انتهيت من قراءة كتاب "فصل في تاريخ الثورة العرابية" للمحمود الخفيف، وهو كتاب قصير (حوالي 100 صفحة) مؤلم مبكي من فرط ما تعرض له عرابي وثورة المصريين الوطنية الأولى من خيانة وإهدار.
مشكلة عرابي هو أنه فلاح كبقية المصريين أراد أن يمنح المصريين دستورا وحياة نيابية وحقوق، ولما وقف هو وزملائه أمام الخديوي يقدمون مطالب المصريين تحولت البلاد لأفراح لمدة ثلاثة شهور كان المصريون يعانقون بعضهم - وحتى الغريب - في الطرقات من شدة الفرح كما يقول الكتاب.
ولكن سرعان ما تأمر على عرابي وثورة المصريين النخب بانقسامهم، والخديوي باستعانته بالإنجليز، والإنجليز والذي قضوا على الثورة الوطنية بالسلاح والرشاوي والمؤامرات.
ولما نفي عرابي حرص الإنجليز كل الحرص على تغيير صورته وسط الناس، فلما عاد من المنفى بعد حوالي عقدين من الزمن وجد أن الجيل الجديد يعتقد أنه سبب المشاكل والكوارث التي حلت بمصر والمصريين وعلى رأسها الاحتلال.
ولكنه لما مات بعد عودته لمصر بحوالي عقد من الزمن لم يشارك أي مسئول رسمي في جنازته خوفا من الإنجليز ولكن آلاف من ابناء وطنه شيعوا جثمانه إلى مثواه الأخير في التفاف تلقائي حول الزعيم الوطني المصري الأول.
ويقول بعض كتاب الإنجليز المنصفين – في شهادات سجلها الكتاب – أنه لو خاض عرابي انتخابات حرة أمام الخديوي لفاز عليه، وأنه لما سجن عاشت أسرته على معونات خيرية يقدمها له بعض أصدقائه سرا، وأنه لما نفي لم يكن يملك مالا يشتري به ملابس لنفسه، وأن مقاومة المصريين للغزو الإنجليزي لم تكلف خزينة الدولة مليما واحدا وأنها قامت على تبرعات المصريين.
وأن المصريين التفوا حول عرابي يقاومون الإنجليز ومدافعهم المتقدمة بصدورهم العارية في معارك غير متكافئة متسلحين بحبهم بوطنهم وإيمانهم بالله، حيث تعجب بعض الإنجليز من سهر الجنود المصريين في دوائر الذكر قبل المعارك المفصلية.
وكان يمكن أن يكتب لعرابي النصر ودحر الاحتلال الانجليزي لولا الخيانة وتقديم خطط قتاله للأعداء.
أما خزائن الدولة فقد أفرغها ممثلون إنجليز نيابة عن الخديوي الذي دخل إلى قصره بعد هزيمة عرابي في حماية الإنجليز وأقام لهم الاحتفالات وأنعم عليهم بالأوسمة لأنهم هزموا عرابي، وذلك لأن الخديوي لم ينس أبدا يوم وقف عرابي أمامه في القصر هو وجنوده يطالبونه بالدستور والبرلمان.
أما الانجليز فقد قالوا في البداية ان احتلالهم مؤقت، ودام بعد ذلك سبعة عقود، وأول ما فعلوه هو حل الدستور والبرلمان واستبدالهما بقوانين ومجلس بلا أسنان.
ولكي يبدأ الإنجليز مهاجمة مصر تذرعوا بأن عرابي الذي كان وزيرا للحربية في ذلك الوقت يزيد من تحصين أسوار الإسكندرية بمدفعين أو ثلاثة، وأن هذه الزيادات هي تهديد لسفنهم أو استفزاز لها، يعني وجود سفنهم حول سواحل مصر لم يكن عملا استفزازيا، وقيام أبناء البلد بتحصين أرضهم ضد الغزو بمدفعين عملا استفزازيا.
وبرر الإنجليز غزوهم بحماية الخديوي ورحب هو بالغزو للقضاء على جيش عربي ورجاله.
أم النخبة فكانت منقسمة، فهي تارة مع عرابي، وتارة مع الخديوي، وتارة مع التهدئة، وتارة مع الخوف من تدخل الإنجليز، وتارة مع السلطان العثماني الذي أعلن انشقاق عرابي عن أوامره خلال مقاومته للإنجليز، ناهيك عن رشاوى قدمت لقادة الجنود وخيانات حدثت خلال المعارك.
مشكلة عرابي ومن معه أنهم فلاحون من أبناء البلد، ذاقوا الأمرين على ايادي الضباط الأجانب المسيطرين على الجيش، ولكن بعضهم نبغ، وأجاد وأصبح خبيرا في عمله وعلى رأسهم عرابي، وضاق بالتمييز ضد ابناء البلد وبتدخل الخارج في شئونها وبتراجع الحقوق والحريات والفقر والديون، وأرادوا وضع البلد على طريق التقدم.
ولم يكونوا ضد السلطة القائمة بالضرورة، فقد عاملوا الخديوي بكل احترام يوم أن قدموا له مطالب الثورة، وظلوا حريصين عليه وعلى مصالح السلطان العثماني، ولكن كل ذلك لم يغفر لهم، فقد فضل الخديوي أن يدخل قصره في حماية الضباط الإنجليز على أن يصبر على حركة وطنية مصرية.
أما محاكمة عرابي بعد القبض عليه فقد كانت مهزلة، كانت مسرحية لإدانته والتخلص منه، ومواقف الدول الغربية التي كانت تسمى نفسها "متمدنة" فقد كانت أيضا مهزلة، فهي تتصرف كالذئاب للفوز بفريستها، أعلنت وعودا وخالفتها، واستخدمت الخداع والرشاوى في حروبها، ولم ترحم البلاد من أسلحتها المدمرة التي كانت تسبقها قبل كل معركة.
وبعض المنصفين الإنجليز قالوا أن عرابي كان مواطنا حريصا على بلده، وأنه كان زعيما وطنيا حقيقا لثورة وطنية عالمية الخصائص، وأنه وزملائه كانوا على قدر مناسب من التعليم، وأنهم كانوا يمثلون حركة وطنية حقيقة، وأن الشعب كان ملتفا فعلا حولهم، وأنه لو أتيحت لهم الفرصة لربما بنوا مصر، ولربما كانت مصر بلدا أخر غير الذي لم نعرفه اليوم.
ولكن لم يصبر أحد على عرابي وثورته التي لم يطل عمرها أكثر من حوالي 3 سنوات، انتهت بنفيه واحتلال مصر.
ويحسب لعرابي ومن حوله أنه كان حريص كل الحرص على توحيد المصريين، وأنه لم يسع لسلطة وإنما كان صعوده تلقائيا وسط الناس التي التفت من حوله، وقد كتب في خاتمة مذكراته يوصى من سيأتي بعده بالحرص كل الحرص على وحدة المصريين وتقوية صفهم الداخلي.
والله أعلم، ما رأيكم!؟
No comments:
Post a Comment