علاء بيومي
كتبت مؤخرا مقالا أشكر فيها د. محمد البرادعي على دوره في دعم الثورة المصرية، ولفت انتباهي حجم الردود التي تلقيتها، والتي كانت مليئة بالآراء القوية في تأييد ومعارضة البرادعي على حد سواء.
البعض رأي شكره مقدرا دوره في دعم الثورة المصرية. البعض تمنى أن يصير البرادعي رئيسا لمصر.
في المقابل، رفض آخرون البرادعي بقوة ورأى بعضهم أنه دخيل يحمل أجندة أميركية.
عموما لم أكتب مقالي دعما للبرادعي رئيسا لمصر، وإنما كتبته لشكره على ما قام به حتى الآن وهو كثير من وجهة نظري، وأؤيد من اقترحوا فكرة البحث عن رئيس شاب لمصر، وأتمنى أن تعثر مصر على مثل هذا الرئيس.
المهم هنا أن قضية البرادعي التي تثير الجدل كلما طرحت تشير إلى ظاهرة هامة، وهي توحد المصريين على نقد النظام السابق واختلافهم بخصوص المستقبل وطرح البديل الإيجابي.
فالواضح أن المعارضة المصرية مقسمة، والمجمع المدني المصري عاني من سنوات من التهميش والقهر، ووسائل الإعلام المصرية منقسمة بين الحكومي والمستقل والمعارض، ونشطاء المجتمع المصري غير موحدين.
ولكن هذا كله بدأ يتغير والثورة أعطت المصريين جميعا روحا جديدة، فالمجتمع المدني يبدو أقوى مما تصورنا، ووسائل الإعلام الجديدة تغلبت على الإعلام الرسمي البائس، والشباب يملئون مصر بروح جديدة.
لذا أتمنى أن يتبنى البرادعي والوفد واليسار والإخوان وشباب الثورة نصيحة متواضعة نرى أنها ضرورية.
كل هؤلاء وكل من يتمنى المشاركة في الحياة السياسية المصرية يحتاج لأداة سياسية هامة توجد في أي دولة ديمقراطية، وهي تكاد تكون الحلقة المفقودة في مصر.
فقد عرفت مصر نموا ملحوظا لوسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، وهناك عدد لا يستهان به من منظمات المجتمع المدني التي في حاجة لإحصاء وللتوعية بدورها الهام، وهناك عددا لا بأس به من الأحزاب والجماعات السياسية التي نتوقع لها النمو الكبير في الفترة المقبلة.
وإذا تصورنا أن بعض تلك الجماعات قد تصل البرلمان المصري الجديد أو الحكومة الجديدة، فأن تلك الجماعات لن تستطيع بناء مصر ديمقراطية اعتمادا فقط على قواعدها الجماهيرية وأذرعها الإعلامية وممثليها في الحكومة والبرلمان.
ومن جرب العمل الإعلامي والسياسي في دولة ديمقراطية يدرك أن هناك حلقة مفقودة مهمة تحتاجها مصر.
فالإعلام قصير الذاكرة، يتحرك بسرعة بين الأحداث والوقائع بشكل يصيب القارئ غير المتخصص بالارتباك في كثير من الأحيان، أما القارئ المتخصص فيحتاج لسنوات من المتابعة لفرز الحقيقة عن الباطل.
فالإعلام اليوم مهتم بمصر، وغدا مهتم بليبيا، وبعد شهر قد يهتم بخبر فني أو رياضي، والصحفي بطبيعته مطالب بالجري وراء الأحداث ووقته لا يسمح له بالتعمق في كثير من القضايا.
كما أن الإعلام لا يصنع الأخبار، من يصنعها هم السياسيون ومنظمات المجتمع المدني فهم الأكثر اقترابا من السلطة ومن المجتمع، قادة المجتمع المدني يشعرون بالمشكلة فيقوموا بتصعيدها للإعلام والذي يخاطب السياسيين، وبعد صناعة السياسيات ووصول نتائجها للمجتمعات تبدأ حلقة جديدة من الفعل ورد الفعل.
لكن لكي تتم هذه العمليات بنجاح يجب أن يكون هناك منظمات تحتفظ بذاكرة السياسة والسياسات والسياسيين والمجتمع في مصر، منظمات تراقب ما يقوله الإعلام والسياسيون وتزود الإعلام برؤى عميقة، والسياسيين بسياسات جاهزة، والمجتمع المدني بحجج قوية لقبول أو رفض ما يحدث.
هذه المنظمات تعرف باسم "مراكز الأبحاث".
فالمصريون الآن منقسمون حول البرادعي والأحزاب وعمرو موسي والإخوان وتركة مبارك وبقايا النظام المتلونة.
وكنا نأمل أن تكون هناك مراكز أبحاث تابعة للجمعية المصرية للتغيير والأحزاب المصرية المختلفة والإخوان وشباب الثورة تزودنا سريعا بالوثائق والبحوث والدراسات التي تدعم وجهة نظر تلك الجماعات.
نتمنى أن تكون هناك مراكز أبحاث تابعة لكل جماعة سياسية مصرية تراقب ما ينشر عنها وما يثار بالمجتمع من جدل سياسي وترد عليه من خلال خبراءها، من خلال باحثيها، من خلال دراساتها التي تدفعك للتوقف والإنصات وإعادة التفكير وربما الصمت لفترة طويلة حتى تقرأ وتفكر في الرد.
أما أن يتحول الجدل السياسي في مصر إلى سباق إعلامي مكتوب ومرئي وعلى صفحات الفيس بوك وتويتر، فهو أمر مفيد على المستوى القصير لأنه يساعد في نشر الوعي وتشكيل الرأي العام بسرعة فائقة، أمام على المستوى البعيد - أو حتى المتوسط - فأن الأمر يتحول إلى ضوضاء مضنية وإزعاج وربما صداع مزمن يهرب منه المواطن العادي.
وهذا لا يعني أن مصر تخلو من الباحثين الكبار والأكاديميين الرائعين، فجريدة الأهرام – على سبيل المثال - مليئة بكوكبة من الباحثين المصريين، والبعض منهم لعب دورا هاما في دعم الثورة المصرية، كما أن جامعات مصر مليئة بالأساتذة الكبار في شتى العلوم الاجتماعية.
ولكننا لا نبحث عن باحثين أو أكاديميين كبار، نحن نبحث عن شيء أخر وهو مراكز أبحاث سياسية، وهي تعني ما يلي:
أولا: نحن نتحدث عن منظمات لا أفراد، منظمات بحثية يقوم عليها جماعات وأجيال من الباحثين، منظمات ذات أذرع سياسية وإعلامية تقف بجوار كتلها السياسية وتروج لها وتدافع عنها، فلا يكفي أن يكون لديك كاتب أو عدة كتاب، أو باحث هنا ومفكر هناك، فالجماعات السياسية تحتاج مؤسسات بحثية مستقرة تعمل كذراع فكري قوي لتلك الجماعات لا تقل قوة عن الأذرع السياسية والإعلامية.
ثانيا: نحن نتحدث عن أبحاث سياسية لا كتب أكاديمية أو مقالات صحفية، أبحاث تتفاعل مع الواقع وتوصفه وترتقي به، تصدر سريعا وترد على الإعلام والخصوم السياسيين.
فأصغر كتاب يحتاج شهورا لإعداده ثم إصداره، والمقال الصحفي يخاطب العاطفة، وفي المقابل مؤسسات البحث السياسية تستعد دائما بالدراسات ثم تصدرها في صورة سيل من المقالات البحثية القصيرة للصحف ووسائل الإعلام.
ثالثا: نحن نتحدث منظمات بحثية تنصح أعضاء كتلتها بالبرلمان وتراقب السياسات والإعلام وتبحث في خلفيات القادة وتزود الإعلام بالخبراء.
بمعنى أخر نحن بحاجة إلى مركز معلومات سياسية راقي يرتبط بكل جماعة سياسية ويدفعها إلى الأمام.
وجود مثل تلك المراكز ضرورة للدفاع عن صورة أي تكتل سياسي وبلورة سياسته وتحديث خاطبه والترويج لسياسيه بشكل يركز على الجوهر لا المظهر.
وللأسف غياب تلك الجماعات يعني حصر الجدل السياسي حول الأشخاص وحول العناوين الرئيسية والأفكار النمطية السابقة وصفحات الفيس بوك وسطور التويتر بلا عمق ولا قدرة على تحويل رخم الرأي العام إلى قوة دفع سياسية ناضجة، والله أعلم.