Saturday, October 14, 2006

الإستشراق الأسود: الأصول والإشكاليات


مقال بقلم: علاء بيومي

الناشر:
جريدة الحياة، 14 أكتوبر 2006، حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر

نص المقال

ارتبط الإستشراق في ذهن القارئ العربي بالعنصرية الأوربية والغربية البيضاء ومساعيها لتبرير سيطرتها على الشرق من خلال وضعه في قوالب فكرية تضفي العقلانية على هذه السيطرة وتصور الطرف الشرقي على أن طرف يستحق السيطرة عليه ويبحث عنها ويرحب بها

في المقابل تتناول هذه المقالة نوعا مختلفا من الإستشراق - يندر الحديث عنه في الأوساط الأكاديمية العربية أو الغربية - وهو الإستشراق القادم من بعض فئات الأفارقة الأمريكيين بالولايات المتحدة الأمريكية، والمعروف اصطلاحا باسم "الاستشراق الأسود" لتمييزه عن الإستشراق السائد والنابع من الحضارة الغربية البيضاء

هناك علامات استفهام عديدة ومثيرة ترتبط بهذه الفئة من الإستشراق خاصة لكون "الإستشراق الأسود" صادر عن أبناء مجموعة بشرية (الأفارقة الأمريكيين) عانت تاريخيا من الاضطهاد والعبودية على أيدي مناصري المستشرقين البيض، كما يحضرنا سؤال أخر يتعلق بأسباب صعود هذه الظاهرة في الفترة الحالية؟ والأسباب التي دفعت بعض الأقلام الأفريقية الأمريكية للانضمام إلى الحملة المضادة للإسلام والمسلمين في الوقت الراهن، ومغزى هذا كله

ميلاد الإستشراق الأسود

على مزروعي أستاذ الدراسات الأفريقية ذو الشهرة الدولية والمقيم حاليا بالولايات المتحدة استخدم مصطلح "الإستشراق الأسود" في مقال نشر له في ربيع عام 2000 بدورية تعرف باسم الأستاذ الأسود The Black Scholar في حديثه عن سلسلة حلقات تلفزيونية تسجيلية عن إفريقيا للأكاديمي الأفريقي الأمريكي المعروف هنري لويس جاتس جونيور أستاذ الدراسات الأفريقية الأمريكية بجامعة هارفرد وهي أكبر الجامعات الأمريكية على الإطلاق

مزروعي رأي أن حلقات جايتس والتي صدرت بعنوان "عجائب العالم الأفريقي" تضمنت مغالطات فكرية عديدة ولوم غير مبرر للعرب وللأفارقة على حساب التساهل مع أطراف أخرى بما في ذلك الدول الغربية والولايات المتحدة ودور هذه الأطراف في الصعوبات التي تواجهها الشعوب الأفريقية بصفة عامة والأفارقة الأمريكيين بصفة خاصة في الوقت الحالي

حيث رأي مزروعي أن حلقات جايتس تميزت بالانتقائية، وامتلأت بغلطات في الترجمة، وبالغت في تصوير دور العرب والأفارقة في تجارة العبيد ومحاولة إعفاء الغرب من مسئوليته بهذا الخصوص، كما أقحمت إسرائيل بشكل غير مفهوم في السلسلة الوثائقية، كما نظرت نظرة سطحية عامة للشعوب الأفريقية تصورها على أنها شعوب شريرة باعت أبنائها في المهجر (الأفريقيين الأمريكيين)

كل هذه الملاحظات دفعت مزروعي إلى التساؤل حول ما إذا كانت سلسلة جايتس التلفزيونية هي بمثابة لحظة "ميلاد الاستشراق الأسود

وما يجعلنا نفتح هذه القضية مرة أخرى وبعد مرور ست سنوات على صدور مقال علي مزروعي هو محتوى كتاب "الإسلام والأمريكي الأسود: نظرة نحو الإحياء الثالث" لأستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مشيجان شرمان جاكسون والمشهور في الأوساط المسلمة الأمريكية باسم "عبد الحكيم جاكسون

الكتاب المعني بصفة عامة بحاضر ومستقبل الإسلام في الولايات المتحدة ودور الأفارقة أو السود الأمريكيين – كما يسميهم جاكسون – بهذا الخصوص خصص فصلا كاملا – وهو الفصل الثالث – للحديث عن خطر الإستشراق الأسود في مساهمة علمية متميزة لعلها تكون بداية للدراسة الجادة لظاهرة الإستشراق الأسود، دفعتنا لكتابة هذا المقال

هدفه وأسباب ظهوره

يقول شرمان جاكسون أن "الاستشراق الأسود يسعى إلى تصوير العالم العربي/ الإسلامي على أنه سابق ومقلد للغرب في تاريخ اللاحق (الغرب) المعادي للسواد"

بمعني أخر يسعى الإستشراق الأسود لتصوير الإسلام والمجتمعات المسلمة والعربية على أنهم معادون للسود عداءا سابقا على عداء العنصرية البيضاء للسود، كما يرى مناصرو هذا الاتجاه أن الإسلام والمسلمين في أمريكا – خاصة الأفارقة الأمريكيين المسلمين – هم ورثة لهذا العداء الإسلامي الدفين (المفترض من قبلهم) ضد السود، وبهذا يقطع هؤلاء الطريق على انتشار الإسلام في أمريكا بصفة عامة وفي أوساط الأفارقة الأمريكيين بصفة خاصة

وفي محاولة لتفسير أسباب نشأة وصعود الإستشراق الأسود، يشير جاكسون إلى ثلاثة أسباب، أولها ديني يرتبط بانتشار الإسلام في أمريكا والذي ينظر إليه من قبل بعض الجماعات الدينية الأفريقية الأمريكية غير المسلمة على أن مكسب للإسلام وخسارة لها

السبب الثاني ثقافي يرتبط بالصراع بين الأفارقة الأمريكيين المسلمين وغير المسلمين على إصلاح وتطوير الثقافة الأفريقية الأمريكية، وقدرة الأفارقة الأمريكيين المسلمين على إدخال مفاهيم ثقافية جديدة على الثقافة الأفريقية الأمريكية بشكل يقلق منافسيهم

السبب الثالث هو انتشار شعور في أوساط الأفارقة الأمريكيين بأن الإسلام الأمريكي لم يخاطب قضاياهم بدرجة كبيرة وذلك نتيجة لعدم توجيه المسلمين الأمريكيين – وخاصة المهاجرين منهم – لقدر كافي من الاهتمام بقضايا الأفارقة الأمريكيين، وخاصة قضايا مكافحة العنصرية وتنمية المجتمعات الأفريقية الأمريكية المحلية وعلاج مشاكلها، هذا إضافة إلى عدم تمكين الأفارقة الأمريكيين المسلمين من البروز كسلطات دينية ذات نفوذ واسع في أوساط المسلمين الأمريكيين مما زاد الشعور في أوساط الأفارقة الأمريكيين بصفة عامة بأن الإسلام الأمريكي لا يخاطب قضاياهم

وهنا يتبني شرمان جاكسون نظرة متميزة لأسباب صعود الإستشراق الأسود حيث يرى أن المسلمين أنفسهم ساهموا في صعوده بعدم تركيزهم بشكل كافي على مخاطبة قضايا الأفارقة الأمريكية، وذلك بالطبع دون أن يعفي المستشرقين الأفارقة الأمريكيين من مسئوليتهم في صعود ظاهرة "الاستشراق الأسود" الثقافية السلبية الخطيرة

كما يؤكد شرمان جاكسون على طبيعة الإستشراق الأسود السلبية وكيف أنه لا يرتبط بمشروع استعمار كالمشروع الذي ارتبط به الإستشراق الغربي التاريخي، كما يشير إلى أن الاستشراق الغربي ساعد على ظهور الاستشراق الأسود لأنه مهد أمامه البيئة الفكرية المناسبة والتي ساعدت على تصوير الإسلام والمسلمين والعرب بصورة سلبية بالمجتمع الأمريكي

ولكنه يقول أن الأفارقة الأمريكيين كانوا ينظرون تاريخيا نظرة إيجابية للمسلمين والعرب بحكم أن بلاد الشرق عانت من الاستعمار كما عاني الأفارقة الأمريكيين من العبودية، ولكن هذه النظرة الإيجابية بدأت تتراجع منذ منتصف عقد الستينات والذي شهد زيادة معدلات هجرة المسلمين والعرب إلى الولايات المتحدة، حيث بدأ بعض الأفارقة الأمريكيين في تصوير المسلمين والعرب على أنهم شركاء مع الغرب في نظام العبودية بهدف تحدي انتشار أفكار المسلمين السود في الأوساط الأفريقية الأمريكية

تعريفه ومصادره/ أنواعه

يقول شرمان جاكسون إن نقد المسلمين نقدا موضوعيا ليس عيبا أو أمرا ممنوعا، ولكن مشكلة الإستشراق تكمن في أنه "تخيل، وتحيز، وإيديولوجية" ضد الإسلام والمسلمين، إذ يتعامل الإستشراق الأسود مع الإسلام والحضارة الإسلامية تعاملا انتقائيا يهدف إلى تصوير الإسلام على أنه "خطر مساوي إن لم يكن أكبر" من العنصرية البيضاء، وذلك من خلال تقديم قراءة غير موضوعية للإسلام وللحضارة الإسلامية تدعي بأن الحضارة الإسلامية سبقت الحضارة الغربية في استعباد الأفارقة، بل أن الإسلام هو الذي قام بتصدير العنصرية ضد السود إلى الغرب

ويقسم جاكسون مصادر أو أنواع الإستشراق الأسود إلى ثلاثة فئات (قومي، وأكاديمي، وديني)

بالنسبة للإستشراق القومي، يقول جاكسون أنه يرتبط بالحركات الوطنية الأفريقية المنتشرة في أوساط الأفارقة الأمريكية وهي حركات فكرية تتسم بتمركزها حول الذات الأفريقية وبمحاولتها النظر للعالم بعيون أفريقية ونقد السود المتأثرين بالثقافة الغربية

ويقول جاكسون أن بعض كتابات هذا التيار كما تمثلها كتابات موليفي كينتي أسانتي تدعي أن الروح الأفريقية تعارض الإسلام بطبيعتها، وأن العرب هم سبب انهيار الحضارة الأفريقية، كما تدعي أن العرب سيطروا على الإسلام بشكل عنصري وأن الإسلام يتساوى مع العنصرية البيضاء

ويقول جاكسون أن الأفكار السابقة تتجاهل كون العربية هوية مفتوحة لاعتمادها على اللسان في مقابل الهوية الغربية وهي هوية مغلقة قائمة على العرق، كما أنها تتجاهل أن الخضوع للإسلام خضوع إرادي تطوعي في مقابل الخضوع للعنصرية البيضاء القسري، كما تتجاهل سيطرة أعراق غير عربية على الإسلام وعلى رأسها الأتراك، وتتجاهل حفاظ العرب على الحضارة الأفريقية كما هو الحال بمصر

النوع الثاني هو الإستشراق الأكاديمي، ويمثله كما يرى جاكسون الأكاديمي هنري لويس جايتس جونيور، كما ظهر في سلسلة الحلقات التلفزيونية التي أنتجها بعنوان "عجائب عالم إفريقيا" والتي أشرنا إلى نقد على مزروعي لها في بداية المقال

ويقول جاكسون أن جايتس يسعى في حلقاته إلى إعادة صياغة صورة إفريقيا لدى الأفارقة الأمريكيين، إذ يدعي أن العرب هدموا حضارة النوبة عند بناء جمال عبد الناصر للسد العالي، كما يهاجم جيتس الأفارقة المسلمين لأنهم لا يقدمون هويتهم الأفريقية على هويتهم المسلمة، حيث يرى جيتس أنه الواجب على الأفارقة تقديم هويتهم العرقية على هوياتهم الأخرى (كالهويات الدينية والوطنية)، وهنا يستغرب جاكسون من عدم تعرض جيتس لعلاقة الأديان الأخرى بالاستعمار والإستشراق الأبيض

النوع الثالث ديني يحاول تصوير العنصرية على أنها مشكلة مسلمة أفريقية قبل أن تكون مسلمة أو مسيحية أمريكية مدعيا أن العنصرية وجدت وسط المسلمين الأفارقة أولا، ويضرب جاكسون مثالا بكتابات ريتشارد برنت تيرنر، ويقول أن تيرنر يحاول تصوير الإسلام على أنه تهديد للعلاقة بين الأعراق في أمريكا، كما يتجاهل مشكلة العنصرية في أمريكا وينظر للإسلام على أنه هو المشكلة، وبذلك يتجاهل تيرنر – كما يرى جاكسون – دور الإسلام الإيجابي في دعم المقاومة الأفريقية للعنصرية البيضاء في أمريكا

الخاتمة

ختاما يجب التأكيد على هدف هذا المقال الرامي إلى إبراز نوع مغاير من الإستشراق يندر الحديث في الكتابات العربية، وذلك على أمل أن يمثل المقال حافزا للتعمق في دراسة الإستشراق الأسود وغيره من الظواهر والحركات الفكرية وغير الفكرية المؤثرة على صورة الإسلام والمسلمين في أمريكا، كما نود إبراز بعض الخلاصات الفكرية التي من شأنها المساعدة على تحقيق هدف المقال، وهي

ضرورة التفرقة بين الإستشراق الأسود كحركة فكرية معادية للمسلمين وجماهير الأفارقة الأمريكيين بالولايات المتحدة، وهي أقلية أمريكية تحتوي على جماعات ومنظمات عديدة مساندة لقضايا المسلمين والعرب بالولايات المتحدة، فالوعي بالإستشراق الأسود لا يعني اتخاذ موقف سلبي تجاه الأفارقة الأمريكيين والذين ينحدر منهم ثلث المسلمين في أمريكا على الأقل

علاج الإستشراق الأسود يكون بالتعمق في دراسته وفهمه وفهم دوافعه والرد عليه فكريا وأكاديميا

يرى شرمان جاكسون أن إهمال المسلمين والعرب خاصة المهاجرين منهم للولايات المتحدة لقضايا الأفارقة الأمريكيين ولكفاحهم ضد العنصرية البيضاء يعد أحد العوامل المحفزة للإستشراق الأسود بصفة خاصة وأحد العوامل المعيقة لانتشار الإسلام وسط الأفارقة الأمريكيين بصفة عامة وهي قضية هامة يجب تداركها وعلاجها

هناك حاجة – يبرزها كتاب جاكسون – إلى مراجعة التراث الفكري الإسلامي المعاصر فيما يتعلق- خاصة الأفارقة الأمريكيين – وذلك للتأكد من خلو هذا التراث من أي تركات سلبية تاريخية وأخرى حديثة قد يكون الاستعمار قد تركها على الفكر العربي والإسلامي المعاصر

------

مقالات ذات صلة

صورة الإسلام في أميركا بعد خمس سنوات على 11/9

سبل مكافحة الإسلاموفوبيا في البيئة الأمريكية

تفسير جديد لأسباب إنتشار الإسلام بين الأفارقة الأمريكيين

No comments: