ومحادثات السلام السورية-الإسرائيلية التي خففت من العزلة الدولية المفروضة أميركيا على سوريا، وحديث إسرائيل عن رغبتها في التفاوض مع الحكومة اللبنانية حول "مزارع شبعا" المحتلة، هذا إضافة إلى حوار بعض دول الخليج العربي مع إيران
غياب دبلوماسي
ينقسم المحللون لموقف أميركا نحو التطورات الهامة السابقة إلى ثلاثة فرق يعتقد أولها أن ما يحدث يسير على عكس إرادة أميركا والتي تلهث دبلوماسيا وراء الأحداث بعدما اضطرت دول المنطقة كإسرائيل ومصر والدول العربية مجتمعة (في حالة اتفاق الدوحة) للتحرك للبحث لنفسها وبنفسها عن حلول لمشاكل المنطقة المتفاقمة بسبب سياسات أميركيا الصدامية والخاطئة
ويرى أصحاب هذا الرأي أن إدارة بوش لم تعد قادرة على الإمساك بجميع خيوط السياسات الإقليمية بالشرق الأوسط بسبب أخطائها السابقة والتي أضعفتها وهزت ثقة دول المنطقة فيها، وبسبب ضغطها السابق على دول حليفة لها مما دفع تلك الدول لموازنة - وربما التملص من - الهيمنة الأميركية، ولأن مشاكل المنطقة متفاقمة وحساسة ووصل بعضها حد الانفجار (كما حدث في شوارع بيروت وعلى حدود مصر مع غزة)، ولأن دول المنطقة - بما في ذلك إسرائيل - هي الأكثر تضررا منها، ويرى هؤلاء أنه في ظل إصرار الإدارة الأميركية على سياستها المتشددة وعجزها عن إيجاد حلول بديلة لمشاكل وصلت لحد الانفجار اضطرت دول المنطقة لأخذ زمام المبادرة بأيديها
فعلى سبيل مثلت أزمة قطاع غزة صداعا مزمنا لمصر والدول العربية وإسرائيل، فالحصار يضغط على الدول العربية من الداخل وعلى رأسها مصر لفك الحصار عن أهالي القطاع، خاصة مع مطالبة حماس المستمر للدول العربية لكسر الحصار المفروض على 1.5 فلسطيني
هذا إضافة إلى فشل جميع خيارات المواجهة في إسعاف إسرائيل في تعاملها مع القطاع، فقد جربت إسرائيل تشديد سياسات الحصار غير الإنسانية والتي تضر بصورتها أمام الرأي العام العالمي، كما جربت الوسائل العسكرية المكلفة دبلوماسيا والتي لم تحقق الأمن لإسرائيل، حتى أن بعض الدوائر المساندة لإسرائيل في أميركا طالبت الحكومة الإسرائيلية بتجريب سياسة الحوار مع حماس من باب التجربة إن لم يكن من باب السعي لاستخدام بديل هام تهمله إسرائيل بدون سبب واضح
وبناء على هذا التحليل اضطرت مصر وإسرائيل للتعامل مع حركة حماس والحوار معها مما يعد خرقا لسياسة عزل حماس الأميركية
وفيما يتعلق بالحوار مع سوريا يؤكد أصحاب هذا التوجه أن سياسة عزل سوريا أثبتت فشلها منذ زمن لأنها لا تبدو قادرة على إسقاط النظام السوري كما أن سوريا تمتلك نفوذا كبيرا على جماعات مثل حماس وحرب الله مما يمثل أداة ضغط على إسرائيل
وعلى نفس المنوال يرى أصحاب هذا الرأي أن مواجهة إسرائيل مع حزب الله في صيف عام 2006 كانت باهظة التكاليف وأن وجود حزب الله داخل لبنان يصب التغلب عليه بسهولة وأن الاستمرار في سياسة المواجهة بوازع أميركي يضعف حلفاء أميركا بالمنطقة.
دبلوماسية مشروطة
يعيب آخرون على أصحاب الرأي السابق إهمالهم لحجم التوغل الأميركي في المنطقة ولكون الدور الأميركي مطلوب للتوصل لأي حلول نهائية، فعلى سبيل المثال لن تتوصل إسرائيل مع سوريا لاتفاق سلام نهائي دون موافقة وضمانة أميركية وربما دور أميركي في التواصل للاتفاق، ولن يتعامل المجتمع الدولي مع حكومة لبنانية تضم عناصر من حزب الله دون ضوء أخضر أميركي، بل أن التقدم في أي محادثات السلام والتهدئة يحتاج ضمانة أميركية بألا تتدخل الولايات المتحدة نفسها لإفساد ما تم التوصل إليه من حلول
لذا يرى هؤلاء آن إسرائيل ومن وراءها أميركيا يريدون التطورات الأخيرة لأسباب بعضها داخلي مثل حاجة إيهود أولمرت لتحقيق بعض الإنجازات على ساحة السياسة الخارجية في مواجهة أزمته السياسة الداخلية والاتهامات الموجهة له بالفساد، كما أن الرئيس بوش مازال يأمل في تحقيق إنجاز دبلوماسي في أواخر عهده، وهو الخط الذي بدأه بوش في أواخر العام الماضي حين دعا لمؤتمر أنابوليس لتحريك عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، كما قد يكون من مصلحة بوش والجمهوريين تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط في موسم انتخابي يتعرض فيه الجمهوريون لانتقادات عديدة بسبب أخطائهم بالعراق وبالشرق الأوسط وسياساتهم الصدامية التي زعزعت استقرار المنطقة
ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما يحدث هو نوع من التهدئة أو الدبلوماسية المشروطة على غرار اتفاق التهدئة مع حماس، فهو بمثابة محاولة للسير المشروط في مسار التهدئة فإن نجح في إيجاد بديل حقيقي للتصعيد والمواجهة كان بها، وإن فشل تكون إسرائيل ومن خلفها أميركا قد استفادتا دبلوماسيا وإعلاميا وامتلكتا فرصة القول بأنهما جربا الدبلوماسية ولكن العرب لم يلتزموا بها
مواجهة إيران
هناك فريق ثالث يرى أن ما يحدث مقصود أميركيا وإسرائيل ضمن خطة أكبر لمواجهة إيران، فإسرائيل تتحرك بدعم أميركي لشق الحلف الموالي لإيران بإخراج - ضلع الحلف الأهم بعد إيران - سوريا من المعادلة، فإسرائيل وأميركا تريدان إخراج سوريا من المعادلة من خلال إشعارها بإمكانية حدوث تقدم على مسار محادثات السلام مع إسرائيل، وبذلك تضغط سوريا على حماس وحزب الله للموافقة مع التهدئة مع إسرائيل، كما أن دخول إسرائيل في تهدئة مع حماس وحزب الله - ومن ورائهما سوريا - يفرغ إسرائيل وأميركا لمواجهة الخطر الأهم بالنسبة لهما وهو إيران
بمعنى أخر أن الإدارة الأميركية التي تخلت عن تغيير النظم الحليفة لها لكي تستعين بها في إسقاط النظم والجماعات المعادية، تحاول الآن تحييد بعض تلك الجماعات والنظم حتى تتفرغ لمواجهة الخطر الأكبر القادم من إيران
ويبرهن أصحاب الرأي السابق على صحة قرارهم بالإشارة إلى أن حكومة أولمرت لن تتمكن من التوصل لاتفاق سلام مع سوريا لأنها لا تمتلك الدعم الكافي جماهيريا وسياسيا لتحقيق ذلك، كما أن مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية متوقفة، وكان من الأولى بإسرائيل والتي تريد الآن السلام مع سوريا ولبنان والتهدئة مع حماس أن تسرع في تحريك محادثات السلام القائمة على استحياء منذ سنوات والأكثر مركزية في حل قضايا المنطقة
نوايا بوش
سياسات الإدارة الأميركية الحالية تدفع العالم العربي لتوقع الأسوأ والخوف من نوايا بوش ومساعديه في شهورهم الستة الأخيرة بالحكم، ومن أن ما يدور من المنطقة هو استعداد لمواجهة قد تكون مرتقبة مع إيران، وهذا لا يمنعنا من الاعتراف بالواقع وبأن أخطاء الإدارة الأميركية بالمنطقة حدت من خيارتها وخففت من حدة سياساتها الصدامية
وقد يكون من الضروري الاحتكام لعدد من المؤشرات الهامة على النوايا الأميركية في المستقبل المنظور مثل سرعة تشكيل حكومة توافقية بلبنان، وسرعة رفع الحصار غير الإنساني المفروض على قطاع غزة، وحدوث تقدم حقيقي على صعيد مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية والحوار الفلسطيني الداخلي، وتحرك دول المنطقة لتأسيس سياسات الحوار والمهادنة ومدها لمساحات جديدة تحول دون دخول المنطقة في مواجهة جديدة لا تعرف عواقبها
----
مقالات ذات صلة
رايس والعجز عن مراجعة الذات
الشرق الأوسط الجديد
أنصار لإسرائيل يحثون بوش على التخلي عن أمال السلام
مساندو إسرائيل بأميركا يقرون بفشل سياسة العقاب الجماعي
يهود أميركا ومؤتمر أنابوليس