طغيان البهجة على الثقافة الأمريكية
مقال بقلم: علاء بيومي
الناشر: تقرير واشنطن، 19 نوفمبر 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال
انتشار الشعور بالبهجة والمرح بالمجتمع الأمريكي أمر ملفت للنظر، فالزائر الأجنبي للولايات المتحدة يصعب عليه آلا يلاحظ ارتسام البسمة على وجوه قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي كموظفي المحالات التجارية، وبين أبناء الطبقة الوسطى الأمريكية الذين عادة ما يبادروك بابتسامة في الطرقات، أو في الإعلانات وغالبية برامج التلفزيون الأمريكي
الظاهرة السابقة تبدو محيرة ومثيرة تدفعك للتساؤل حول سهر بهجة الأمريكيين؟ وأسباب ذلك الشعور؟ وكيف اكتسب الأمريكيون ابتهاجهم عبر التاريخ
في هذا الصدد نشرت دورية جورنال أوف سوشيال هيستوري (جريدة التاريخ الاجتماعي) الصادرة عن جامعة جورج مايسون الأمريكية في عددها الصادر في خريف العام الحالي دراسة متميزة لأستاذة الإعلام والثقافة بجامعة نيويورك تدعى كريستينا كوتشيميدوفا، وهي بلغارية الأصل
الدراسة تبدأ بمقدمة نظرية شبه منطقية تؤكد على أن الثقافات تفرض على أبناءها الالتزام بعواطف وأفكار معينة وبأساليب تعبير معينة عن تلك العواطف والأفكار، وإن الخضوع لثقافة ما لفترة كافية وبكثافة مناسبة قد يغير من فكر وعواطف الفرد بشكل يجعله خاضعا لتلك الثقافة دون أن يدري
فلو عاش الإنسان في ثقافة يغلب عليها شعور التفاؤل على سبيل المثال فإنه لابد وأن يعتقد بمرور الوقت بأن التفاؤل هو الشعور المناسب للإنسان وأنه ينبغي عليه أن يشعر بالتفاؤل مادام سليما نفسيا وعقليا، لذا يحرص هذا الفرد على تدريب نفسه على إظهار التفاؤل والشعور به إلى درجة أن هذا الفرد قد يحرم على نفسه الشعور بالتشاؤم على الرغم بأن قدر من التشاؤم قد يكون أمرا طبيعيا
هذا ما حدث في الثقافة الأمريكية – كما ترى كريستينا كوتشيميدوفا – والتي تعتقد أن التطورات المختلفة التي مر بها المجتمع الأمريكي منذ القرن الثامن عشر جعلت من البهجة العاطفة الأكثر شيوعا وسيطرة على الثقافة الأمريكية لدرجة أعجزت الأمريكيين على التعامل مع مشاعر الإحباط التي قد تصيب بعضهم ولدرجة جعلت من البهجة أداة قد تستخدم للإضرار بحقوق بعض فئات المجتمع وتوظيفها كأدوات لإسعاد الآخرين تحت قيود ثقافة البهجة الطاغية
الجذور التاريخية
تقول المؤلفة أن الثقافة الأمريكية في بداياتها – خلال القرن الثامن عشر – سيطر عليها شعور بالحزن والشجن – مثلها في ذلك مثل الثقافة الأوربية في ذلك الوقت، وهنا ترى المؤلفة أن انتشار الشجن خلال تلك الفترة ارتبط بانتشار ثقافة تؤكد على العواطف القوية الجياشة وعلى رأسها الحزن والبكاء الذي كان ينظر إليه على أنه علامة على الحكمة لذا مارسه السياسيون والجماهير على حد سواء
في المقابل ساهمت التطورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي مرت بها أوربا والولايات المتحدة مع تقدم القرن الثامن عشر في صعود ثقافة جديدة فضلت البهجة على الحزن كفضيلة بالمجتمع
فعلى المستوى الفكري والفلسفي قادت الحداثة إلى الفردية باحتفالها بالإنسان وبقدراته وبدعوتها للإنسان للسيطرة على ظروفه وقهر أسباب ومشاعر الضعف والحزن لديه
على النحو نفسه دعا مفكرو عصر التنوير الإنسان بالاهتمام بذاته والاعتناء بها ماديا وروحانيا والإصرار على تحقيق السعادة بالحياة الدنيا
على المستوى الاجتماعي، تقول المؤلفة أن الطبقة الوسطى الأمريكية (البيضاء) شعرت بالرخاء الاقتصادي والفرص المتاحة أمامها، وطالبت أبناءها بالتحكم في مشاعرهم كطريق لتحقيق النجاح، كما طالبتهم بالبهجة والتفاؤل والإيجابية والاستبشار بالظروف الجديدة، حتى أصبحت البهجة معيارا للانتماء للطبقة الوسطى التي أصبحت تنظر إليها كفضيلة ضرورية للحفاظ على التماسك واستمرار التقدم الاجتماعي
لذا انتشرت في أوساط الطبقة الوسطى الأمريكي مشاعر رافضة لليأس وللحزن وللدموع ولمن يعجزون عن مساعدة أنفسهم
أمريكا تخطت أوربا في البهجة
تقول كريستينا كوتشيميدوفا أن الأوربيين – الذين زاروا أمريكا – في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر بدأوا يشعروا بأن أمريكا تقدمت على أوربا في ثقافة البهجة، وأنشغل بعضهم بمحاولة تفسير أسباب هذا التقدم، ومن بينها ما يلي
أولا: الأمريكان شعب حديث صاحب تاريخ قصير لا يمتلك الأشجان والأحزان والمآسي التاريخية التي تكتظ بها تواريخ وذاكرة الأمم الأكبر عمرا
ثانيا: الديمقراطية الأمريكية ومؤسساتها القوية والوفرة الاقتصادية أشعروا المواطن أمريكا بالاطمئنان والتفاؤل بخصوص المستقبل وبالراحة المادية وهي مشاعر ضرورية لمساندة الشعور بالبهجة
ثالثا: ثقافة الطبقة الأمريكية خلت من التأكيد المبالغ فيه على أساليب اللياقة التقليدية في المعاملة، إذ تميزت ثقافة الطبقة الأمريكية الوسطى (البيضاء) بقدر كبير من البساطة والمساواة والتخلي عن التعقيدات مما ساعد البهجة على الانتشار بأمريكا مقارنة ببعض المجتمعات الأوربية التي عرفت الطبقية والتقاليد الاجتماعية المحافظة
رابعا: تنتشر في المجتمع الأمريكي نوع من الفلسفة التي يمكن وصفها بالفلسفة الشعبية أو الجماهيرية وهي تركز بشكل عام من خلال سيل لا ينتهي من الكتابات على تسليح المواطن الأمريكي بالأفكار والأساليب الفكرية والحياتية المختلفة التي تساعده على الشعور بالبهجة بشكل مستمر، كالرياضة والتغذية السليمة والأفكار المساعدة
مخاطر البهجة على المجتمع الأمريكي
تحذر كريستينا كوتشيميدوفا في مقالتها من أن انتشار البهجة بالثقافة الأمريكية وسيطرتها كمعيار ثقافي وعلى رؤية المواطن الأمريكي لنفسه جعل منه أداة سلبية في بعض الأحيان
فعلى إحدى المستويات مثلت البهجة أداة استغلال للفئات الضعيفة كالنساء والطبقات الفقيرة كالعمال، إذا فرضت الثقافة على تلك الفئات إظهار البهجة حتى في الظروف القاسية ضد إرادتهم وضد مصالحهم حتى لا يتهموا بالفشل الثقافي أو بالفشل عن إظهار البهجة
ثانيا، البهجة بصفتها شعور غير قوي يعبر عن درجة متوسطة من السعادة ساهم في انتشار ثقافة أمريكية وقفت موقفا سلبيا من المشاعر القوية مثل الحب والخوف والغضب، إذ تسيطر على الثقافة الأمريكية المعاصرة فضيلة التحكم في المشاعر والذات، والتي تحتم على الأفراد التحكم في مشاعرهم وعدم الإفراط في التعبير عنها، والنظر بسخرية للمشاعر الجياشة كالحب على سبيل المثل
وللأسف أضرت هذه القيمة (التحكم في الذات) بمشاعر هامة وضرورية كالحب وجعلتها ينظر إليها كنوع من الضعف وعدم القدرة على التحكم في الذات الذي قد يؤدي للفشل، وقد ساعدت ثقافة البهجة في ذلك، لأن البهجة بصفتها شعورا ضعيفا غير جياشا ساعدت قيمة التحكم في الذات على الانتشار والسيطرة على ثقافة الأمريكيين
ثالثا، النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي احتفى بالبهجة كفضيلة وسعى لنشرها بالمجتمع واستغلاها لمصلحته مستخدما الإعلام كأداة، إذ استغلت الرأسمالية الأمريكية إيمان الأمريكيين بالبهجة في نشر ثقافة الاستهلاك على أساس أن استهلاك بضائع وخدمات الشركات الرأسمالية من شأنه أن يعزز بهجة المواطن الأمريكي
وهي فكرة نشرتها الشركات الرأسمالية الأمريكي من خلال سيل لا ينتهي من الإعلانات التجارية مستخدمة وسائل الإعلام الأمريكي ذات الانتشار الرهيب
أما الخطر الرابع لطغيان ثقافة البهجة فهو تحريم شعور الأفراد بمشاعر الضعف والإحباط، وهي مشاعر طبيعية قد يتعرض لها الفرد في فترات متقطعة عبر حياته
وللأسف يؤدي طغيان ثقافة البهجة على المجتمع الأمريكي إلى فشل الأمريكيين في التعامل مع الإحباط تعاملا طبيعيا يتناسب مع حقيقة كونه شعور طبيعي لا يجب تجريمه، لذا تكون النتيجة وقوع الأمريكي المحبط ضحية العقاقير الطبية المفرطة أو الممارسات غير السليمة صحيا كرد فعل لعجزه عن الاعتراف بشعور الإحباط في ظل رفض المجتمع بالاعتراف بهذا الشعور الطبيعي تحت وطأة سيطرة الشعور البهجة الطاغي
التأثيرات السياسية للبهجة
على المستوى السياسي تشير كتابات حديثة مثل كتاب "أمريكا مخطئة أو مصيبة: تشريح القومية الأمريكية" - الصادر في العام الماضي عن مطابع جامعة أكسفورد الأمريكية للكاتب البريطاني أناتول ليفين - إلى أن التفاؤل هو خاصية هامة من خصائص القومية الأمريكية حيث يقترن معها شعور المواطن الأمريكي بالرضا عن الذات وعن أمريكا كوطن ودولة وإيمان المواطن الأمريكي بصدق النوايا الأمريكي في غالبية الظروف
ويرى المؤلف أن هذه المشاعر قد تؤدي إلى وقوع الشعب الأمريكي فريسة سهلة الاستغلال من قبل بعض الإدارات الأمريكية التي قد تقود مشاريع سياسية مغامرة على المستويين الداخلي والخارجي تضر بمصالح المواطن الأمريكي الذي يبدو حريصا على التفاؤل وعدم التفكير السلبي
على الصعيد نفسه يشير أندرو باسفيتش مؤلف كتاب "النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة" الصادر في عام 2005 عن مطابع جامعة أكسفورد الأمريكية في الفصل الرابع من كتابه إلى أن البهجة والتفاؤل والثقة في الذات والرضا عنها هي مشاعر هامة يحرص الرؤساء الأمريكيين على تأكيدها في خطاباتهم عند الحديث للمجتمع الأمريكي
حيث يرى باسفيتش أن الشعب الأمريكي بطبيعته يميل للرضا عن الذات والتفكير المتفاءل عن المستقبل، لذا يرى باسفيتش أن بهجة وتفاؤل الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان ساعدته في الفوز على الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر والذي مال للتشاؤم والنقد مدفوعا باهتماماته الأخلاقية والفلسفية
ويعتقد باسفيتش أن تفاؤل ريجان أكسبه محبة الجماهير خاصة وأن ريجان سعى لأن يعيد للأمريكيين ثقتهم في أنفسهم التي افتقدوها بعد حرب فيتنام ومشاكل عقدي الستينات والسبعينات، ويقول باسفيتش أن الثقة التي بثها ريجان في الشعب الأمريكي كانت ضرورية لكي تتمكن أمريكا من خوض حروب جديدة كحرب العراق
أخيرا يمكننا أن نشير إلى أن الخلاف الحالي بين الديمقراطيين والجمهوريين حول حرب العراق يمكن النظر إليه كصراع بين البهجة والتشاؤم، فالديمقراطيين يسعون لكي يبرهنوا للشعب الأمريكي أن الإدارة الأمريكي فشلت في العراق، دون أن يبالغوا في نقدهم أو نبرتهم السلبية حتى لا يتهمهم الشعب الأمريكي بالتشاؤم
في الوقت نفسه تحرص الإدارة الأمريكية على إشاعة شعور بالتفاؤل حول مستقبل العراق في أوساط الرأي العام الأمريكي، وهو شعور يصعب نشره في ظل الأخبار السلبية على أرض الواقع
بقى لنا أن نشير إلى أن البهجة والتفاؤل سمات إيجابية راسخة بالثقافة الأمريكية وضرورية للحوار معه، فهي تفرض على أي طرف معني بالحوار مع الشعب الأمريكي أن يحرص على البهجة والتفاؤل لأن الشعب الأمريكي قليل الصبر على المشاعر السلبية
الناشر: تقرير واشنطن، 19 نوفمبر 2005، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص المقال
انتشار الشعور بالبهجة والمرح بالمجتمع الأمريكي أمر ملفت للنظر، فالزائر الأجنبي للولايات المتحدة يصعب عليه آلا يلاحظ ارتسام البسمة على وجوه قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي كموظفي المحالات التجارية، وبين أبناء الطبقة الوسطى الأمريكية الذين عادة ما يبادروك بابتسامة في الطرقات، أو في الإعلانات وغالبية برامج التلفزيون الأمريكي
الظاهرة السابقة تبدو محيرة ومثيرة تدفعك للتساؤل حول سهر بهجة الأمريكيين؟ وأسباب ذلك الشعور؟ وكيف اكتسب الأمريكيون ابتهاجهم عبر التاريخ
في هذا الصدد نشرت دورية جورنال أوف سوشيال هيستوري (جريدة التاريخ الاجتماعي) الصادرة عن جامعة جورج مايسون الأمريكية في عددها الصادر في خريف العام الحالي دراسة متميزة لأستاذة الإعلام والثقافة بجامعة نيويورك تدعى كريستينا كوتشيميدوفا، وهي بلغارية الأصل
الدراسة تبدأ بمقدمة نظرية شبه منطقية تؤكد على أن الثقافات تفرض على أبناءها الالتزام بعواطف وأفكار معينة وبأساليب تعبير معينة عن تلك العواطف والأفكار، وإن الخضوع لثقافة ما لفترة كافية وبكثافة مناسبة قد يغير من فكر وعواطف الفرد بشكل يجعله خاضعا لتلك الثقافة دون أن يدري
فلو عاش الإنسان في ثقافة يغلب عليها شعور التفاؤل على سبيل المثال فإنه لابد وأن يعتقد بمرور الوقت بأن التفاؤل هو الشعور المناسب للإنسان وأنه ينبغي عليه أن يشعر بالتفاؤل مادام سليما نفسيا وعقليا، لذا يحرص هذا الفرد على تدريب نفسه على إظهار التفاؤل والشعور به إلى درجة أن هذا الفرد قد يحرم على نفسه الشعور بالتشاؤم على الرغم بأن قدر من التشاؤم قد يكون أمرا طبيعيا
هذا ما حدث في الثقافة الأمريكية – كما ترى كريستينا كوتشيميدوفا – والتي تعتقد أن التطورات المختلفة التي مر بها المجتمع الأمريكي منذ القرن الثامن عشر جعلت من البهجة العاطفة الأكثر شيوعا وسيطرة على الثقافة الأمريكية لدرجة أعجزت الأمريكيين على التعامل مع مشاعر الإحباط التي قد تصيب بعضهم ولدرجة جعلت من البهجة أداة قد تستخدم للإضرار بحقوق بعض فئات المجتمع وتوظيفها كأدوات لإسعاد الآخرين تحت قيود ثقافة البهجة الطاغية
الجذور التاريخية
تقول المؤلفة أن الثقافة الأمريكية في بداياتها – خلال القرن الثامن عشر – سيطر عليها شعور بالحزن والشجن – مثلها في ذلك مثل الثقافة الأوربية في ذلك الوقت، وهنا ترى المؤلفة أن انتشار الشجن خلال تلك الفترة ارتبط بانتشار ثقافة تؤكد على العواطف القوية الجياشة وعلى رأسها الحزن والبكاء الذي كان ينظر إليه على أنه علامة على الحكمة لذا مارسه السياسيون والجماهير على حد سواء
في المقابل ساهمت التطورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي مرت بها أوربا والولايات المتحدة مع تقدم القرن الثامن عشر في صعود ثقافة جديدة فضلت البهجة على الحزن كفضيلة بالمجتمع
فعلى المستوى الفكري والفلسفي قادت الحداثة إلى الفردية باحتفالها بالإنسان وبقدراته وبدعوتها للإنسان للسيطرة على ظروفه وقهر أسباب ومشاعر الضعف والحزن لديه
على النحو نفسه دعا مفكرو عصر التنوير الإنسان بالاهتمام بذاته والاعتناء بها ماديا وروحانيا والإصرار على تحقيق السعادة بالحياة الدنيا
على المستوى الاجتماعي، تقول المؤلفة أن الطبقة الوسطى الأمريكية (البيضاء) شعرت بالرخاء الاقتصادي والفرص المتاحة أمامها، وطالبت أبناءها بالتحكم في مشاعرهم كطريق لتحقيق النجاح، كما طالبتهم بالبهجة والتفاؤل والإيجابية والاستبشار بالظروف الجديدة، حتى أصبحت البهجة معيارا للانتماء للطبقة الوسطى التي أصبحت تنظر إليها كفضيلة ضرورية للحفاظ على التماسك واستمرار التقدم الاجتماعي
لذا انتشرت في أوساط الطبقة الوسطى الأمريكي مشاعر رافضة لليأس وللحزن وللدموع ولمن يعجزون عن مساعدة أنفسهم
أمريكا تخطت أوربا في البهجة
تقول كريستينا كوتشيميدوفا أن الأوربيين – الذين زاروا أمريكا – في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر بدأوا يشعروا بأن أمريكا تقدمت على أوربا في ثقافة البهجة، وأنشغل بعضهم بمحاولة تفسير أسباب هذا التقدم، ومن بينها ما يلي
أولا: الأمريكان شعب حديث صاحب تاريخ قصير لا يمتلك الأشجان والأحزان والمآسي التاريخية التي تكتظ بها تواريخ وذاكرة الأمم الأكبر عمرا
ثانيا: الديمقراطية الأمريكية ومؤسساتها القوية والوفرة الاقتصادية أشعروا المواطن أمريكا بالاطمئنان والتفاؤل بخصوص المستقبل وبالراحة المادية وهي مشاعر ضرورية لمساندة الشعور بالبهجة
ثالثا: ثقافة الطبقة الأمريكية خلت من التأكيد المبالغ فيه على أساليب اللياقة التقليدية في المعاملة، إذ تميزت ثقافة الطبقة الأمريكية الوسطى (البيضاء) بقدر كبير من البساطة والمساواة والتخلي عن التعقيدات مما ساعد البهجة على الانتشار بأمريكا مقارنة ببعض المجتمعات الأوربية التي عرفت الطبقية والتقاليد الاجتماعية المحافظة
رابعا: تنتشر في المجتمع الأمريكي نوع من الفلسفة التي يمكن وصفها بالفلسفة الشعبية أو الجماهيرية وهي تركز بشكل عام من خلال سيل لا ينتهي من الكتابات على تسليح المواطن الأمريكي بالأفكار والأساليب الفكرية والحياتية المختلفة التي تساعده على الشعور بالبهجة بشكل مستمر، كالرياضة والتغذية السليمة والأفكار المساعدة
مخاطر البهجة على المجتمع الأمريكي
تحذر كريستينا كوتشيميدوفا في مقالتها من أن انتشار البهجة بالثقافة الأمريكية وسيطرتها كمعيار ثقافي وعلى رؤية المواطن الأمريكي لنفسه جعل منه أداة سلبية في بعض الأحيان
فعلى إحدى المستويات مثلت البهجة أداة استغلال للفئات الضعيفة كالنساء والطبقات الفقيرة كالعمال، إذا فرضت الثقافة على تلك الفئات إظهار البهجة حتى في الظروف القاسية ضد إرادتهم وضد مصالحهم حتى لا يتهموا بالفشل الثقافي أو بالفشل عن إظهار البهجة
ثانيا، البهجة بصفتها شعور غير قوي يعبر عن درجة متوسطة من السعادة ساهم في انتشار ثقافة أمريكية وقفت موقفا سلبيا من المشاعر القوية مثل الحب والخوف والغضب، إذ تسيطر على الثقافة الأمريكية المعاصرة فضيلة التحكم في المشاعر والذات، والتي تحتم على الأفراد التحكم في مشاعرهم وعدم الإفراط في التعبير عنها، والنظر بسخرية للمشاعر الجياشة كالحب على سبيل المثل
وللأسف أضرت هذه القيمة (التحكم في الذات) بمشاعر هامة وضرورية كالحب وجعلتها ينظر إليها كنوع من الضعف وعدم القدرة على التحكم في الذات الذي قد يؤدي للفشل، وقد ساعدت ثقافة البهجة في ذلك، لأن البهجة بصفتها شعورا ضعيفا غير جياشا ساعدت قيمة التحكم في الذات على الانتشار والسيطرة على ثقافة الأمريكيين
ثالثا، النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي احتفى بالبهجة كفضيلة وسعى لنشرها بالمجتمع واستغلاها لمصلحته مستخدما الإعلام كأداة، إذ استغلت الرأسمالية الأمريكية إيمان الأمريكيين بالبهجة في نشر ثقافة الاستهلاك على أساس أن استهلاك بضائع وخدمات الشركات الرأسمالية من شأنه أن يعزز بهجة المواطن الأمريكي
وهي فكرة نشرتها الشركات الرأسمالية الأمريكي من خلال سيل لا ينتهي من الإعلانات التجارية مستخدمة وسائل الإعلام الأمريكي ذات الانتشار الرهيب
أما الخطر الرابع لطغيان ثقافة البهجة فهو تحريم شعور الأفراد بمشاعر الضعف والإحباط، وهي مشاعر طبيعية قد يتعرض لها الفرد في فترات متقطعة عبر حياته
وللأسف يؤدي طغيان ثقافة البهجة على المجتمع الأمريكي إلى فشل الأمريكيين في التعامل مع الإحباط تعاملا طبيعيا يتناسب مع حقيقة كونه شعور طبيعي لا يجب تجريمه، لذا تكون النتيجة وقوع الأمريكي المحبط ضحية العقاقير الطبية المفرطة أو الممارسات غير السليمة صحيا كرد فعل لعجزه عن الاعتراف بشعور الإحباط في ظل رفض المجتمع بالاعتراف بهذا الشعور الطبيعي تحت وطأة سيطرة الشعور البهجة الطاغي
التأثيرات السياسية للبهجة
على المستوى السياسي تشير كتابات حديثة مثل كتاب "أمريكا مخطئة أو مصيبة: تشريح القومية الأمريكية" - الصادر في العام الماضي عن مطابع جامعة أكسفورد الأمريكية للكاتب البريطاني أناتول ليفين - إلى أن التفاؤل هو خاصية هامة من خصائص القومية الأمريكية حيث يقترن معها شعور المواطن الأمريكي بالرضا عن الذات وعن أمريكا كوطن ودولة وإيمان المواطن الأمريكي بصدق النوايا الأمريكي في غالبية الظروف
ويرى المؤلف أن هذه المشاعر قد تؤدي إلى وقوع الشعب الأمريكي فريسة سهلة الاستغلال من قبل بعض الإدارات الأمريكية التي قد تقود مشاريع سياسية مغامرة على المستويين الداخلي والخارجي تضر بمصالح المواطن الأمريكي الذي يبدو حريصا على التفاؤل وعدم التفكير السلبي
على الصعيد نفسه يشير أندرو باسفيتش مؤلف كتاب "النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة" الصادر في عام 2005 عن مطابع جامعة أكسفورد الأمريكية في الفصل الرابع من كتابه إلى أن البهجة والتفاؤل والثقة في الذات والرضا عنها هي مشاعر هامة يحرص الرؤساء الأمريكيين على تأكيدها في خطاباتهم عند الحديث للمجتمع الأمريكي
حيث يرى باسفيتش أن الشعب الأمريكي بطبيعته يميل للرضا عن الذات والتفكير المتفاءل عن المستقبل، لذا يرى باسفيتش أن بهجة وتفاؤل الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان ساعدته في الفوز على الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر والذي مال للتشاؤم والنقد مدفوعا باهتماماته الأخلاقية والفلسفية
ويعتقد باسفيتش أن تفاؤل ريجان أكسبه محبة الجماهير خاصة وأن ريجان سعى لأن يعيد للأمريكيين ثقتهم في أنفسهم التي افتقدوها بعد حرب فيتنام ومشاكل عقدي الستينات والسبعينات، ويقول باسفيتش أن الثقة التي بثها ريجان في الشعب الأمريكي كانت ضرورية لكي تتمكن أمريكا من خوض حروب جديدة كحرب العراق
أخيرا يمكننا أن نشير إلى أن الخلاف الحالي بين الديمقراطيين والجمهوريين حول حرب العراق يمكن النظر إليه كصراع بين البهجة والتشاؤم، فالديمقراطيين يسعون لكي يبرهنوا للشعب الأمريكي أن الإدارة الأمريكي فشلت في العراق، دون أن يبالغوا في نقدهم أو نبرتهم السلبية حتى لا يتهمهم الشعب الأمريكي بالتشاؤم
في الوقت نفسه تحرص الإدارة الأمريكية على إشاعة شعور بالتفاؤل حول مستقبل العراق في أوساط الرأي العام الأمريكي، وهو شعور يصعب نشره في ظل الأخبار السلبية على أرض الواقع
بقى لنا أن نشير إلى أن البهجة والتفاؤل سمات إيجابية راسخة بالثقافة الأمريكية وضرورية للحوار معه، فهي تفرض على أي طرف معني بالحوار مع الشعب الأمريكي أن يحرص على البهجة والتفاؤل لأن الشعب الأمريكي قليل الصبر على المشاعر السلبية
1 comment:
الأخ الكريم علاء بيومي وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد سعدت بالتعرف على شخصك الكريم عبر مدونتك هذه وأسأل الله أن يوفقك ويحفظك وينصر بك دينه.
لقد استفدت من مقالتك وسرني جدا ما خلصت إليه في نهايتها من قولك "بقى لنا أن نشير إلى أن البهجة والتفاؤل سمات إيجابية راسخة بالثقافة الأمريكية وضرورية للحوار معه، فهي تفرض على أي طرف معني بالحوار مع الشعب الأمريكي أن يحرص على البهجة والتفاؤل لأن الشعب الأمريكي قليل الصبر على المشاعر السلبية". وهذا يثير تساؤلات عديدة تدور حول كيف يمكن للعلماء للدعاة والمصلحين والمهتمين بالشأن الأمريكي في عالمنا من سياسيين واقتصاديين وغيره في عالمنا الإسلامي من الاستفادة من هذه المعرفة من حرص الشعب الأمريكي على البهجة والتفاؤل. ثم ماذا يترتب على كون هذا الشعب في أغلبيته البيضاء النصرانية "قليل الصبر على المشاعر السلبية" خاصة فيما يتعلق بمحو جهالته عن المصائب والجرائم التي يرتكبها ساسته وأبناؤهم المحاربون في بلادنا وهل تكثيف الأخبار السوداء والمصائب التي ترتكب بتفويض منه كافية في أن يجعله يتحرك؟
شكرا لك
Post a Comment