قراءة في طبيعة دولة العسكر في مصر وكيف يفكرون
ستيفن كوك الباحث بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي نشر في عام 2007 كتابا
بعنوان "يسيطرون ولا يحكمون: الجيش والتطور السياسي في مصر والجزائر
وتركيا" يحاول فيه الوقوف على طبيعة الدور السياسي للجيوش في البلدان الثلاثة
السابقة وكيفية التعامل معه إذا كنا راغبين في إجراء تحول ديمقراطي حقيقي في
البلدان الثلاثة والبلاد المشابهة لها.
قراءة الكتاب وخاصة الجزء المتعلق بمصر لا تخلو من فائدة في الظروف الراهنة،
لذا رأينا عرض بعض أهم ما ورد فيه من أفكار في المقال التالي.
القيادة من الصفوف الخلفية
كوك يقول أن هزيمة 1967 وردة فعل الشعب المصري الغاضبة تجاهها وشعوره بأن
الجيش عجز عن القيام بمهمته الرئيسية في حماية البلاد وتلقى هزيمة قاسية بلا مبرر
دفعوا الجيش إلى التخلي عن كثير من مزاياه السياسية التي تمتع بها منذ ثورة 1952
والتي دفعت بضباط الجيش إلى مقدمة الصفوف السياسية ووضعتهم على رأس مؤسسات السياسة المصرية
بشكل مباشر.
هزيمة 67 أقنعت الجيش - تحت ضغط - بأن عليه أن يمارس سلطاته السياسية
الواسعة ويحافظ على مكتسباته من خلال أسلوب مختلف يتخلى فيه عن الإدارة اليومية
لشئون البلاد ويحتفظ من خلاله بمسافة واسعة تفصله عن مؤسسات الحكم بما يحقق له
هدفان:
أولهما لوم صف أخر من المسئولين السياسيين مثل رئيس الوزراء والوزراء
والبيروقراطية على أي مشاكل تتعرض لها البلاد.
وثانيهما استخدام واجهة من المؤسسات السياسية والإجراءات الديمقراطية لإكساب نظامه
الشرعية.
ويقول المؤلف أن المسئولين والمتابعين الأجانب المعنيين بالنظام السياسي
المصري عادة ما ينشغلون بمتابعة الانتخابات والقوانين والدساتير ومواقف البرلمان
في مصر، ولكن في الحقيقة هذه المظاهر ليست إلا شكليات تخفي ورائها مؤسسات وتقاليد
غير رسمية يسيطر من خلالها الجيش المصري على مقاليد الحكم.
ويوضح المؤلف أن انسحاب كبار ضباط الجيش المصري من صدارة المشهد السياسي
بعد هزيمة 67 دفعهم - ولكي يضمنوا سيطرتهم - إلى التركيز على مؤسسة الرئاسة وهي
المؤسسة السياسية الأهم في البلاد وذات الصلاحيات الهائلة وضمان تبعيتها لهم.
فالرئيس ينحدر منذ ثورة يوليو من المؤسسة العسكرية، وهو أيضا حريص على كسب ود تلك
المؤسسة، وهنا يشير المؤلف إلى حرص السادات ومبارك على كسب ود المؤسسة العسكري
وقادتها وضباطها بشكل مستمر.
ومن خلال مؤسسة الرئاسة يسيطر الجيش على النظام السياسي، وذلك لأن المؤسسات
الديمقراطية المختلفة الموجودة في مصر ليست سوى شكليات، أو مظهر ديمقراطي، فالجيش
يسيطر على الرئاسة والرئاسة تسيطر على الحزب الحاكم، والحزب الحاكم يسيطر على
البرلمان والذي يسيطر على أحزاب المعارضة، والقوانين وقواعد اللعبة السياسية.
صفقات ضمنية
وهذا لم يمنع الجيش من خلال مؤسسة الرئاسة في الدخول في صفقات ضمنية مع بعض
الشركاء ولو في المعارضة، وركز الكتاب على الشريك الضمني الأهم للمؤسسة العسكرية
المصرية خلال حكم مبارك، وهو جماعة الأخوان المسلمين، إذ يرى المؤلف أن مبارك وقادة
الجيش سمحوا للإخوان بالعمل السياسي ضمن اتفاق ضمني يسمح لهم بالانتشار الديني
والمجتمعي والصعود السياسي المحدود ولا يسمح لهم بالسيطرة السياسية.
فالجيش ومبارك احتاجوا الإخوان لأكثر من سبب مثل مواجهة الجماعات الدينية
العنيفة التي سعت لمواجهة الدولة ولإضفاء الشرعية على نظامه السياسي، فالنظام
المصري – كما يرى الكتاب – نظام سلطوي مرن ومستقر، فهو يحافظ على استمراره
واستقراره من خلال إيجاد مساحة من المعارضة المحدودة والتي تعمل داخل مساحة وأطر معينة
يسهل احتوائها.
وهنا يقول المؤلف أن مشكلة مبارك والجيش هي أن الإخوان لم يستسلموا لتلك
الاتفاقية الضمنية وحاولوا دائما تحدي النظام وقواعده واستخدام مؤسساته
الديمقراطية الشكلية لتحديه وفضح شكلية تلك المؤسسات وغياب الديمقراطية الحقيقية.
ويقول كوك أن النظام وقادة الجيش حرصوا دائما على منع الإخوان من الوصول إلى
السلطة من خلال استخدام المؤسسة الأمنية وقوانين الطوارئ والمحاكم غير المدنية ونشروا
عنهم في الخارج صورة الجماعة العنيفة المتشددة والمسلحة والمعادية للديمقراطية مع
إن الإخوان تركوا العنف منذ عقود وعلى الرغم من السماح للإخوان بالعمل في الداخل
بدرجة من الحرية.
وبهذا سمح النظام للإخوان بالعمل في الداخل ضمن حدود معينه وحرص على قمعهم
في الداخل والخارج لو تخطوها.
امتيازات الجيش
ويقول الكتاب أن الجيش من خلال الآليات السابقة حرص على الحفاظ على عدد من الامتيازات
الهامة التالية:
أولا: الجيش حرص على احتكار قمة الهرم السياسي والمؤسسة السياسية الأهم في
البلاد، فالرئيس ينتمي للجيش، وهو واسع الصلاحيات بشكل هائل، والرؤساء العسكريون
حرصوا على توريث عسكريين مثلهم، كما فعل ناصر والسادات.
وهنا يشير المؤلف في كتابه الصادر في 2007 إلى صعود نجم جمال مبارك،
واحتماليه توريثه الحكم، ويقول أن ذلك لو حدث سوف يعد تحولا كبير على صعيد تولي
المدنيين الرئاسة في مصر، دون أن يكون ذلك تحولا نحو الديمقراطية بالطبع، ولكنه
حذر من أن الجيش قد يقابل هذا الأمر بالتحرك نحو اكتساب مزيد من
"الاستقلالية" داخل النظام السياسي المصري.
ويقول المؤلف أن كون الرئيس عسكريا ضمن لقادة الجيش أن يمتلك الرئيس نفس
تعليمهم وخلفيتهم وثقافاتهم وأفكارهم، ويقول أن أيدلوجية الضباط دارت منذ عهد ناصر
حول بعض الأفكار الرئيسية مثل الديمقراطية والاستقلال والعدالة الاجتماعية
والوطنية المصرية والتنمية الاقتصادية والطبيعة المتدينة للشعب المصري، وهي أفكار
دارت حولها خطاباتهم وإصلاحاتهم السياسية الشكلية في كثير من الأحيان.
ثانيا: على المستوى السياسي تمتع قادة الجيش بدرجة عالية من الحصانة وعدم
قدرة المؤسسات السياسية الكبرى - وعلى رأسها البرلمان – على الوصول إليهم
ومحاسبتهم، فالممارسة والثقافة السياسية المصرية أعطت وزير الدفاع وقادة الجيش
حصانة كبيرة، فوزير الدفاع لا يناقش من أعضاء البرلمان ولا يظهر أمامهم إلا ظهورا
مختصرا ولا يقام بينه وبينهم حوار، وبالطبع تتمتع ميزانية الجيش الضخمة والتمويل
والدعم الذي تحصل عليه شركات الجيش - والتي تحمل ميزانية الدولة المصرية أعباء
كثيرة - بالسرية.
ثالثا: يقول الكتاب أيضا أن الجيش المصري تميز عن نظرائه بمشاركة مباشرة في
النشاط الاقتصادي من خلال ترسانة من الشركات التي يملكها الجيش ويدريها مباشرة
والتي تعمل في عدد كبير للغاية من المجالات التي لا ترتبط بأي نشاط عسكري، هذا
إضافة إلى نشاط ضباط الجيش الاقتصادي بعد التقاعد، وهنا يقول الكتاب أن السادات
سعى للانفتاح الاقتصادي ولكن قادة الجيش استفادوا من التغييرات الاقتصادية وعملوا كمستشارين
ووسطاء للشركات الأجنبية.
رابعا: يتمتع الجيش بمكانة ثقافية كبيرة فأيدلوجيته هي السائدة ورأس الدولة
من خلفيتهم وثقافتهم ويعمل على نشر أفكارهم.
سبل المواجهة
ويحذر الكتاب أن مواجهة سيطرة الجيش على الحكم في مصر من الصفوف الخلفية لن
تتحقق من خلال تحرير الاقتصاد أو تقوية المجتمع المدني كما يعتقد البعض في الدخل
والخارج لأكثر من سبب.
فالنخبة السياسية العسكرية الحاكمة في مصر تستخدم تلك التغييرات كشكل أو كمظهر خارجي
يضفى الشرعية على نظامها السياسي السلطوي من ناحية، ولأن تلك التغييرات لا تمس
سيطرة تلك النخبة الحقيقية من ناحية أخرى، ولأن النخب قادرة دائما على السيطرة على
مؤسسات النظام الجديدة.
فالنظام قادر على تحرير الاقتصاد من سيطرة الحكومة المركزية وإبقاء الاقتصاد تحت
سيطرته من خلال التحكم في النخب المستفيدة من التحول الاقتصادي، كما أنه قادر على
تعديل الدستور من ناحية والتحكم من خلال المؤسسات المختلفة في النخب التي تنتجها
المؤسسات الجديدة.
لذا يرى المؤلف أن الحل الوحيد يتلخص في نقطتين:
أولهما إدخال إصلاحات سياسية حقيقية تضمن للناس حرية التنظيم والتعبير وبناء
الأحزاب، وتضمن للبرلمان سلطة الرقابة، وتزيل قوانين الطوارئ والمحاكم الأمنية، وتعطي
للمواطنين سلطة محاسبة قادتهم السياسيين.
وثانيهما الضغط الداخلي والخارجي وربما تقديم بعض الحوافز الخارجية لتغيير قواعد
اللعبة السياسية الرسمية وغير الرسمية بشكل كامل، وعلى رأس التغييرات المطلوبة ما
يلي:
أولا: إخضاع الجيش لقيادة وزير دفاع مدني.
ثانيا: إخضاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لسلطة المؤسسات القضائية
المدنية العليا.
ثالثا: تغيير قوانين الخدمة الداخلية بالقوات المسلحة لإلغاء المواد التي
تبرر تدخلهم في السياسة.
رابعا: تغيير مناهج التعليم بالمؤسسات العسكري للتأكيد على سلطة المدنيين وضرورة
الخضوع لهيمنتهم على صناعة القرار السياسي.
تطبيقات على المشهد الراهن
ولعل الأفكار السابقة - لو استخدمناها كفرضيات قابلة للصحة – قد تساعدنا
على قراءة المشهد السياسي الراهن في مصر على النحو التالي:
أولا: الدراسة قد تفسر أسلوب حكم المجلس العسكري لمصر حاليا، فالمجلس يحكم
ويظهر وكأنه يتظاهر بأنه لا يحكم، بمعني أخر المجلس يحاول الظهور بمظهر المترفع
على السلطة، فهو يمتلك السلطات والصلاحيات ويقود العملية السياسية منذ 11 فبراير
2001، ولكنه دائم التظاهر بمظهر المترفع عن العملية السياسية والمؤسسة التي ترعى
مصلحة البلاد دون التقيد بأي مصالح خاصة أو ذاتية.
ولعل ذلك يعود كما تقول الدراسة إلى أن الجيش في مصر تعود على القيادة من
بعيد، وعلى النأي بنفسه عن الإدارة اليومية للحياة السياسية المصرية، وتفضيل إلقاء
اللوم على الوزراء والبيروقراطية في الأخطاء المختلفة.
بمعنى أخر الجيش مازال يمارس هوياته في السيطرة دون تحمل مسئولية الحكم، وهو يريد
أن يحكم وأن يقنعنا بأنه لا يحكم في نفس الوقت.
ثانيا: توضح الدراسة لماذا يظل المجلس العسكري بعيدا عن المحاسبة السياسية في
الوقت الراهن، فالمجلس يمثل مؤسسة الرئاسة المصرية بتقاليدها السياسية والثقافية
التي تحول دون محاسبة الرئيس، كما أن قادة الجيش المصري تعودوا على آلا يحاسبهم
المدنيون.
ثالثا: لن يتنازل الجيش عن مؤسسة الرئاسة بسهولة فهي المؤسسة الضامنة له ولصلاحياته
وسوف يسعى لضمان قدر كبير من الاستقلالية في حالة تخليه عنها.
ولعل الدراسة تفسر لماذا فوض مبارك صلاحياته لعمرو سليمان أولا ثم للمجلس
العسكري بعد ذلك، فمبارك كان ظل وفيا لتقليد توريث السلطة للعسكريين، وربما أضطر
لذلك بعد أن أجهضت الثورة مخطط توريث جمال، ويبدو من الدراسة أن المجلس العسكري
أميل لتسليم السلطة لأحد العسكريين السابقين.
رابعا: سوف يسعى المجلس لعقد صفقات سياسية تضمن له الحافظ على استقلاليته،
ويلاحظ هنا أن الاستقلالية السياسية التي يريدها الجيش – وفقا للمقال الراهن – تضر
بمسار العملية الديمقراطية، وقد تمكن الجيش فيما بعد من الانقلاب على القوى
السياسية المختلفة وعلى قواعد العملية السياسية ذاتها فيما بعد، فالأصل ليس في عقد
انتخابات واختيار برلمان وانتخاب رئيس من خارج الجيش، والأهم هو أن تمارس المؤسسات
السابقة صلاحيات حقيقية، فالتمكين والممارسة هما الأصل وليس المؤسسات الشكلية.
خامسا: حجم نفوذ الجيش المصري غير معروف وكبير، وسوف يستغرق الكشف عنه
فترة، وجزء من السيطرة والنفوذ الخاصة بالجيش في مصر ثقافي وضمني وغير مكتوب، فالجيش
ليس مؤسسة عسكرية وسياسية واقتصادية فحسب، فجزء من سيطرته السياسية أيدلوجي
وثقافي، وهناك حاجة لبناء ثقافة سياسية جديدة
تركز على الدور الاحترافي للجيش وتبعده عن السياسية التي لا يجيدها وتدفعه للتركيز
على عمله وبناء قدراته كمؤسسة عسكرية معنية بحماية البلاد والسماح لمصر ببناء
ديمقراطية حقيقية لا شكلية تتحكم فيها النخبة العسكرية من بعيد.
سادسا: الثورة المصرية حققت إصلاحات ومكاسب حقيقية حتى الآن وعلى رأسها حل
الحزب الحاكم وانتخاب مجلس شعب جديد وبناء حراك شعبي قوي، ولكن تبقى أمام الثورة
تحديات حقيقية وعلى رأسها معركة الرئاسة، ومواجهة النخبة السياسية والعسكرية الاقتصادية
والثقافة السياسية التابعة للنظام القديم وهي معارك صعبة في مواجهة نخب تعودت على
التلون والقيادة من بعيد والسماح بمؤسسات شكلية تفرغ تدريجيا من معانيها، وهذا
يتطلب بدون شك دراجة عالية من الحراك والوعي الشعبي ووحدة القوى السياسية، والله
أعلم.
----
للإطلاع على صورة غلاف الكتاب، يرجى زيارة الوصلة التالية: