الإمبراطور الأميركي الأخير
بقلم: علاء بيومي
الناشر: جريدة البديل المصرية، 13 أكتوبر 2008
نص المقال
من يعتقدون أن خسارة جون ماكين - المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية - في الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون خسارة عادية لمرشح رئاسي عادي مخطئون لأن ماكين باختصار هو أخر إمبراطور أميركي منتظر، لذا ستمثل هزيمته في الانتخابات الرئاسية المقبلة هزيمة لمشروع الإمبراطورية الأميركية ذاته
فماكين وريث الإمبراطورية الأميركية الشرعي والأخير، فهو قائد عسكري سابق ينحدر من أسرة من قادة البحرية الأميركية، كما أنه خاض حرب فيتنام ووقع خلالها في الأسر لأكثر من خمس سنوات ونصف ليعود بعدها لأميركا ويستقبل استقبال الأبطال ويحظى بصورة البطل القومي باقتدار، وهي صورة مازال يحتفظ بها ماكين إلى يومنا هذا، حتى أن كتب - بالتعاون مع كاتب خطاباته المفضل مارك سالتر - قصص مختصرة موجهة للشباب الأميركي عن عظماء التاريخ الأميركي والعالمي بهدف زرع قيم الوطنية وحب الوطن والبطولة في نفوس الشباب بالولايات المتحدة، كما أن سيرة ماكين الذاتية تحولت لفيلم سينمائي
بعد عودة ماكين لأميركا في أوائل السبعينيات لم يجد صعوبة في دخول معترك السياسة حيث صار عضوا بالكونجرس في أوائل عام 1983، وقد ظل ماكين منذ ذلك الحين وحتى منتصف التسعينيات من معارضي التدخل العسكري الخارجي تأثرا بعقدة فيتنام وبمعاناة الجيش الأميركي هناك وتأثرا بخبرة الحرب الباردة القائمة على الردع وسباق التسلح العسكري وتفضيل الواقعية على المثالية في العلاقات الدولية
ولكن ماكين أسير حرب فيتنام تغير كثيرا في منتصف التسعينيات، وهي نفس الفترة التي شهدت ولاية الجيل الثاني من المحافظين الجدد المعروفين بتهورهم على ساحة السياسة الخارجية، وقد ارتبط تغير ماكين وظهور جيل المحافظين الجدد الجديد بحدث أكبر وهو سقوط الاتحاد السوفيتي وصعود نجم أميركا كقطب العالم الأوحد
حيث قاد ماكين بخلفيته العسكرية القوية واهتمامه الواضح بالسياسة الخارجية جهود الجمهوريين في البحث عن سياسة خارجية جديدة تتناسب مع فترة ما بعد الحرب الباردة، وقد فكر مليا وشارك في مشاريع بحثية وسياسية مختلفة، ويبدو أن بحثه السابق قاده تدريجيا إلى الإيمان بنظرية "العظمة الوطنية الأميركية" وهو من بنات أفكار المحافظين الجدد
نظرية "العظمة الوطنية الأميركية" تقوم على فكرة بناء حزب جمهوري جديد يتعالى على مشاكل أميركا الداخلية مثل الصراعات الثقافية والدينية والأخلاقية ويتبنى سياسة داخلية ليبرالية بعض الشيء على أن يتبنى سياسة خارجية توسعية تضمن لأميركا الحفاظ على "فترة القطبية الأحادية" لأطول فترة ممكنة، وذلك من خلال تبني سياسات ومشاريع دولية كبرى وطموحة تعيد بناء النظام العالمي على شاكلة ترضي أميركا والمحافظين الجدد
ويقول مارك سالتر كاتب خطابات ماكين الرئيسي أنه تأثر بالنظرية السابقة في منتصف التسعينات، خاصة وأن سالتر سبق وأن عمل مساعدا لجين كيركباتريك سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة في عهد ريجان، وأحد أشهر قيادات الجيل الأول من المحافظين الجدد
على الجانب الأخر تحدث المحافظين الجدد كثيرا في نهاية التسعينيات عن ماكين، وعبروا عن تقديرهم له وإعجابهم به، حيث رأى نورمان بودهوريتز أن ماكين هو واحد من السياسيين الأميركيين القلائل الذي يتمتع بقيم الأصالة كالشجاعة والبطولة واستقلالية الرأي والجراءة، مما يؤهله لكي يكون واحد من قادة أميركا والغرب العظام التاريخيين
لذا أيد غالبية المحافظين الجدد ماكين عند خوضه الانتخابات الرئاسية التمهيدية التي أجريت في أوساط الحزب الجمهوري عام 2000، ولكن ماكين خسر أمام جورج دبليو بوش الذي تحالف مع النخب التقليدية للحزب الجمهوري وقوى اليمين المسيحي المتدينة التي لم ترض عن ماكين بسبب علمانيته، وقد حزن المحافظون الجدد لخسارة ماكين أمام بوش في عام أوائل 2000، وطالبوا بوش بعد فوزه بالرئاسية الأميركية في نهاية العام نفسه بأن يعين ماكين بحكومته، ولكن بوش رفض
عموما بقى ماكين خارج السلطة ولكنه ظل أحد أقوى الشخصيات الجمهورية على الإطلاق سواء، وصاحب أجندة خارجية صقورية، فعلى سبيل المثال يعتبر ماكين أحد أهم داعمي حرب العراق على الإطلاق، حيث أيدها قبل وقوعها، كما كان لدعمه لإستراتيجية زيادة القوات الأميركية في العراق والتي طبقت في أوائل عام 2007 أكبر الأثر في تطبيقها والموافقة عليها
وبعد عودة الجمهوريين لماكين في انتخابات العام الحالي عاد المحافظون الجدد إليه يهرولون، حتى أن كبير مستشاري ماكين للسياسة الخارجية راندي شونمان هو من أبرز قيادات المحافظين الجدد، وأحد منسقي "لجنة تحرير العراق" الرئيسيين، وهي لجنة أسست في عام 2002 لتضم أكبر الداعمين لحرب العراق خارج الإدارة الأميركية
المثير هنا أن المحافظين الجدد يدركون جيدا أن ماكين هو فرصتهم الأخيرة، وأنه هزيمة ماكين في الانتخابات الأميركية المقبلة هي إعلان وفاة لنظرية "العظمة الوطنية الأميركية" كما يتصورها المحافظون الجدد، وإعلان نهاية عصر الإمبراطورية الأميركية
أبرز الدلائل على ذلك جاءت في كتابات روبرت كاجان، أحد أبرز منظري المحافظين الجدد، والذي نشر في أوائل العام الحالي كتابا بعنوان "عودة التاريخ" ينعي فيه فكرة "نهاية التاريخ" التي رددها فرانسيس فوكوياما في أوائل التسعينات
والمعروف أن فوكوياما بدوره هو أحد أبرز قادة المحافظين الجدد، وأنه نشر كتابا بعنوان "نهاية التاريخ" حاز باهتمام دولي كبير في أوائل التسعينيات حيث تحدث عن انتصار تاريخي لأميركا والغرب والرأسمالية الغربية في معركتها مع الشرق والاتحاد السوفيتي، وكيف أن هذا الانتصار هو بمثابة إعلان لنهاية التاريخ لأنه وصل إلى أعلى مراحل تقدمه
والمعروف أيضا أن فوكوياما تبرأ من المحافظين الجدد بعد حرب العراق، أما كاجان فقد أدرك بدوره أن فكرة نهاية التاريخ لم تعد ذات معنى بعد تراجع سمعة ونفوذ أميركا بسبب حرب العراق، وبعد صعود قوى الشرق وعلى رأس الصين، لذا كتب يتحدث عن عودة التاريخ وقرب نهاية لحظة الأحادية الأميركية
وتشير تقارير صحفية أن كاجان والذي يعد أحد مستشاري السياسية الخارجية لحملة ماكين نجح في التأثير على ماكين وفي تضمين بعد أفكاره الخاصة بعود التاريخ في خطابات ماكين منذ صيف العام الحالي
ومن المعروف أن ماكين من أنصار إعادة بناء العالم، حيث ينادي ببناء "عصبة الديمقراطيات" وهي منظمة دولية كبرى أكبر من الناتو وأصغر من الأمم المتحدة تضمن أميركا والدول المساندة لها في مقابل الدول المعارض للولايات المتحدة، حيث يرى ماكين أن الأمم المتحدة فشلت في التعامل مع دول كإيران، وأنه يريد بناء المنظمة الجديدة لكي تكون بديلا عن الأمم المتحدة في حال فشلها في التعامل مع القضايا الدولية الصعبة لإيران، بمعنى أخر يريد ماكين إعادة صف دول العالم خلف أميركا في عصر ما بعد الحرب الباردة
لذا وضع كاجان بعض العبارات الخاصة بتراجع قوة أميركا وصعود قوى دولية جديدة في خطاب ماكين كنوع من التواضع، أو ربما كنوع من التذكرة باقتراب نهاية مشروع الإمبراطورية الأميركية، وبأن على الأميركيين انتخاب ماكين أخر إمبراطور أميركي قبل فوات الأوان، ولعل هذه هي الأسباب التي دعتنا إلى القول في بداية هذه المقالة بأن هزيمة ماكين هي في حقيقتها هزيمة لأخر إمبراطور أميركي بل ولمشروع الإمبراطورية الأميركية ذاته
الناشر: جريدة البديل المصرية، 13 أكتوبر 2008
نص المقال
من يعتقدون أن خسارة جون ماكين - المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية - في الانتخابات الرئاسية المقبلة ستكون خسارة عادية لمرشح رئاسي عادي مخطئون لأن ماكين باختصار هو أخر إمبراطور أميركي منتظر، لذا ستمثل هزيمته في الانتخابات الرئاسية المقبلة هزيمة لمشروع الإمبراطورية الأميركية ذاته
فماكين وريث الإمبراطورية الأميركية الشرعي والأخير، فهو قائد عسكري سابق ينحدر من أسرة من قادة البحرية الأميركية، كما أنه خاض حرب فيتنام ووقع خلالها في الأسر لأكثر من خمس سنوات ونصف ليعود بعدها لأميركا ويستقبل استقبال الأبطال ويحظى بصورة البطل القومي باقتدار، وهي صورة مازال يحتفظ بها ماكين إلى يومنا هذا، حتى أن كتب - بالتعاون مع كاتب خطاباته المفضل مارك سالتر - قصص مختصرة موجهة للشباب الأميركي عن عظماء التاريخ الأميركي والعالمي بهدف زرع قيم الوطنية وحب الوطن والبطولة في نفوس الشباب بالولايات المتحدة، كما أن سيرة ماكين الذاتية تحولت لفيلم سينمائي
بعد عودة ماكين لأميركا في أوائل السبعينيات لم يجد صعوبة في دخول معترك السياسة حيث صار عضوا بالكونجرس في أوائل عام 1983، وقد ظل ماكين منذ ذلك الحين وحتى منتصف التسعينيات من معارضي التدخل العسكري الخارجي تأثرا بعقدة فيتنام وبمعاناة الجيش الأميركي هناك وتأثرا بخبرة الحرب الباردة القائمة على الردع وسباق التسلح العسكري وتفضيل الواقعية على المثالية في العلاقات الدولية
ولكن ماكين أسير حرب فيتنام تغير كثيرا في منتصف التسعينيات، وهي نفس الفترة التي شهدت ولاية الجيل الثاني من المحافظين الجدد المعروفين بتهورهم على ساحة السياسة الخارجية، وقد ارتبط تغير ماكين وظهور جيل المحافظين الجدد الجديد بحدث أكبر وهو سقوط الاتحاد السوفيتي وصعود نجم أميركا كقطب العالم الأوحد
حيث قاد ماكين بخلفيته العسكرية القوية واهتمامه الواضح بالسياسة الخارجية جهود الجمهوريين في البحث عن سياسة خارجية جديدة تتناسب مع فترة ما بعد الحرب الباردة، وقد فكر مليا وشارك في مشاريع بحثية وسياسية مختلفة، ويبدو أن بحثه السابق قاده تدريجيا إلى الإيمان بنظرية "العظمة الوطنية الأميركية" وهو من بنات أفكار المحافظين الجدد
نظرية "العظمة الوطنية الأميركية" تقوم على فكرة بناء حزب جمهوري جديد يتعالى على مشاكل أميركا الداخلية مثل الصراعات الثقافية والدينية والأخلاقية ويتبنى سياسة داخلية ليبرالية بعض الشيء على أن يتبنى سياسة خارجية توسعية تضمن لأميركا الحفاظ على "فترة القطبية الأحادية" لأطول فترة ممكنة، وذلك من خلال تبني سياسات ومشاريع دولية كبرى وطموحة تعيد بناء النظام العالمي على شاكلة ترضي أميركا والمحافظين الجدد
ويقول مارك سالتر كاتب خطابات ماكين الرئيسي أنه تأثر بالنظرية السابقة في منتصف التسعينات، خاصة وأن سالتر سبق وأن عمل مساعدا لجين كيركباتريك سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة في عهد ريجان، وأحد أشهر قيادات الجيل الأول من المحافظين الجدد
على الجانب الأخر تحدث المحافظين الجدد كثيرا في نهاية التسعينيات عن ماكين، وعبروا عن تقديرهم له وإعجابهم به، حيث رأى نورمان بودهوريتز أن ماكين هو واحد من السياسيين الأميركيين القلائل الذي يتمتع بقيم الأصالة كالشجاعة والبطولة واستقلالية الرأي والجراءة، مما يؤهله لكي يكون واحد من قادة أميركا والغرب العظام التاريخيين
لذا أيد غالبية المحافظين الجدد ماكين عند خوضه الانتخابات الرئاسية التمهيدية التي أجريت في أوساط الحزب الجمهوري عام 2000، ولكن ماكين خسر أمام جورج دبليو بوش الذي تحالف مع النخب التقليدية للحزب الجمهوري وقوى اليمين المسيحي المتدينة التي لم ترض عن ماكين بسبب علمانيته، وقد حزن المحافظون الجدد لخسارة ماكين أمام بوش في عام أوائل 2000، وطالبوا بوش بعد فوزه بالرئاسية الأميركية في نهاية العام نفسه بأن يعين ماكين بحكومته، ولكن بوش رفض
عموما بقى ماكين خارج السلطة ولكنه ظل أحد أقوى الشخصيات الجمهورية على الإطلاق سواء، وصاحب أجندة خارجية صقورية، فعلى سبيل المثال يعتبر ماكين أحد أهم داعمي حرب العراق على الإطلاق، حيث أيدها قبل وقوعها، كما كان لدعمه لإستراتيجية زيادة القوات الأميركية في العراق والتي طبقت في أوائل عام 2007 أكبر الأثر في تطبيقها والموافقة عليها
وبعد عودة الجمهوريين لماكين في انتخابات العام الحالي عاد المحافظون الجدد إليه يهرولون، حتى أن كبير مستشاري ماكين للسياسة الخارجية راندي شونمان هو من أبرز قيادات المحافظين الجدد، وأحد منسقي "لجنة تحرير العراق" الرئيسيين، وهي لجنة أسست في عام 2002 لتضم أكبر الداعمين لحرب العراق خارج الإدارة الأميركية
المثير هنا أن المحافظين الجدد يدركون جيدا أن ماكين هو فرصتهم الأخيرة، وأنه هزيمة ماكين في الانتخابات الأميركية المقبلة هي إعلان وفاة لنظرية "العظمة الوطنية الأميركية" كما يتصورها المحافظون الجدد، وإعلان نهاية عصر الإمبراطورية الأميركية
أبرز الدلائل على ذلك جاءت في كتابات روبرت كاجان، أحد أبرز منظري المحافظين الجدد، والذي نشر في أوائل العام الحالي كتابا بعنوان "عودة التاريخ" ينعي فيه فكرة "نهاية التاريخ" التي رددها فرانسيس فوكوياما في أوائل التسعينات
والمعروف أن فوكوياما بدوره هو أحد أبرز قادة المحافظين الجدد، وأنه نشر كتابا بعنوان "نهاية التاريخ" حاز باهتمام دولي كبير في أوائل التسعينيات حيث تحدث عن انتصار تاريخي لأميركا والغرب والرأسمالية الغربية في معركتها مع الشرق والاتحاد السوفيتي، وكيف أن هذا الانتصار هو بمثابة إعلان لنهاية التاريخ لأنه وصل إلى أعلى مراحل تقدمه
والمعروف أيضا أن فوكوياما تبرأ من المحافظين الجدد بعد حرب العراق، أما كاجان فقد أدرك بدوره أن فكرة نهاية التاريخ لم تعد ذات معنى بعد تراجع سمعة ونفوذ أميركا بسبب حرب العراق، وبعد صعود قوى الشرق وعلى رأس الصين، لذا كتب يتحدث عن عودة التاريخ وقرب نهاية لحظة الأحادية الأميركية
وتشير تقارير صحفية أن كاجان والذي يعد أحد مستشاري السياسية الخارجية لحملة ماكين نجح في التأثير على ماكين وفي تضمين بعد أفكاره الخاصة بعود التاريخ في خطابات ماكين منذ صيف العام الحالي
ومن المعروف أن ماكين من أنصار إعادة بناء العالم، حيث ينادي ببناء "عصبة الديمقراطيات" وهي منظمة دولية كبرى أكبر من الناتو وأصغر من الأمم المتحدة تضمن أميركا والدول المساندة لها في مقابل الدول المعارض للولايات المتحدة، حيث يرى ماكين أن الأمم المتحدة فشلت في التعامل مع دول كإيران، وأنه يريد بناء المنظمة الجديدة لكي تكون بديلا عن الأمم المتحدة في حال فشلها في التعامل مع القضايا الدولية الصعبة لإيران، بمعنى أخر يريد ماكين إعادة صف دول العالم خلف أميركا في عصر ما بعد الحرب الباردة
لذا وضع كاجان بعض العبارات الخاصة بتراجع قوة أميركا وصعود قوى دولية جديدة في خطاب ماكين كنوع من التواضع، أو ربما كنوع من التذكرة باقتراب نهاية مشروع الإمبراطورية الأميركية، وبأن على الأميركيين انتخاب ماكين أخر إمبراطور أميركي قبل فوات الأوان، ولعل هذه هي الأسباب التي دعتنا إلى القول في بداية هذه المقالة بأن هزيمة ماكين هي في حقيقتها هزيمة لأخر إمبراطور أميركي بل ولمشروع الإمبراطورية الأميركية ذاته
No comments:
Post a Comment