أحلام أوباما والجيل الأميركي المفقود
مقال بقلم: علاء بيومي
الناشر: الجزيرة نت، 20 فبراير 2008
نص المقال
سر الصراع الشرس والطويل بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة هو أنه يجري بين كيانات أكبر من أوباما وهيلاري بكثير، فهو صراع بين النخب الحاكمة للحزب الديمقراطي من ناحية وللولايات المتحدة الأميركية من ناحية أخرى، بل هو صراع بين الأجيال الأميركية شاء القدر أن يجري داخل أروقة الحزب الديمقراطي في العام الحالي
صراع أجيال
جذور الصراع الحالي تعود إلى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية والتي شهدت خروج أميركا للعالم كقوة عظمى منتصرة ذات إمكانات غير مسبوقة من حيث القوى الاقتصادية والعسكرية، فترة ولد فيها جيل جديد يحكم أميركا حاليا ويمثله سياسيون مثل هيلاري كلينتون (ولدت في عام 1947) وزوجها بيل كلينتون (ولد في عام 1946) وجورج دبليو بوش (ولد في عام 1946)
جيل عرف أميركا في أوج قوتها وهيبتها الدولية ومواردها التي لا تنضب، وسرعان ما انشغل داخليا بصراعات طاحنة كثورة الحقوق المدنية وثورة الشباب الأخلاقية وحرب فيتنام وتبعاتها الكارثية
وهي صراعات قسمت الجيل السابق لفريقين متناحرين لا يتقابلان، يسار جديد توجه للحزب الديمقراطي تقوده الحركات النسوية والنخب الليبرالية المتحررة أخلاقيا والجماعات المعادية للحروب، ويمين ارتمي في حضن أثرياء الجنوب والرافضين لميراث ثورة الحقوق المدنية والمساندين للتشدد العسكري والجماعات المسيحية المتدينة متصاعدة النفوذ
وبدخول السبعينات دخلت أميركا داخليا مرحلة الحروب الثقافية التي شهدت انقساما حزبيا حادا بين الطرفين السابقين وصعودا متناميا في قوي اليمين الأميركي والتي دانت لها السيطرة منذ عام 1980، فبعد أن شهدت فترة ما بين الحربين صعودا مستمرا للحزب الديمقراطي واليسار الأميركي وصل قمته في فترة الستينات الصاخبة بدأ الجمهوريون في تنظيم أنفسهم وتحالفهم الجديد والذي ساهم في عودتهم للسلطة مع ريجان في عام 1980
ويقول البعض أن تأثير ريجان على السياسة الأميركية كان طاغيا إذا استطاع توسيع خيمة الجمهوريين وتحالفاتهم الجماهيرية بتقوية تحالفهم مع الجماعات المتدينة وبتشدده على ساحة السياسة الخارجية مما ساهم في اجتذاب صقور الديمقراطيين والليبراليين كالمحافظين الجدد
ومنذ عام 1980 لم يحكم أميركا رئيس ديمقراطي سوى بيل كلينتون، والذي حكم أميركا لثمانية سنوات فشل بعدها في الدفع بنائبه آل جور لسدة الحكم، ويقول البعض أن حكم كلينتون لم يكن سوى تأكيد لسيطرة الجمهوريين، ففي عام 1994 وبعد تولي كلينتون الرئاسة بعامين فقط منى الديمقراطيون بهزيمة ساحقة في مجلس النواب أدت إلى وقوعه تحت سيطرة الجمهوريين بنسبة كبيرة (فارق 25 مقعدا) عن الديمقراطيين، كما مال كلينتون كرئيس لليمين بتركيزه على قضايا مثل الحد من الإنفاق الحكومي وتشجيع التجارة الدولية وتنشيط دور أميركا في التدخل العسكري في حل الصراعات الدولية عبر العالم
ولذلك يري البعض أن الكلينتونية هي صورة انهزامية للمد الليبرالي، صورة يعترف فيها الديمقراطيون بسيطرة الجمهوريين الساحقة على مجريات السياسية الأميركية وبأن ليس أمامهم سوى المهادنة والميل لليمين قليلا أو لما يسمى بيمين الوسط لعلهم يتمكنون من الفوز بأصوات المعتدلين الجمهوريين وتقديم الأجندة الديمقراطية الليبرالية على استحياء بعض سنتيمترات إلى الأمام
ويرى الكثيرون أن هيلاري وريثة الكلينتونية الشرعية خاصة وأن خطابها تعتليه مسحات واضحة من التشدد خاصة على الساحة الخارجية، كما أن خطابها الداخلي ليبرالي متحزب بشكل واضح ومستعد بشراسة لمهاجمة الجمهوريين وإذاقتهم مرارة الهزيمة السياسية وتلقينهم أحد دروس فترة الحروب الثقافية، وهي حرب تشبه حرب الخنادق، والتي تعتمد بالأساس على إستراتيجية الكر والفر وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو قبل العودة للتخندق من جديد وبأقصى سرعة
عصر الحروب المفتوحة
ولكن البعض يرى أن إستراتيجية هيلاري والتي تعكس عقلية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية والمؤمنين بالكلينتونية في الحزب الديمقراطي لم تعد صالحة للفترة الحالية، بل أنها باتت معزولة عن حقيقة التحولات الكبرى التي تعصف بالحزبين الجمهوري والديمقراطي والسياسية الأميركية حاليا
حيث يرى هؤلاء أن أخطاء جورج دبليو بوش الكارثية خاصة في العراق أدخلت السياسة الأميركية في عصر جديد من الصراعات السياسية يمكن تسميته بعصر الحرب المفتوحة
فعلى مدى سنوات حكمه دافع بوش بقوة عن أجندة النخب الحاكمة للحزب الجمهوري وهي أجندة تقوم على خدمة أثرياء الجنوب والبروتستانت التبشيريين والجماهير اليمينية الأكثر تشددا من خلال إفساح المجال أمام شركات الطاقة الأميركية للعمل بلا قيود، وخفض الضرائب على الأثرياء، والتشدد العسكري على الساحة الخارجية، والميل لليمين الأخلاقي والديني على الساحة الداخلية
ويقول البعض أن الأخطاء الكبرى التي ارتكبها بوش في إدارة أميركا وحرب العراق أضرت ضررا بالغا بأجندة النخب السابقة والتي بات ينظر إليها على أنها نخب غير أمينة ولا تتمتع بالكفاءة اللازمة ناهيك عن المصداقية لقيادة أميركا
ونتيجة لذلك بات على تلك النخب أن تفسح المجال لفئتين، أولهما فئة النخب الاقتصادية والثقافية الجديدة المتصاعدة منذ أوائل التسعينات وخاصة أثرياء قطاع التكنولوجيا والخدمات المالية وصناعة الترفية، وهي نخب تنتمي لعصر ما بعد التصنيع أو ما بعد الحداثة وتحمل أفكار وتطلعات مختلفة إلى حد كبير عن أثرياء الجنوب والطاقة المسيطرين على الحزب الجمهوري
فنخب التكنولوجيا والترفيه والخدمات المالية نخب ثرية باتت تتمتع بنفوذ مالي وسياسي كبير يسعى أوباما وهيلاري وجون ماكين لحصده، نخب تميل أكثر لليسار، كما أنها أيضا تؤمن بأفكار جديدة فهي أقل تشددا من الناحية الحزبية، فهي أكثر إيمانا بقضايا كالبيئة وتحسين التعليم والحالة العامة للاقتصاد الأميركي وصورة أميركا عبر العالم وأكثر انجذابا للخطاب السياسي الأكثر رقيا وذكاء كخطاب أوباما
أما الفئة الثانية فهي الفئة التي تعرف بالجيل الأميركي المفقود وهم الجيل الأميركي الذي ولد بين عامي 1961 و1976 كما يحدده البعض، وهو جيل لم يعش صراعات الستينات، كما أنه ترعرع في ظرف أقل ثراء من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث واجه الجيل الأميركي المفقود مشاكل ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وتردي المدارس الحكومية وانشغال الساسة الأميركيين بالصراعات الحزبية والسياسية
لذا لا يرى هذا الجيل أنه ممثل سياسيا، كما يرفض سياسات جيل هيلاري وبيل كلينتون وجورج بوش والتي يرى أنها سياسات حزبية مؤلدجة تهمل قضاياه
ويقول البعض أن هذا الجيل ظل ضائعا مهملا ومنعزلا حتى دفعته أحداث 11-9 للمشاركة، ونظرا لعدم حزبيته مال لبوش واليمين في البداية ثم شعر بتطرفه فعاد وانقلب على اليمين ومال بشكل أكبر لليسار، وبات يبحث عن ممثل له في الانتخابات القادمة مستفيدا من قوته المتصاعدة، والتي تعود لإتقانه استخدام الإنترنت وأدوات الاتصال الحديثة مقارنة بالجيل القديم، وهي تقنيات باتت ذات قدرة كبيرة على جمع التبرعات وحشد تأييد الرأي العام في الانتخابات
الملهم المنتظر
ويرى المتابعون أن صعود النخب الجديدة وأخطاء إدارة بوش والتي أدت لهزيمة الجمهوريين الساحقة في انتخابات عام 2006 جعلت ساحة السياسة الأميركية مفتوحة على مصراعيها قابلة لصعود قيادات وأفكار جديدة تعيد تعريف القوى الحاكمة لأميركا
ويلوم الكثيرون على الديمقراطيين عدم استغلالهم الكافي لعصر الحروب السياسية المفتوحة حتى الآن حيث يرى هؤلاء أن الساسة الديمقراطيين مازالوا يعيشون بعقلية حروب الخنادق والكر والفر والتي أدت إلى هزيمتهم في انتخابات عام 2004 حين حاول جون كيري مواجهة جورج دبليو بوش بأجندة باهتة لا هي ليبرالية منفتحة ولا يمينية متشددة مما أدى لهزيمته
كما يرى هؤلاء أن انتصار الديمقراطيين في انتخابات عام 2006 لم يكن نتيجة لأفكار جديدة أو قيادات متميزة قدموها فغالبية الأميركيين تجهل أسماء قيادات الديمقراطيين في الكونجرس، وحتى باراك أوباما ذاته لا يمتلك الصيت الكافي لدى الشعب الأميركي، ولعل هذا سبب تفوق هيلاري عليه في بعض جولات السباق فهي أشهر منه على المستوى الأميركي
لذا لم ينتخب الأميركيون الديمقراطيين في عام 2006 بقدر ما أرادوا إسقاط الجمهوريين، مما يترك انتخابات العام الحالي مفتوحة أمام جميع الاحتمالات
وفي ظل هذا السياق يصور البعض أوباما على أن المنقذ المنتظر والرجل القادر على قيادة الحزب الجمهوري في ساحة الحروب المفتوحة وإلحاق هزيمة ضخمة بالجمهوريين تعيد تعريف حدودهم السياسة وتعيد بناء القواعد الجماهيرية للحزب الديمقراطي
ويرى هؤلاء أن هيلاري سوف تعجز عن القيام بتلك المهمة بحكم أنها معروفة بحزبيتها وحدتها الكفيلة بتوحيد الجمهوريين ضدها
أحلام أوباما
أما أوباما فهو مختلف كثيرا، فهو معروف بخطابه الذي يركز على الوحدة ويرفض الانقسام، وبحديثه الخلاق الجذاب القادر على إقناع الكثيرين، وبتوجهاته السياسية الليبرالية على الساحة الخارجية مقارنة يهيلاري التي أيدت حرب العراق وتميل للتشدد مما يجعل أوباما أكثر قدرة على جذب أصوات الجماعات الرافضة للحرب، كما أن أوباما يميل لليمين وللتوجهات المحافظة على الساحة الداخلية مقارنة بهيلاري فأوباما أكثر تدينا ومحافظة منها مما يجعله أكثر قدرة على اجتذاب أصوات المتدينين والجمهوريين المعتدلين
كما أن أوباما المولود في عام 1961 ينتمي للجيل الأميركي المفقود الذي مازال يبحث عن أحد يمثله، ولو تم انتخابه من قبل الديمقراطيين فسوف يساعد الحزب الديمقراطي على الفوز بأصوات هذا الجيل في الانتخابات الرئاسية، وسوف يكون في حالة فوزه بالرئاسة الأميركية في نوفمبر المقبل أول رئيس أميركي ينتمي لهذا الجيل ويعبر عن قضاياه بعد سيطرة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على السياسة الأميركية منذ عام 1992
كما أن أوباما يخوض الانتخابات بإستراتيجية جديدة تميزه عن هاورد دين الذي هزمه جون كيري في انتخابات عام 2004، وذلك لأن دين – الذي حقق نجاحا كبيرا قبل هزيمته - قدم نفسه على أنه صوت من لا صوت لهم في الحزب الديمقراطي كما أستطاع بناء حركة سياسية باتت مؤثرة في الحزب الديمقراطي وهو نفس الشيء الذي يفعله أوباما حاليا فهو يجذب إليه أصوات جديدة لم تصوت من قبل، ولكن أوباما حرص على آلا يقع في أخطاء هاورد دين والذي بالغ في يساريته بشكل قلص قواعده الجماهيرية، أما أوباما فيحرص على تقديم نفسه كرجل يحلم بتوحيد أميركا وتخطي الفوارق السياسية والعنصرية
ولكن هناك من يخشى على أوباما وأحلامه، فالنخب الصاعدة في أفق الحزب الديمقراطي نخب ثرية قد لا تهتم بأجندة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كما أن أوباما قليل الخبرة ولا يمتلك سوى خطابه الرائع وأحلامه بتخطي الفوارق الاقتصادية والعنصرية والسياسية في أميركا، وهناك من يخشى من أن تستغل القوى الرافضة للتغيير في أميركا خطاب أوباما وأحلامه كدليل في حل ذاتها على تخطي تلك الفوارق دون إعطاء أوباما فرصة للتغيير الحقيقي، فلكي يحقق أوباما أحلامه عليه مواجهة النخب التقليدية المسيطرة على الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري بنخبه وآلته السياسية والإعلامية الطاحنة والتي لن تتواري عن القضاء على أحلام أوباما والجيل الأميركي المفقود
الناشر: الجزيرة نت، 20 فبراير 2008
نص المقال
سر الصراع الشرس والطويل بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة هو أنه يجري بين كيانات أكبر من أوباما وهيلاري بكثير، فهو صراع بين النخب الحاكمة للحزب الديمقراطي من ناحية وللولايات المتحدة الأميركية من ناحية أخرى، بل هو صراع بين الأجيال الأميركية شاء القدر أن يجري داخل أروقة الحزب الديمقراطي في العام الحالي
صراع أجيال
جذور الصراع الحالي تعود إلى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية والتي شهدت خروج أميركا للعالم كقوة عظمى منتصرة ذات إمكانات غير مسبوقة من حيث القوى الاقتصادية والعسكرية، فترة ولد فيها جيل جديد يحكم أميركا حاليا ويمثله سياسيون مثل هيلاري كلينتون (ولدت في عام 1947) وزوجها بيل كلينتون (ولد في عام 1946) وجورج دبليو بوش (ولد في عام 1946)
جيل عرف أميركا في أوج قوتها وهيبتها الدولية ومواردها التي لا تنضب، وسرعان ما انشغل داخليا بصراعات طاحنة كثورة الحقوق المدنية وثورة الشباب الأخلاقية وحرب فيتنام وتبعاتها الكارثية
وهي صراعات قسمت الجيل السابق لفريقين متناحرين لا يتقابلان، يسار جديد توجه للحزب الديمقراطي تقوده الحركات النسوية والنخب الليبرالية المتحررة أخلاقيا والجماعات المعادية للحروب، ويمين ارتمي في حضن أثرياء الجنوب والرافضين لميراث ثورة الحقوق المدنية والمساندين للتشدد العسكري والجماعات المسيحية المتدينة متصاعدة النفوذ
وبدخول السبعينات دخلت أميركا داخليا مرحلة الحروب الثقافية التي شهدت انقساما حزبيا حادا بين الطرفين السابقين وصعودا متناميا في قوي اليمين الأميركي والتي دانت لها السيطرة منذ عام 1980، فبعد أن شهدت فترة ما بين الحربين صعودا مستمرا للحزب الديمقراطي واليسار الأميركي وصل قمته في فترة الستينات الصاخبة بدأ الجمهوريون في تنظيم أنفسهم وتحالفهم الجديد والذي ساهم في عودتهم للسلطة مع ريجان في عام 1980
ويقول البعض أن تأثير ريجان على السياسة الأميركية كان طاغيا إذا استطاع توسيع خيمة الجمهوريين وتحالفاتهم الجماهيرية بتقوية تحالفهم مع الجماعات المتدينة وبتشدده على ساحة السياسة الخارجية مما ساهم في اجتذاب صقور الديمقراطيين والليبراليين كالمحافظين الجدد
ومنذ عام 1980 لم يحكم أميركا رئيس ديمقراطي سوى بيل كلينتون، والذي حكم أميركا لثمانية سنوات فشل بعدها في الدفع بنائبه آل جور لسدة الحكم، ويقول البعض أن حكم كلينتون لم يكن سوى تأكيد لسيطرة الجمهوريين، ففي عام 1994 وبعد تولي كلينتون الرئاسة بعامين فقط منى الديمقراطيون بهزيمة ساحقة في مجلس النواب أدت إلى وقوعه تحت سيطرة الجمهوريين بنسبة كبيرة (فارق 25 مقعدا) عن الديمقراطيين، كما مال كلينتون كرئيس لليمين بتركيزه على قضايا مثل الحد من الإنفاق الحكومي وتشجيع التجارة الدولية وتنشيط دور أميركا في التدخل العسكري في حل الصراعات الدولية عبر العالم
ولذلك يري البعض أن الكلينتونية هي صورة انهزامية للمد الليبرالي، صورة يعترف فيها الديمقراطيون بسيطرة الجمهوريين الساحقة على مجريات السياسية الأميركية وبأن ليس أمامهم سوى المهادنة والميل لليمين قليلا أو لما يسمى بيمين الوسط لعلهم يتمكنون من الفوز بأصوات المعتدلين الجمهوريين وتقديم الأجندة الديمقراطية الليبرالية على استحياء بعض سنتيمترات إلى الأمام
ويرى الكثيرون أن هيلاري وريثة الكلينتونية الشرعية خاصة وأن خطابها تعتليه مسحات واضحة من التشدد خاصة على الساحة الخارجية، كما أن خطابها الداخلي ليبرالي متحزب بشكل واضح ومستعد بشراسة لمهاجمة الجمهوريين وإذاقتهم مرارة الهزيمة السياسية وتلقينهم أحد دروس فترة الحروب الثقافية، وهي حرب تشبه حرب الخنادق، والتي تعتمد بالأساس على إستراتيجية الكر والفر وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو قبل العودة للتخندق من جديد وبأقصى سرعة
عصر الحروب المفتوحة
ولكن البعض يرى أن إستراتيجية هيلاري والتي تعكس عقلية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية والمؤمنين بالكلينتونية في الحزب الديمقراطي لم تعد صالحة للفترة الحالية، بل أنها باتت معزولة عن حقيقة التحولات الكبرى التي تعصف بالحزبين الجمهوري والديمقراطي والسياسية الأميركية حاليا
حيث يرى هؤلاء أن أخطاء جورج دبليو بوش الكارثية خاصة في العراق أدخلت السياسة الأميركية في عصر جديد من الصراعات السياسية يمكن تسميته بعصر الحرب المفتوحة
فعلى مدى سنوات حكمه دافع بوش بقوة عن أجندة النخب الحاكمة للحزب الجمهوري وهي أجندة تقوم على خدمة أثرياء الجنوب والبروتستانت التبشيريين والجماهير اليمينية الأكثر تشددا من خلال إفساح المجال أمام شركات الطاقة الأميركية للعمل بلا قيود، وخفض الضرائب على الأثرياء، والتشدد العسكري على الساحة الخارجية، والميل لليمين الأخلاقي والديني على الساحة الداخلية
ويقول البعض أن الأخطاء الكبرى التي ارتكبها بوش في إدارة أميركا وحرب العراق أضرت ضررا بالغا بأجندة النخب السابقة والتي بات ينظر إليها على أنها نخب غير أمينة ولا تتمتع بالكفاءة اللازمة ناهيك عن المصداقية لقيادة أميركا
ونتيجة لذلك بات على تلك النخب أن تفسح المجال لفئتين، أولهما فئة النخب الاقتصادية والثقافية الجديدة المتصاعدة منذ أوائل التسعينات وخاصة أثرياء قطاع التكنولوجيا والخدمات المالية وصناعة الترفية، وهي نخب تنتمي لعصر ما بعد التصنيع أو ما بعد الحداثة وتحمل أفكار وتطلعات مختلفة إلى حد كبير عن أثرياء الجنوب والطاقة المسيطرين على الحزب الجمهوري
فنخب التكنولوجيا والترفيه والخدمات المالية نخب ثرية باتت تتمتع بنفوذ مالي وسياسي كبير يسعى أوباما وهيلاري وجون ماكين لحصده، نخب تميل أكثر لليسار، كما أنها أيضا تؤمن بأفكار جديدة فهي أقل تشددا من الناحية الحزبية، فهي أكثر إيمانا بقضايا كالبيئة وتحسين التعليم والحالة العامة للاقتصاد الأميركي وصورة أميركا عبر العالم وأكثر انجذابا للخطاب السياسي الأكثر رقيا وذكاء كخطاب أوباما
أما الفئة الثانية فهي الفئة التي تعرف بالجيل الأميركي المفقود وهم الجيل الأميركي الذي ولد بين عامي 1961 و1976 كما يحدده البعض، وهو جيل لم يعش صراعات الستينات، كما أنه ترعرع في ظرف أقل ثراء من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث واجه الجيل الأميركي المفقود مشاكل ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وتردي المدارس الحكومية وانشغال الساسة الأميركيين بالصراعات الحزبية والسياسية
لذا لا يرى هذا الجيل أنه ممثل سياسيا، كما يرفض سياسات جيل هيلاري وبيل كلينتون وجورج بوش والتي يرى أنها سياسات حزبية مؤلدجة تهمل قضاياه
ويقول البعض أن هذا الجيل ظل ضائعا مهملا ومنعزلا حتى دفعته أحداث 11-9 للمشاركة، ونظرا لعدم حزبيته مال لبوش واليمين في البداية ثم شعر بتطرفه فعاد وانقلب على اليمين ومال بشكل أكبر لليسار، وبات يبحث عن ممثل له في الانتخابات القادمة مستفيدا من قوته المتصاعدة، والتي تعود لإتقانه استخدام الإنترنت وأدوات الاتصال الحديثة مقارنة بالجيل القديم، وهي تقنيات باتت ذات قدرة كبيرة على جمع التبرعات وحشد تأييد الرأي العام في الانتخابات
الملهم المنتظر
ويرى المتابعون أن صعود النخب الجديدة وأخطاء إدارة بوش والتي أدت لهزيمة الجمهوريين الساحقة في انتخابات عام 2006 جعلت ساحة السياسة الأميركية مفتوحة على مصراعيها قابلة لصعود قيادات وأفكار جديدة تعيد تعريف القوى الحاكمة لأميركا
ويلوم الكثيرون على الديمقراطيين عدم استغلالهم الكافي لعصر الحروب السياسية المفتوحة حتى الآن حيث يرى هؤلاء أن الساسة الديمقراطيين مازالوا يعيشون بعقلية حروب الخنادق والكر والفر والتي أدت إلى هزيمتهم في انتخابات عام 2004 حين حاول جون كيري مواجهة جورج دبليو بوش بأجندة باهتة لا هي ليبرالية منفتحة ولا يمينية متشددة مما أدى لهزيمته
كما يرى هؤلاء أن انتصار الديمقراطيين في انتخابات عام 2006 لم يكن نتيجة لأفكار جديدة أو قيادات متميزة قدموها فغالبية الأميركيين تجهل أسماء قيادات الديمقراطيين في الكونجرس، وحتى باراك أوباما ذاته لا يمتلك الصيت الكافي لدى الشعب الأميركي، ولعل هذا سبب تفوق هيلاري عليه في بعض جولات السباق فهي أشهر منه على المستوى الأميركي
لذا لم ينتخب الأميركيون الديمقراطيين في عام 2006 بقدر ما أرادوا إسقاط الجمهوريين، مما يترك انتخابات العام الحالي مفتوحة أمام جميع الاحتمالات
وفي ظل هذا السياق يصور البعض أوباما على أن المنقذ المنتظر والرجل القادر على قيادة الحزب الجمهوري في ساحة الحروب المفتوحة وإلحاق هزيمة ضخمة بالجمهوريين تعيد تعريف حدودهم السياسة وتعيد بناء القواعد الجماهيرية للحزب الديمقراطي
ويرى هؤلاء أن هيلاري سوف تعجز عن القيام بتلك المهمة بحكم أنها معروفة بحزبيتها وحدتها الكفيلة بتوحيد الجمهوريين ضدها
أحلام أوباما
أما أوباما فهو مختلف كثيرا، فهو معروف بخطابه الذي يركز على الوحدة ويرفض الانقسام، وبحديثه الخلاق الجذاب القادر على إقناع الكثيرين، وبتوجهاته السياسية الليبرالية على الساحة الخارجية مقارنة يهيلاري التي أيدت حرب العراق وتميل للتشدد مما يجعل أوباما أكثر قدرة على جذب أصوات الجماعات الرافضة للحرب، كما أن أوباما يميل لليمين وللتوجهات المحافظة على الساحة الداخلية مقارنة بهيلاري فأوباما أكثر تدينا ومحافظة منها مما يجعله أكثر قدرة على اجتذاب أصوات المتدينين والجمهوريين المعتدلين
كما أن أوباما المولود في عام 1961 ينتمي للجيل الأميركي المفقود الذي مازال يبحث عن أحد يمثله، ولو تم انتخابه من قبل الديمقراطيين فسوف يساعد الحزب الديمقراطي على الفوز بأصوات هذا الجيل في الانتخابات الرئاسية، وسوف يكون في حالة فوزه بالرئاسة الأميركية في نوفمبر المقبل أول رئيس أميركي ينتمي لهذا الجيل ويعبر عن قضاياه بعد سيطرة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على السياسة الأميركية منذ عام 1992
كما أن أوباما يخوض الانتخابات بإستراتيجية جديدة تميزه عن هاورد دين الذي هزمه جون كيري في انتخابات عام 2004، وذلك لأن دين – الذي حقق نجاحا كبيرا قبل هزيمته - قدم نفسه على أنه صوت من لا صوت لهم في الحزب الديمقراطي كما أستطاع بناء حركة سياسية باتت مؤثرة في الحزب الديمقراطي وهو نفس الشيء الذي يفعله أوباما حاليا فهو يجذب إليه أصوات جديدة لم تصوت من قبل، ولكن أوباما حرص على آلا يقع في أخطاء هاورد دين والذي بالغ في يساريته بشكل قلص قواعده الجماهيرية، أما أوباما فيحرص على تقديم نفسه كرجل يحلم بتوحيد أميركا وتخطي الفوارق السياسية والعنصرية
ولكن هناك من يخشى على أوباما وأحلامه، فالنخب الصاعدة في أفق الحزب الديمقراطي نخب ثرية قد لا تهتم بأجندة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كما أن أوباما قليل الخبرة ولا يمتلك سوى خطابه الرائع وأحلامه بتخطي الفوارق الاقتصادية والعنصرية والسياسية في أميركا، وهناك من يخشى من أن تستغل القوى الرافضة للتغيير في أميركا خطاب أوباما وأحلامه كدليل في حل ذاتها على تخطي تلك الفوارق دون إعطاء أوباما فرصة للتغيير الحقيقي، فلكي يحقق أوباما أحلامه عليه مواجهة النخب التقليدية المسيطرة على الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري بنخبه وآلته السياسية والإعلامية الطاحنة والتي لن تتواري عن القضاء على أحلام أوباما والجيل الأميركي المفقود