Wednesday, February 08, 2006

ليو ستراوس وسياسات الإمبراطورية الأمريكية
عرض بقلم: علاء بيومي

الناشر: صحيفة الرياض، 8 فبراير 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص العرض

كتاب "ليو ستراوس وسياسات الإمبراطورية الأمريكية" لأستاذة العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا الأمريكية آن نورتون والصادر عن مطابع جامعة يال الأمريكية في أواخر عام 2004 هو محاولة لتحليل الأفكار الفلسفية التي تربط المحافظين الجدد بشكل عام والتي تربط عدد من أكبر قادتهم الفكريين والسياسيين بشكل خاص

ويضم الكتاب في فصله الأول قائمة بعدد كبير من أسماء هؤلاء القادة وعلى رأسهم هارفي مانسفيلد أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفرد الأمريكية وأحد أشهر المفكرين المعاصرين المتخصصين في فكر الفيلسوف الإيطالي ميكيافيللي، وتلميذه فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة "نهاية التاريخ"، وجوزيف كروسبي الأستاذ بجامعة شيكاغو، وإلبرت هولستر زميل ستراوس وأستاذ العلوم العسكرية والاستراتيجية الراحل بمؤسسة راند للأبحاث

هذا إضافة إلى عدد كبير من قادة المحافظين الجدد الأكثر انخراطا في الحياة السياسية وعلى رأسهم ويليام كريستول محرر مجلة ذا ويكلي ستاندارد والمدير السابق لمكتب نائب الرئيس جورج دبليو بوش الأب دان كويل، وجاري شميت والذي ترأس المجلس الاستشاري للمخابرات الأجنبية في عهد الرئيس ريجان، وإبراهام شيلسكي والذي شغل عدة مناصب متعلقة بالأمن القومي في إدارات مختلفة، وبالطبع بول ولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي في ولاية جورج دبليو بوش الأولى والرئيس الحالي للبنك الدولي، وريتشارد بيرل العضو السابق بمجلس سياسات الدفاع التابع للبنتاجون في ولاية جورج دبليو بوش الأولى

أما الخيط الفكري الذي يربط هؤلاء المفكرين والسياسيين جميعا هو تأثرهم بأفكار ليو ستراوس أستاذ الفلسفة السياسية الراحل بجامعة شيكاغو الأمريكية

ليو سترواس

ولد ليو ستراوس في ألمانيا في عام 1899 وهرب من ألمانيا إلى بريطانيا ومنها إلى أمريكا هروبا من النازية والتي تركت تأثيرا لا يمحى في فكر ستراوس والذي رأي في أمريكا البلد المنقذ للعالم

استقر ستراوس في جامعة شيكاغو وعمل بتدريس مادة الفلسفة السياسية بها، وعارض ستراوس التوجهات الأكاديمية الأمريكية التي نادت بموت الفلسفة وبصعود العلوم السياسية السلوكية القائمة على التجربة والملاحظة العلمية المباشرة، في المقابل رأي ستراوس أن العلوم السياسية التجريبية لن تتمكن من الإجابة على الأسئلة الكبرى التي يمكن للفلسفة وحدها الإجابة عليها

لذا شجع ستراوس طلابه على قراءة الأعمال الفلسفية الكبرى كما ساعدهم على التفكير التحليلي في نصوص الفلاسفة الكبار ومحاولة فهم الجوانب الفكرية الخفية في النصوص والكتابات الكبرى، فقد اهتم ستراوس بقراءة كتابات المفكرين الكبار الذي عاشوا في عصور سيطر عليها قهر الحكام، حيث أمن ستراوس بأن هؤلاء المفكرين أخفوا علومهم ضمن نصوصهم وكتبوها بشكل ضمني خفي يضمن عدم اكتشاف الحكام المستبدين لها ونقلها إلى الأجيال التالية

كما كن ستراوس إعجابا كبير لفلاسفة اليونان وفلاسفة العرب وعلى رأسهم الفارابي وابن رشد، كما اهتم بالفيلسوف اليهودي ابن ميمون، بل أن ستراوس كان يتمنى لو عاش في عصر ابن ميمون وفي عصور ازدهار فلاسفة العرب، فستراوس – كما ترى آن نورتن – كان يؤمن بالتحليل العقلاني وكان ينظر لليهودية كدين يهيمن عليه المنطق، كما كان يؤمن بدور الفلسفة في البحث عن المدينة الفاضلة وهي مدينة يمكن فيها الجمع بين الفلسفة والسياسة، لذا احتفظ ستراوس بإعجاب كبير لتسامح الحضارة الإسلامية وخاصة في الأندلس

كما اهتم ستراوس اهتماما كبيرا بكتابات الفيلسوف كارل شميت الذي كان يؤمن باستقلال الظواهر الاجتماعية عن بعضها بعضا وبامتلاك كل ظاهرة معايير تقييم مستقلة، فقد أمن شميت بأن السياسية تختلف على الأخلاق عنها عن الدين أو الاقتصاد، وأن لكل ظاهرة أهدافها ومعاييرها، فالأخلاق معيارها فعل الخير والبعد عن الشر، والحياة الاقتصادية هدفها تحقيق المكسب والبعد عن الخسارة، أما الحياة السياسية فهدفها كسب الأصدقاء وهزيمة الأعداء

في الوقت ذاته أمن ستراوس بتأثير السياسية وتأثرها على وبمختلف الظواهر، فعندما قامت ثورة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة خلال ستينات القرن العشرين أمن ستراوس بأن للسياسة دور يجب أن تلعبه ولم يؤمن بأن السياسية والدولة منعزلتان عما يحدث في المجتمع كما أعتقد بعض المفكرين الآخرين مثل حنا ارندت زميلة ستراوس ومنافسته في جامعة شيكاغو

عموما أمن ستراوس بوجود دور كبير للسياسة في علاج مشاكل المجتمع وللمفكرين والفلاسفة في توجيه السياسة

أتباع ستراوس

تشير آن نورتن إلى طلاب وأتباع ستراوس على أنهم مجموعة من الطلبة شديدي الذكاء الذين سعوا للجمع بين السياسة والعلم وتربوا في ظروف أكاديمية ومرحلة تاريخية – منتصف الستينات من القرن العشرين - صعبة جعلت منهم مفكرين معقدين إذا صح التعبير

إذا تشير نورتن إلى أن تلامذة وأتباع ستراوس تربوا في بيئة أكاديمية صارمة تؤكد على قيمة العلم والفكر والفلسفة وتحتفي بكتابات المفكرين الكبار وترفض قراءة المفكرين الصغار أو الكتابات السطحية، كما أنها بيئة تقدر العلماء وتصنع مريدين كل همهم إرضاء وإتباع أساتذتهم

وتقول نورتن أن إتباع ستراوس تواجدوا في جامعات بعينها على رأسها جامعتي شيكاغو وهارفرد بأمريكا وجامعة تورنتو بكندا

وترى نورتن أن أتباع ستراوس شعروا باستمرار باضطهاد الأكاديمية الأمريكية لهم بسبب حبهم للفلسفة، كما سعوا هم أنفسهم لاضطهاد الأساتذة المعارضين لهم، كما عانوا باستمرار من عقدة نقص نابعة من خلفياتهم الفقيرة البسيطة التي لا تتناسب مع قدراتهم العقلية العالية

إذا تشير نورتن إلى أن طلاب ستراوس – وعدد كبير منهم من اليهود الفقراء والمتوسطين اقتصاديا – نشئوا في فترة الستينات من القرن العشرين وهي فترة شهدت حراكا سياسيا واجتماعيا كبيرا، وبسبب ذكائهم الكبير استطاعوا النجاح في أكبر الجامعات الأمريكية كجامعة شيكاغو، لذا انشغلوا باستمرار بمحاولة الذوبان في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا بالمجتمع الأمريكي بشكل جعلهم في بعض الأحيان – كما ترى المؤلفة – يتناسون معاناة الفئات والأقليات الأقل حظا كالأفارقة الأمريكيين

أكثر من ذلك توجه آن نورتن اتهامات ضمنية لبعض أتباع ستراوس بالانتهازية وبالتضحية بالعلم من أجل المال وخاصة عند حديثها عن زالماي خليلزاد، إذا تقول نورتن أنها عرفت خليلزاد في شبابه عندما كان طالب دراسات عليا أفغاني طموح مهتم بالعلم، وتقول نورتن أنه خليلزاد كان راديكاليا في شبابه مدافعا عن قضية فلسطين يعلق في غرفته صورة كبيرة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ولكن نورتن تقول أن حياة خليل زاد تغيرت بعد أن تعرف على الأستاذ إلبرت هولستر وإتباعه، وبعد أن أبدى إعجابه بالثراء الكبير الذي يعيش فيه هولستر مقارنة بأستاذة الجامعات الآخرين، فهولستر – أستاذ الاستراتيجية – كان معروفا بعلاقاته الواسعة وبنفوذه الكبير وبتنقله بين الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية وعلى رأسها راند، لذا عاش هولستر في مستوى اقتصادي مرتفع، وعندما التقى خليلزاد بهولستر وبطلبته لم تمر فترة كبيرة حتى انتقل خليلزاد للعمل في راند وتغيرت حياته بشكل كبير

أفكار أتباع ستراوس

تتنقل آن نورتن عبر الكتاب وبشكل مفاجئ أحيانا بين أفكار أتباع ستراوس والتي تختلف بدرجة كبيرة – كما ترى نورتن – عن أفكار ستراوس نفسه والذي كان مشغولا باستخدام العلم ونشره لمكافحة الاستبداد، أما أتباع ستراوس – كما تراهم نورتن – فقد تحولوا لأناس مشغولين باحتكار العلم واستخدامه لخدمة السلطة

لذا تركز نورتن عبر الكتاب على بعض الأفكار المركزية في فلسفة أتباع ستراوس، ومن أهم هذه الأفكار فكرة القوانين الطبيعية التي ربطت بشكل كبير بين أتباع ستراوس والتيار المحافظ في الولايات المتحدة، إذ يؤمن بعض أهم طلاب ومريدي ستراوس مثل آلان بلوم وليون كاس بوجود قوانين طبيعية تحرك الكون والمجتمع، وبأن الثقافة الأمريكية في منتصف القرن العشرين وفي الفترة السابقة لثورة الحقوق المدنية كانت أقرب تعبير عن هذه القوانين الطبيعية، وقد تميزت الثقافة الأمريكية في تلك الفترة بإهمال واضح لدور المرأة وبتركيز كبير على دور الرجل وعلى القيم الذكورية، كما ركزت أيضا بالتركيز على المؤسسات الاجتماعية التقليدية كالأسرة ودور الرجل المركزي ودور الأسرة في تعليم النشأ، وتقول آن نورتن أن إيمان أتباع ستراوس بنظرية الحقوق الطبيعية جعلهم يؤمنون بأنهم على صواب دائما وأنهم يعرفون ما هو صواب وسليم للمجتمع الأمريكي لذا ينبغي على بقية المجتمع إتباعهم

الفكرة الثانية هو إيمان أتباع ستراوس بالقائد القوي، وعدم تمسكهم بقواعد الديمقراطية، فأتباع ستراوس يؤمنون بالقائد القوي المستبد القادر على قيادة بلده نحو هدف كبير حتى ولو تم ذلك على حساب الدستور والديمقراطية، وهو يرون مثلهم الأعلى في قادة تاريخيين مثل تشرشل، كما لا يعارضون التعامل مع بعض القادة الديكتاتوريين في العالم ماداموا مساندين لأمريكا

الفكرة الثالثة هي إيمان أتباع ستراوس بدور العلم في خدمة السلطة، فهم يرون أنه ينبغي على الجامعات إنتاج متعلمين قادرين على الخدمة بمؤسسات الدولة، كما أنهم مستعدين لاستخدام العلم كأداة شرسة لتحقيق هدفهم حتى ولو أتى ذلك على حساب الحرية العلمية والأكاديمية، وهنا تشير آن نورتن إلى المشروع الذي أطلقه دانيال بايبس بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لمراقبة ما يقوم بتدريسه أساتذة الجامعات المساندين للقضية الفلسطينية وتشجيع طلابهم للإبلاغ عنهم، إذا ترى نورتن أن مشروع بايبس شيء ليس جديدا على أسلوب تفكير أتباع ستراوس، كما تشير نورتن على تعمد أتباع ستراوس عدم قراءة الكتابات التي لا تعجبهم والكتاب الذين لا يؤيدون أفكارهم مما يعد قمة الانغلاق الفكري والتحزب الايدولوجيا

فكرة رابعة هي مساندة أتباع ستراوس المتطرفة لإسرائيل، إذ ترى نورتن أن أتباع ستراوس يحاولون تسويق إسرائيل للرأي العام ولصناع القرار في أمريكا على أنها النموذج الأمثل لما يجب أن تكون عليه أمريكا، فإسرائيل كما يحاولون تقديمها بلد جمعت بين الديمقراطية والقوة، فإسرائيل لم تنشغل عن القوة بمبادئ الديمقراطية المثالية الزائفة، فهي بلد ذو إيديولوجية وهدف يسعى لتحقيقه بكفاح مستمر

وتنتقد نورتن أتباع ستراوس لتأليبهم الرأي العام الأمريكي ضد العرب وتصويرهم للمسلمين والعرب على أنهم أعداء لأمريكا وتشير لكتابات محافظين جديد مثل دايفيد فروم وريتشارد بيرل على أنها محاولة صريحة لتصوير المسلمين والعرب على أنهم عدو أمريكا الجديد

وهنا تذكر نورتن القارئ الأمريكي بالفروق الواضحة بين أمريكا وإسرائيل، فإسرائيل أنشئت كبلد لشعب واحد وديانة واحدة، أما أمريكا فهي بلد جديد بني لكي يكون وطنا لجميع الشعوب ولجميع الأديان

أخيرا تؤكد آن نورتن على أن أتباع ستراوس ليسوا أتباعا مخلصين لأستاذهم فقد حرفوا رسالته لتحقيق أهدافهم الخاصة

بقى لنا أن نشير إلى أن كتاب نورتن هو واحد من الكتب العديدة التي ظهرت في الفترة الأخيرة للحديث عن ظاهرة المحافظين الجدد التي باتت تشغل الرأي العام الأمريكي والدولي، ويعيب الكتاب عدم إفراده مساحة كافية للحديث عن أفكار ليو ستراوس نفسه مقارنة بالمساحة الكبيرة التي أفردها الكتاب للحديث عن أتباع ستراوس غير المخلصين

No comments: