آخر
صورة لمصر قبل الثّورة
قراءة
في كتاب: حركات التّغيير الجديدة في الوطن العربيّ - دارسة للحالة المصريّة
أحمد
منيسي، مركز الإمارات للدّراسات والبحوث الإستراتيجيّة، الطّبعة الأولى 2010
قراءة بقلم: علاء
بيومي، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حقوق الطبع والنشر محفوظة
للناشر.
نص العرض:
إنّه كتاب مفيد ويستحقّ القراءة في الظّروف التي يمرّ بها عالمنا العربيّ - وخاصّة
مصر - في الفترة الحاليّة، فالكتاب يقدّم صورة لمصر في السّنوات الأخيرة التي سبقت
الثّورة.
الكتاب مكتوب
بأسلوب سهل للغاية، كما أنّه صغير الحجم (174 صفحة من القطع الصّغير)، وحافل
بالإحصائيّات الدّقيقة والأرقام بلا إغراق في التّفاصيل، ممّا يجعل قراءته سهلة
ومفيدة في آنٍ واحد.
وهو يدرس ظاهرة
هامّة للغاية؛ هي ظاهرة حركات التّغيير السّياسيّ التي ظهرت في العالم العربيّ
خلال العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين، والتي نشطت بشكل خاصّ بعد حرب
العراق. ويقول الكاتب: إنّ ظهور تلك الجماعات كان نتيجة لانسداد أفق التّغيير
السّياسيّ في النّظم السّياسيّة العربيّة القائمة، بشكل أشعر "النّسيج
الحيّ" في حركات المعارضة العربيّة - أي ما تبقّى داخل تلك الحركات من قوى
فاعلة بعد القمع الذي تعرّضت له - بأنّ حلول الأنظمة الحاكمة ووعودها بالإصلاح لا
أمل فيها، وأنّ الحلّ الوحيد يكمن في التّغيير الشّامل والجذريّ.
ويركّز الكاتب
على الحركات الجديدة التي باتت تؤمن بأن لا حلّ يلوح في الأفق، وأنّ اللّعبة
السّياسيّة القائمة وقواعدها لم تعد مقبولة، وأن لا حلّ إلّا بتغيير تلك القواعد
كاملة والعودة إلى الشّارع وإعادة بناء قواعد العمل السّياسيّ في المجتمعات
العربيّة من جديد.
ويقول الكاتب:
إنّ تلك الحركات، مثلّت الإحياء الأهمّ للمعارضة العربيّة منذ عقود، بعدما
"تكلّست" الشّعوب العربيّة سياسيّا، وأُفرغت جماعات المعارضة
التّقليديّة من مضمونها تحت مطرقة النّظم العربيّة الدّيكتاتوريّة.
ويركّز الكتاب
- بشكل خاصّ - على حركات التّغيير الجديدة في مصر، ولكنّه يتعامل أيضًا مع نماذجَ
لتلك الحركات في ثلاث دول، هي سوريا وتونس والسّعوديّة.
ولعلّ حداثة
الكتاب - نسبيًّا - وموضوعه، وتناوله للأوضاع في أكثر من دولة عربيّة، تفتح أمام
القارئ باب المقارنة بين مضمونه وتحليلاته للوضع العربيّ ولجماعات المعارضة
العربيّة من جهة، والواقع الذي تعيشه بعض الدّول العربيّة الآن، وخاصّة في مصر
التي يركّز عليها الكتاب.
تعريف الجماعات الجديدة
يقول كاتب
الكتاب: إنّ الحركات السّياسيّة، هي تيّارات عامّة تدفع أعدادا كبيرة نسبيًّا من
النّاس لتنظيم أنفسهم، وهي أكبر من الأحزاب وأقلّ تنظيمًا منها؛ وهي حركات تغيير،
لأنّها غير راضية عن الوضع القائم، وتهدف إلى تغييره نحو نموذج أفضل، لذا فهي
تتبنّى فكرة التّغيير الشّامل للوضع السّياسيّ القائم.
وقد قامت حركات
التّغيير الجديدة على أنقاض جماعات المعارضة العربيّة التّقليديّة، وسلكت طريقا
مغايرًا لمنهج الجماعات التّقليديّ الحاليّ. فالحركات الجديدة، ضمّت تحالفات واسعة
من المعارضين العرب، ما بين يساريّ وإسلاميّ وليبراليّ وقوميّ ووطنيّ؛ لذا فقد
تميّزت بتحالفاتٍ فضفاضة التفّت حول قضايا أساسيّة، كالحاجة إلى التّغيير ورفض
إصلاحات الأنظمة الشّكليّة، والمطالبة بالدّيمقراطيّة وإطلاق الحرّيات وتحرير
الإعلام، والتّأكيد على الاستقلال الوطنيّ في مواجهة التّدخّلات الخارجيّة.
وبدلا من العمل
على تحقيق الأجندة السّابقة من خلال الطّرق القديمة كالمشاركة في الانتخابات غير
الحرّة التي تنظّمها بعض النّظم العربيّة كلّ عدّة سنوات، فضّلت الحركات الجديدة
التوجّه نحو الشّارع العربيّ مباشرةً، من خلال تنظيم المظاهرات والاحتجاجات
والوقفات والاعتصامات، ممّا أكسبها حيويّة كانت مفتقدة في الشّارع العربيّ منذ
عقود، كما ساعدها - أيضًا - على التفاف قطاعاتٍ جديدة حولها مثل الشّباب.
كما رفعت
الحركات الجديدة سقف الخطاب السّياسيّ إلى حدودٍ غير مسبوقة، متخطّية كثيرا من
"الخطوط الحمراء"، حيث طالبت بتغيير النّظم، ورفضت التّوريث في بلادٍ
كمصر، وطالبت بإصلاحٍ سياسيّ شامل. ولم تهتمّ تلك الحركات بالعمل داخل النّظام
السّياسيّ أو القانونيّ القائم، فهي لم تهتمّ بتسجيل نفسها أو بالحصول على تصاريح
قانونيّة لمظاهراتها، بل تخطّت القيود القائمة على العمل السّياسيّ في البلاد
العربيّة، ووصلت إلى المواطن مباشرةً من خلال العمل السّياسيّ الجماهيريّ المباشر،
ومن خلال أدوات الاتّصال الحديثة كالإنترنت ووسائل الإعلام.
وقد ساعد الحركات الجديدة على القيام بالأدوار السّابقة، كونها لا تسعى إلى
السّلطة في ظلّ النّظم القائمة، ممّا قد يضطرّها للمهادنة والسّير في قنواتٍ
معيّنة وضعتها السّلطات، قد تُفقدها فعاليّتها. لقد حدّدت الحركات هدفها منذ
البداية بتغيير الوضع القائم برمّته لا بإصلاحه.
أسباب الظّهور
يشير الكتاب
إلى أنّ ظهور تلك الحركات ونجاحها، ارتبط بعدد من العوامل الدّاخليّة والخارجيّة
على حدٍّ سواء. وهنا، يبدو الكتاب أكثر اعترافا بدور العوامل الخارجيّة في دفع
عجلة التّغيير السّياسيّ في العالم العربيّ، مقارنةً ببعض التيّارات السّياسيّة
العربيّة التي تنظر نظرة سلبيّة إلى أيّ دور مباشر أو غير مباشر للقوى الخارجيّة
في التّغيير.
من جانبٍ آخر،
يلفت د. أحمد منيسي النّظر عبر صفحات كتابه إلى الدّور الذي لعبه الغزو الأميركيّ
للعراق في عام 2003، وإلى ضغط الرّئيس الأميركيّ السّابق جورج والكر بوش لفترة على
بعض النّظم العربيّة - كالنّظام المصريّ- لإجراء إصلاحات سياسيّة داخليّة بعد
الحرب؛ مضيفًا إلى ذلك الضّغوط التي تعرّضت لها بعض الدّول العربيّة - كالسّعوديّة
- من الولايات المتّحدة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. وساعدت هذه العوامل التي
أشار إليها منيسي مجتمعة - بشكلٍ مباشر وغير مباشر - في صعود حركات التّغيير
الجديدة.
يرى مؤلّف
الكتاب أنّ الغزو الأميركيّ للعراق "أكّد ضعف النّظم السّياسيّة القائمة على
الاستبداد، وعدم قدرتها على مواجهة الضّغوط والتحدّيات الخارجيّة". كما ساهم
في إثارة الشّارع العربيّ بشكل غير مسبوق، وأدّى - من ناحية - إلى ضغوط العالم
الخارجيّ على النّظم العربيّة لفترة مؤقّتة تالية للحرب من أجل الإصلاح السّياسيّ،
وهي ضغوط فتحت الباب أمام تغيّرات هامّة، كتلك التي حدثت في مصر خلال عامي 2004
و2005، بطريقة سمحت بصعود الإخوان المسلمين إلى عضويّة البرلمان المصريّ بشكل غير
مسبوق (إذ احتلّوا تقريبا خُمس مقاعد مجلس الشّعب المصريّ في انتخابات 2005).
على المستوى
الدّاخليّ، يشير المؤلّف إلى عواملَ عديدة؛ فهنالك القمع السّياسيّ المستمرّ،
وغياب فرص حقيقيّة للمشاركة أو للتّغيير السّياسيّ، وتردّي الاقتصاد، وارتفاع
البطالة ومعدّلات الفقر، وانخفاض معدّلات النّموّ، وضعف متزايد في قدرة بعض النّظم
العربيّة على تقديم الخدمات الأساسيّة لمواطنيها، خاصّة بعد برامج الخصخصة التي
تبنّاها بعضها في أوائل التّسعينيّات من القرن الماضي.
وبموازاة هذه
الأوضاع، كانت هنالك زيادة في الوعي السّياسيّ بسبب زيادة نسبة المتعلّمين
(الملمّين بالقراءة والكتابة)، ودخول النّساء إلى سوق العمل، وزيادة نسبة السّكّان
في الحضر والمدن، وزيادة الأعمار بحكم التّطوّر في المجالات الصحيّة، وظهور
الإعلام الفضائيّ الحرّ والإعلام المستقلّ، سواء على المستوى الإقليميّ بتنامي دور
قناة الجزيرة وغيرها من القنوات الفضائيّة التي أسهمت في كسر احتكار النّظم
العربيّة على تدفّق المعلومات، أو على المستوى المحليّ وظهور الصّحف والفضائيّات
المحليّة المستقبلة، وقد كان لمصر نصيب كبير منها؛ هذا بالإضافة إلى انتشار
استخدام الإنترنت في تبادل المعلومات والأفكار، وحتّى في التّواصل بين حركات
المعارضة والمشاركين في الاحتجاجات.
ويورد الكتاب
ملاحظة مهمّة تتعلّق بتنامي مؤسّسات المجتمع المدنيّ في بعض الدّول العربيّة، وعلى
رأسها مؤسّسات حقوق الإنسان، والتي أكّدت على أنّ المشاركة السّياسيّة هي حقّ من
حقوق الإنسان وليس هبة من الحاكم. كما زادت أعداد المنظّمات المعنيّة بالمرأة
وحقوقها، إذ يقول الكاتب "قدّر تقرير التّنمية الإنسانيّة العربيّة للعام
2005، أنّ القسم الأكبر من الجمعيّات المدنيّة التي تكوّنت في العقدين الماضيين والبالغ
عددها 225000 جمعيّة، يعود إلى جمعيّات نسائيّة؛ وبلغت نسبة هذه الجمعيّات 45% في
اليمن، و42% في فلسطين، و18% في مصر".
هذا يعني أنّنا
أمام تراجع مستمرّ في قدرة النّظم على إرضاء الشّعوب بسبب جمودها وتراجع قدراتها
الاقتصاديّة، وهو تراجع يواجهه نموّ في الوعي السّياسيّ.
ويتبيّن أنّ
لظاهرة حركات التّغيير السّياسيّ في الوطن العربيّ أسبابًا متعدّدة وآباء كثرا،
وأنّها لم تظهر فجأة ولا تعود إلى قيادة جماعة أو حزب بعينه أو مجموعة من
النّاشطين، فهي نتاج لتطوّر عوامل مختلفة، مرّت بها المجتمعات العربيّة على مدى
عقدين من الزّمن أو أكثر. وربّما تكون في قراءة الكتاب دعوة لبعض الجماعات
السّياسيّة العربيّة في عصر الثّورات، تحثّهم على التّواضع وعلى الاعتراف بفضل
الآخرين.
آباء الثّورة المصريّة
تظهر الحقيقة
السّابقة بوضوح في الحالة المصريّة التي يركّز عليها الكتاب، في حين يمرّ سريعًا
على بعض حركات التّغيير في سوريا وتونس والسّعوديّة. وتركيز المؤلّف على مصر، قصد
منه توضيح الصّورة وتجليتها عن طريق نموذج تفصيليّ. فالكتاب - إذًا- يوضّح أنّ
جذور حركات التّغيير السّياسيّ في مصر قديمة، وربّما تعود إلى عقدين سابقين شهدا
صنوفًا من سياسات الحكومة المصريّة وردود أفعال المعارضة عليها. وهو يشير إلى سعي
حكومة الرّئيس المصريّ السّابق حسني مبارك إلى تقييد حركة المعارضة في
التّسعينيّات من القرن العشرين، بعد انفراج سياسيّ نسبيّ في الثّمانينيّات، حيث
تمّ تقييد عمل النّقابات في عام 1993، كما "كرّس من الإطار الدّستوريّ
والقانونيّ غير الدّيمقراطيّ الذي يحكم عمل النّظام السّياسيّ، و ثبّت النّظام
الانتخابيّ الذي لا يكفل انتخابات حرّة، كما عمل على دعم سيطرته على المجتمع
المدنيّ".
ويشير الكتاب
إلى أنّه ونتيجة لما سبق، فقد شهدت مصر حالة من الحَراك السّياسيّ في مواجهة قيود
نظام مبارك، وهو ما دفع النّظام إلى عقد ما سمّي بمؤتمر الحوار الوطنيّ في عام
1998. وفي عام 2000، أُجريت انتخابات مجلس الشّعب - لأوّل مرّة - تحت إشراف قضائيّ
جزئيّ، ممّا أسفر عن تراجعٍ مذهل للحزب الوطنيّ، وبدأ الحديث عن محاولات تطويره بطرح
ما سُمّي بـ"الفكر الجديد"، فكان الدّفع بجمال مبارك ورجاله إلى بهو
السّلطة، وهو مسعى رأى فيه البعض إعدادًا لمشروع التّوريث.
وفي ذات
الفترة، بدأت تظهر معالم أزمة النّظام بوضوحٍ على مستويات أخرى، كارتفاع معدّلات
البطالة والفقر، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتراجع دور الدّولة
الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وزيادة الشّعور بدور الدّولة في الفساد. لقد جاء كلّ ذلك
متزامنًا مع الضّغوط الخارجيّة على النّظام من أجل التّغيير السّياسيّ بعد أحداث
الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2011.
في العام 2004،
بدأت حركات التّغيير الجديدة في الظّهور، حيث تأسّست الحركة المصريّة للتّغيير،
تحت شعار "لا للتّمديد ... لا للتّوريث"؛ ثمّ تلت فترة دارت فيها معارك
انتخابات الرّئاسة والبرلمان في عام 2005، وما صاحب ذلك من تعديلاتٍ دستوريّة على
نظام الانتخابات الرّئاسيّة، وما رافقه من صعودٍ لقوى الإخوان المسلمين في
البرلمان المصريّ، وسعي النّظام المصريّ - بعد ذلك - للحدّ من الإشراف القضائيّ،
وتوجيهه ضربات سياسيّة وأمنيّة قويّة للإخوان وجماعات المعارضة المختلفة. في تلك
الظّروف والتقلّبات، نمتْ حركات التّغيير الجديدة بشكل غير مسبوق، ولعبت دورًا
مهمّا في تحريك المجتمع المصريّ.
ويورد الكتاب
أنّ تلك الحركات، وجدت جذورها في حركات حقوق الإنسان ومنظّماتها، التي بدأت في مصر
منذ نهاية الثّمانينيّات، والتي رسّخت فكرة "الحقوق السّياسيّة" بمعنى:
أنّ للمواطن حقوقا سياسيّة تعدّ جزءًا من حقوقه كإنسان. وارتبطت تلك الحركات كذلك
بالهيئات النّقابيّة التي عملت فيها تيّارات سياسيّة مختلفة لإعادة تفعيل دورها.
كما نهلت هذه الحركات من معين الحركات المدنيّة التي ظهرت لدعم قضايا عربيّة
وإسلاميّة كقضيّة الشّعب الفلسطينيّ ومعارضة غزو العراق. إنّها - إجمالًا - عوامل
تشير إلى تعدّد جذور التّغيير السّياسيّ في مصر.
وخلال ذات
الفترة التي شهدت تقديم مبادرات للإصلاح من قبل جماعات معارضة ومختلفة مثل: حزب
التّجمّع وجماعة الإخوان وحركة كفاية؛ تبلورت حركة استقلال القضاء، ونمت الصّحف
المستقلّة، ونشطت حركات التّدوين.
كفاية وأخواتها وأسباب نجاحها
في الفصل
الرّابع من الكتاب، يرصد المؤلّف عددًا من حركات التّغيير السّياسيّة الجديدة في
مصر، وعلى رأسها كفاية (أُسّست في أيلول/سبتمبر 2004)، وحركات أخرى ارتبطت نشأتها
بأسلوب حركة كفاية وناشطيها، مثل حركة أطبّاء من أجل التّغيير (حزيران/يونيو
2005)، وحركة صحفيّون من أجل التّغيير (حزيران/يونيو 2005). كما ظهرت - أيضًا -
الحملة الشّعبيّة من أجل التّغيير (نهاية 2004)، والتّجمّع الوطنيّ للتّحوّل
الدّيمقراطيّ (حزيران/يونيو 2005)، والجبهة الوطنيّة للتّغيير (تشرين
الأوّل/أكتوبر 2005)، وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات (تشرين الأوّل/أكتوبر 2003).
وظهرت كذلك حركات تغيير جديدة خارج مصر، مثل جبهة إنقاذ مصر (نيسان/أبريل 2005)،
وتحالف المصريّين الأميركيّين (أيار/مايو 2005).
ويتعرّض الكتاب
لسير تلك الحركات ومؤسّسيها وخطابها وإنجازاتها وإخفاقاتها. وما يعنينا من عرض
الكاتب هنا أمران، أوّلهما إيضاحه أنّ لجذور التّغيير السّياسيّ الشّامل في مصر
آباءً كُثْرا، عملوا خلال فترةٍ طويلة من الزّمن دفاعًا عن أهدافهم، وفي هذا دعوة
لجميع القوى السّياسيّة في مصر إلى التّواضع بعد الثّورة، وتقدير إنجازات من
سبقوها. أمّا الأمر الثّاني، فهو التّعلّم من خبرات تلك الجماعات وأهمّ ما واجهته
من تحدّيات مازالت تمثّل عقبة أمام الثّورة المصريّة. وهنا تجب الإشارة إلى ما يلي:
حركات التّغيير
نجحت - وكما جاء في الكتاب - لكونها ضمّت ما تبقّى من قوى حيّة داخل جماعات
المعارضة التّقليديّة، وتوجّهت - مباشرة - إلى الشّارع غير مبالية بموافقة أو
تصاريح قانونيّة. كما ضمّت خليطا من الأجيال، يتقدّمه جيل السّبعينيّات الذي
تكوّن وعيه السّياسيّ خلال السّتينيّات من القرن الماضي، وعاش مرارة هزيمة 1967
والتّحوّلات الضّخمة التي مرّت بها مصر في عهد السّبعينيّات.
كما أنّها فتحت
عضويّتها واسعةً أمام الجميع بلا قيود بيروقراطيّة في معظم الأحيان، وضمّت فئاتٍ
كبيرة من الشّباب والفقراء والعمّال فيما بعد، مضافًا إليهم أبناء الطّبقة الوسطى
الجديدة التي تربّت بعيدًا عن القطاع العامّ ومؤسّسات الدّولة؛ كما وظّفت
التّكنولوجيا الحديثة لصالحها، مُتخطّيةً بها قيود الإعلام الحكوميّ.
وقد استطاعت
تلك الحركات تحقيق إنجازات كبيرة، مثل: تحريك المياه الرّاكدة في السّياسة
المصريّة، وكسر حالة الجمود السّياسيّ، وإشاعة ثقافة الاعتراض السّياسيّ لدى
المصريّين، ودفع فئات جديدة للمشاركة السّياسيّة، والضّغط على جماعات المعارضة
التّقليديّة للتّطوير.
معوقات التّغيير السّياسيّ الشّامل
على الرّغم من
النّجاحات السّابقة الذّكر، عجزت تلك الحركات عمّا يلي:
أوّلًا: نجحت
حركات المعارضة في بناء تحالفات واسعة ورخوة بين عدد كبير من الفاعلين المنتمين
إلى طيف أيديولوجيّ واسع، ولكنّها فشلت في "بناء تكتّل قويّ للمعارضة"
وظلّت تحالفات رخوة.
ثانيًا: ظلّت
قاعدتها الجماهيريّة محدودة ولم تستطع تحريك قطاعات واسعة من الجماهير وإشراكها في
مظاهراتها وحركتها.
ثالثًا: ضعف
التّنظيم المؤسّسيّ الدّاخليّ لتلك الحركات.
رابعًا: افتقرت
تلك الحركات لمشروع سياسيّ متكامل لخلافة النّظم القائمة.
خامسًا: لم
تهتمّ تلك الحركات بإقامة تحالفات إقليميّة ودوليّة واكتفت بالتّعاطف المتبادل مع
بعض الجماعات، وهذا يشير إلى ضعف قدرة حركات التّغيير السّياسيّة الجديدة، على
العمل الدّوليّ وطبيعتها المحلّية إلى حدٍّ كبير.
يرفض مؤلّف
الكتاب إلقاء كلّ اللّوم على حركات التّغيير السّياسيّة الجديدة في المشكلات
السّابقة، إذ يرى أنّها تعود في أجزاء منها إلى مشكلات خارجة عن تلك الحركات، مثل
الضّغط الحكوميّ الكبير الذي تعرّضت له، والصّراع الدّاخليّ القديم بين التيّارات
السّياسيّة المعارضة في عالمنا العربيّ لأسباب مختلفة، كالانقسام
الدّينيّ/العلمانيّ، وحالة التكلّس السّياسيّ التي تعاني منها الشّعوب العربيّة،
وتراجع الضّغوطات الدوليّة منذ عام 2006، ومشكلة ضعف التّمويل الذي تعاني منه تلك
الحركات.
ولعلّ المشكلات
السّابقة وأسبابها، تفسّر كثيرا من التحدّيات التي تواجه مصر بعد الثّورة، وعلى
رأسها صعوبة تحقيق التّوافق السّياسيّ بين التيّارات السّياسيّة المختلفة،
والانقسام الدّينيّ/العلمانيّ، وغياب القاعدة الجماهيريّة الواسعة للعمل السّياسيّ
الثّوريّ - رغم ما حقّقه من إنجازات وانتشار في الفترة الأخيرة - والضّعف
التّنظيميّ لجماعات المعارضة السّياسيّة، وضعف خطابها السّياسيّ والنّظريّ
والدّوليّ، وعدم تقديمها مشاريع متكاملة للإصلاح السّياسيّ.
وهذا يعني أنّ
الكتاب الذي بين أيدينا يقدّم صورةً جيّدة ومفيدة للغاية لمصر قبل الثّورة، ويساعد
المطّلعين على فهم إرهاصاتها الأوّليّة وتَبَيُّنِ جذورها؛ ويُمكِّن الكتاب قارئيه
كذلك من رؤية بعض المعوقات المزمنة لحركات التّغيير السّياسيّ في مصر
وعالمنا العربيّ رؤيةً واضحة؛ ولعلّ فهم التحدّيات السّابقة والوعي بها، هما خطوة
البداية في سبيل تجاوزها.