لأول مرة في مصر: قراءة في كتاب أربعة أشهر في قفص الحكومة
ربما لم نسمع في مصر من زمن بعيد عن وزير يدون مذكراته في الحكم وينشرها
بعد تركه السلطة بشهور قليلة ليحكي للمصريين عن كواليس الوزارة.
الوزير هو الدكتور حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في حكومة
عصام شرف الثانية والذي خدم في منصبه أربعة أشهر فقط (يوليو – نوفمبر 2011) قبل أن
تستقيل الحكومة وينشر هو كتاب "أربعة أشهر في قفص الحكومة" الصادر عن
دار الشروق المصرية في أوائل العام الحالي.
الببلاوي لم يخيب أمل قراءه فالكتاب يحتوي بالفعل على معلومات هامة عن
كواليس السلطة في مصر على المستويات السياسية والاقتصادية والإقليمية أيضا، رأينا
أن نرصد أهمها في المقال التالي.
على المستوى السياسي
يصف الببلاوي الحكومة التي شارك فيها بأنها "سيئة الحظ" ويقول
أنها "حاولت، وكثيرا ما حاولت بإخلاص، على أن تكون على مستوى الحدث، وجاءت
النتائج على غير التمنيات".
ويقول أن مجلس الوزراء في عصر رئيس الوزراء السابق عصام شرف "عرف – حسب رواية
قدامي الوزراء – أسمى عصور حرية النقاش ... ولكن هذه الدرجة العالية لحرية النقاش
لم يصاحبها القدر نفسه من الفعالية أو القيادة".
وأن "نعمة خروج هذه الحكومة من وسط ميدان التحرير قد تحولت إلى نقمة
فأصبح الشاغل الأكبر للحكومة هو الاستجابة لطلبات الشارع أكثر منه قيادة هذا
الشارع".
ويقول أن رئيس الوزراء المستقيل عصام شرف "جم الأدب، نادرا ما يرفع
صوته، ولم يحدث أن رأيته يوما يتكلم بصوت مرتفع، لقد كانت رقة رئيس الوزراء أكثر
بكثير مما نستحق أو نحتاج".
ويقول أيضا أن أحداث الهجوم على المتظاهرين في ماسبيرو وميدان التحرير تمت
بدون علم رئيس الوزراء، وأن عدد من الوزراء طالبوا شرف بالاستقالة بعد أحداث
ماسبيرو شعورا بالمسئولية السياسية عن الأحداث وأن شرف أيدهم قبل أن تنزل الأغلبية
على رأي من طالبوا ببقاء الحكومة في الوزارة بسبب ضيق الوقت والأعباء السياسية.
ويقول أنه قرر الاستقالة بصفة شخصية وتسرب خبر استقالته للإعلام وأن المشير طنطاوي
ورئيس الأركان سامي عنان اجتمعا معه وضغطا عليه للتراجع عن استقالته وأن الوزيرة
فايزة أبو النجا كانت حلقة الصلة بينه وبين المشير حين أغلق هاتفه مفضلا عدم الرد
على أي طرف.
وأنه لما تراجع عن الاستقالة واجه انتقادات حادة من نائب رئيس الوزراء علي السلمي
الذي رأي في استقالته الفردية إحراجا سياسيا للحكومة، وأن وزير الداخلية آن ذاك
منصور العيسوي قال له "أنت عملت اللي أنا كانت عايز أعمله".
على المستوى الإقليمي
يتحدث الببلاوي عن أزمة السيولة التي عاني ويعاني منها الاقتصاد المصري منذ
الثورة، ويقول أن الاقتصاد الحقيقي في مصر لم يتأثر بالثورة، وأن الأزمة الاقتصادية الراهنة في مصر هي أزمة
سيولة بالأساس نابعة من تراجع تدفق السيولة في الاقتصاد المصري بسبب هروب
الاستثمارات الأجنبية و تراجع عائدات السياحة مع وجود عجز واضح في الميزانية يبلغ
حوالي 27 % أو 134 مليار جنيه منها يحتاج إلى تمويل وإلا أصيبت البلاد بأزمة مالية
ثم اقتصادية طاحنة.
وأن مصر نجحت في تمويل جانب كبير من هذا العجز من خلال القروض الداخلية،
ولكن بقت فجوة تقدر بحوالي 8-9 مليار دولار يصعب تمويلها، وأن تمويل هذا العجز
يحتاج توفير موارد اقتصادية سريعة في صورة قروض ومساعدات وليس استثمارات لأن
الاستثمارات تحتاج فترة زمنية أطول، وأزمة السيولة لن تنتظر.
ويقول الببلاوي أنه لجأ لدور
الخليج صاحبة الفوائض النفطية طلبا لقروض تقدر بحوالي 5-7 مليار دولار لمدة 3-5
سنوات تقدم بأسعار فائدة تعادل أسعار الفائدة التي يستثمرون بها في سندات الحكومة
الأميركية وأنه تقابل مع مسئولين في دولة خليجية - كالسعودية والكويت والإمارات –
وشرح لهم الأوضاع الصعبة التي تمر بها مصر وصعوبة الانتظار، وتقابل مع وزير
الخزانة الأميركي وطلب وساطته لدى الدول العربية، وقد قدمت السعودية وقطر مساعدات مالية
لمصر وأحجمت دول أخرى، ولم ترد على طلبات الببلاوي الذي يقول "وهكذا وضح أن
الدول العربية الشقيقة ليست في عجلة من أمرها، وأنها لم تحزم بعد مواقفها، إنها
تفضل الانتظار".
على المستوى الاقتصادي
يقول حازم الببلاوي أن إصلاح مشاكل مصر الاقتصادية يحتاج لاستراتيجيات
بعيدة المدى تتعامل مع قضايا كالزيادة السكانية والتصنيع والعدالة الاجتماعية
والتعاون الإقليمي، وأنه كان يضع خلال وجوده بالوزارة القضايا السابقة كأهداف
بعيدة المدى، ولكن تركيزه كان على القضايا العاجلة خاصة المتعلقة بعجز الموازنة
وتوفير السيولة والشفافية، فالاقتصاد المصري كالمريض بعض أمراضه مزمنة وتحتاج
علاجا على المدى الطويل، وبعد أمراضه يصعب الصبر عليها وتحتاج الاهتمام الفوري حتى
لا تتفاقم وتؤدي لأزمة كبرى.
ويشير الببلاوي إلى أن 55% من الموازنة المصرية تذهب إلى تمويل بندي الديون 22%
والدعم 32%، وهذا يعني أن 45% فقط من الموازنة تنفق على قضايا التعليم والصحة
والبنية التحتية والدفاع ... ألخ، في حين تذهب غالبية الموازنة لسداد التزامات
مسبقة على الحكومة المصرية.
ويركز الببلاوي على قضية تمويل الدعم ويقول أن 60% أو حوالي 90 مليار جنيه
ذهب للمواد البترولية وهي أموال قابلة للزيادة في السنوات المقبلة، وأن هيئة
البترول في مصر توقفت عن تحقيق أرباح منذ عامي 2005-2006 بسبب عوامل مختلفة من
بينها أنها دائنة لبعض المؤسسات الحكومية المصرية كوزارة الكهرباء ولا تستطيع أن
تستعيد ديونها منها لأن الكهرباء أيضا مدينة.
ويقول أن تخفيض عجز هيئة البترول يتطلب استراتيجيات مختلفة مثل خفض صادرات الغاز، وتطوير
نظام بطاقات صرف لضمان إيصال الدعم لمستحقيه، والرفع التدريجي لأسعار المواد
البترولية المقدمة للشركات والهيئات الاستثمارية، وترشيد الاستهلاك.
ويتحدث الببلاوي في بداية كتابه عن قضية هامة أثيرت في مصر كثيرا في
السنوات الأخيرة، وهي قضية وضع حد أعلى للأجور، ويقول أن وضع حد أعلى للأجور ليس
بالأمر السهل لأسباب عديدة من بينها حاجة المؤسسات الحكومية لاجتذاب الكفاءات،
ولتفاوت الأجور وتعريف الوظائف بشكل كبير عبر المؤسسات الحكومية المصرية مما يجعل
تطبيق معايير واحدة وسريعة عليها عملية في غاية الصعوبة، ويقول أنه فضل التركيز
على شفافية الأجور من خلال توضيح الأموال التي يتقاضاها كبار الموظفين بالحكومة
المصرية وعلى رأسهم الوزراء.
وبخصوص
ما يتقاضاه الوزراء في مصر، يقول حازم الببلاوي أن راتبه الشهري كوزير للمالية كان
1882 جنيه فقط يضاف إليها حوالي 30 ألف جنيه شهريا "كتعديل للمرتب" وأنه
رفض الحصول على بدلات إضافية - مقابل حضور بعض الاجتماعات الرسمية بصفته وزيرا
للمالية - قدم بعضها له في ظرف (أموال نقدية).
وأن المشير طنطاوي فوجئ برفضه الحصول على تلك البدلات وقال متسائلا "يعني أنت
لا تأخذ سوى 30 ألف جنيه"، وأن أحد الوزراء - الأكثر صخبا بالحديث عن العدالة
الاجتماعية - قدم طلبا "بتجديد الموافقة على استمرار صرف حوافز وجهود شهرية
لسيادته ... أسوة بما كان متبعا مع السادة رؤساء مجالس الإدارة السابقين"
بحكم توليه رئاسة إدارة إحدى اللجان.
كما يهتم الببلاوي بقضية الصناديق الخاصة في الحكومة المصرية، ويقول أن
الحكومة المصرية لجأت منذ سنوات لآلية تخصيص موارد مالية معينة مثل رسوم أو ضرائب
تفرض على قطاع ما ووضعها في صندوق مالي خاص بغرض تمويل هذا القطاع وتوفير مزيد من
الموارد المالية له، ولكن في ظل مشاكل الفساد وغياب الشفافية تحولت الصناديق
الخاصة إلى صداع في رأس الحكومة المصرية فقد زاد عددها بشكل كبير وتعددت أنواعها
وسبل تمويلها ورصد هذا التمويل داخل الميزانية ناهيك عن مشكلة تعدد مديونيات المؤسسات
الحكومية لدى بعضها، فبعض المؤسسات الحكومة المصرية مدينة لبعضها وللبنوك الخاصة بمبالغ
كبيرة وبشكل معقد للغاية يجعل من عملية حساب موازنة الحكومة المصرية ونفقاتها تحدي
كبير وهو ما يشير لحاجة الحكومة المصرية إلى إعادة تنظيم موازنتها داخليا للإطلاع
على حجم مديونياتها الحقيقي.
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى عدة أمور، أولها سهولة أسلوب الكتاب وثرائه
المعلوماتي، فالكتاب يتناول القضايا الاقتصادية بأسلوب سهل يقربها من القارئ، ويعد
مقدمة مفيدة عن الأوضاع المالية للحكومة المصرية، ولا يفتقر الكتاب للحس السياسي
العميق، وقد حاولنا تقليد سهولة الكتاب في مقالنا هذا حتى لا نثقل على القارئ
بمعلومات وأرقام اقتصادية جافة، واكتفينا بالتركيز على بعض أفكاره الرئيسية.
يجب أيضا الإشارة إلى وجود مثل هذا الكتاب في المكتبة المصرية هو من ثمار الثورة
المصرية ويبشر بعهد ثقافي سياسي مصري جديد أكثر انفتاحا وثراءا من حيث المعرفة
السياسية والاقتصادية، وكلما زادت المعلومة واتضحت وتحققنا منها كلما تمكن من
الوقوف بشكل أفضل على مشاكل بلادنا وربما علاجها.
ويؤكد الكتاب في خلاصته الرئيسية على أن حل مشاكل مصر السياسية والاقتصادية
المتراكمة لن يكون عملية سهلة، وأن مهمة الحكومات الراهنة يجب أن تبدأ بوقف نزيف
السياسة والاقتصاد في مصر قبل البدء في علاج مشاكل البلاد الراسخة على المدى
الطويل.
بقلم: علاء بيومي
No comments:
Post a Comment